15-فبراير-2023
أمن تونسي

رافقت حملة الإيقافات عدة خروقات قانونية بحسب المحامين (صورة توضيحية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

انطلقت الأجهزة الأمنية، بدءًا من نهاية الأسبوع المنقضي، في عملية مداهمات ليلية لمساكن عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية بغاية إيقافهم وتفتيش منازلهم. وشملت الحملة، حتى الآن، كلًّا من الناشطين السياسين خيّام التركي ولزهر العكرمي، والناشط والقيادي السابق في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي، ورجل الأعمال كمال اللطيف، ونائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري، ومدير عام إذاعة "موزاييك" نور الدين بوطار، والناشط والنائب السابق وليد الجلاد، والقاضيين المعفيين الطيب راشد والبشير العكرمي. لم تعلن أي جهة رسمية، قضائية كانت أو أمنية، موضوع الملفات محلّ تتبع الموقوفين، ليتبيّن تباعًا بحسب تصريحات المحامين أنّ الحملة وإن كانت متزامنة في التوقيت، فإنها تعلقت بقضايا مختلفة دون رابط بينها.

عزّزت حملة الإيقافات وما رافقها من خروقات قانونية، المخاوف حول تردّي الوضع الحقوقي في تونس بعد 25 جويلية 2021، وبالخصوص تصاعد استهداف الشخصيات المعارضة للرئيس

عزّزت هذه الحملة وما رافقها من خروقات قانونية بحسب المحامين، وتباعًا بحسب ما كشفته التهم الموجهة لعدد من الموقوفين، دون لاحقًا عن تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيّد التي كانت متناقضة حول أسباب الإيقافات، المخاوف حول تردّي الوضع الحقوقي في تونس بعد 25 جويلية/ يوليو 2021، وبالخصوص تصاعد استهداف الشخصيات المعارضة للرئيس عبر توظيف الأجهزة الأمنية، وفي سياق تراجع ضمانات استقلالية القضاء والمساس من مقومات المحاكمة العادلة.

  •  خروقات قانونية وضبابية حول "التهم"

الخيط الجامع بين جميع الإيقافات الأخيرة، إضافة لعنصر التزامن، هو أنها تمت بالطريقة نفسها، وذلك عبر قيام عناصر أمنية بمداهمة مساكن الشخصيات المعنية وتفتيشها، بما أعطى انطباعًا حول خطورة شديدة للجرائم من جهة، والصبغة الاستعجالية للإيقاف من جهة أخرى، وذلك بدل اتباع المسار الإجرائي الطبيعي وهو توجيه استدعاءات قانونية للمظنون فيهم. رافقت هذه "العملية الأمنية" خروقات تمثلت في استعمال العنف تجاه عدد من الشخصيات المعنية وحتى أفراد عائلاتهم، على غرار ما ورد بتصريحات هيئة الدفاع عن نائب رئيس حركة النهضة نورالدين البحيري، الذي تعرض لكسر في كتفه استلزم قيامه بعملية جراحية. كما لم يتم الإدلاء، بشكل واضح، بأذون النيابة العمومية للتفتيش، مع حرمان المحامين وعائلات المعنيين من المعلومة الرسمية خاصة خلال نهاية الأسبوع حول جهة احتجاز المعنيين أو أسباب ذلك.

الخيط الجامع بين جميع الإيقافات الأخيرة، إضافة لعنصر التزامن، هو أنها تمت بالطريقة نفسها، عبر قيام الأمن بمداهمة المساكن وتفتيشها، بدل توجيه استدعاءات قانونية للمظنون فيهم

لاحقًا، بدأت تتبيّن الصورة. تم إيقاف كل من خيّام التركي وعبد الحميد الجلاصي من أجل شبهات ارتكابهم لجرائم تهمّ أمن الدولة الداخلي كشبهة الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة والتآمر على أمن الدولة، وذلك على خلفية لقاءات جمعت أطرافًا سياسية ومدنية بخصوص الأزمة السياسية بحسب المحامين الذين تم حرمانهم من الاتصال بمنوبيهم لمدة 48 ساعة، وصورة الحرمان لا تتعلق قانونًا إلا بالقضايا الإرهابية. أما مدير عام "موزاييك" الذي تم الاحتفاظ به بدوره، فقد أعلنت محاميته عدم توجيه أي تهمة له خلال استجوابه، مبيّنة أن الأسئلة التي واجهها تعلقت بإدراته للإذاعة وتمويلها وكيفية تسييرها وبالخصوص جهة تحديد خطها التحريري. 

وفيما يتعلق بالبحيري، أصدر قاضي التحقيق بطاقة إيداع بحقه في ملف انطلق بوشاية أمنية للنيابة العمومية حول منشور فيسبوكي يعود لتاريخ 8 جانفي/ يناير 2022 دعا فيه البحيري للإطاحة بسعيّد. فيما تم إيقاف وكيل الجمهورية السابق البشير العكرمي على خلفية شكاية من أمنيين ضده في علاقة بملف الحادثة الإرهابية بمتحف باردو عام 2015 حينما كان العكرمي يشغل خطة قاضي التحقيق، وذلك بحسب تصريح عميد المحامين السابق عبد الرزاق الكيلاني. لم يتبيّن بعد الملف القضائي المتعلق برجل الأعمال كمال اللطيف، فيما كشفت مصادر إعلامية أن إيقاف كل من الرئيس السابق لمحكمة التعقيب الطيب راشد والنائب السابق وليد الجلاد يتعلق بقضايا فساد مالي.

رافقت هذه "العملية الأمنية" خروقات تمثلت في استعمال العنف تجاه عدد من الشخصيات التي وقع إيقافها وحتى أفراد عائلاتهم

المحامي سمير ديلو أكد تسجيل خروقات جسيمة مبينًا، في علاقة بملف التآمر على أمن الدولة، أنه تم حجز حواسيب وهواتف الموقوفين وعدد من أفراد عائلاتهم، وأن من بين المحجوزات "بطاقات زيارة"، مؤكدًا أن أعمال التفتيش والحجز لم تتم في إطار قضايا، بل لفبركة قضايا بحسب تأكيده، خلال الندوة الصحفية لجبهة الخلاص الوطني بتاريخ 15 فيفري/ شباط 2023. وأوضح أن ملف هذه القضية يصح تسميته بـ"ملف القهوة" على اعتبار أن الأبحاث تتعلق بكل من احتسى قهوة مع الناشط السياسي خيّام التركي بالخصوص. 

  • سعيّد.. خطاب مؤامراتي مع تصريحات متناقضة حول الإيقافات

أكد رئيس الدولة قيس سعيّد، لدى استقباله وزيرة التجارة المعينة حديثًا صبيحة الثلاثاء 14 فيفري/ شباط 2022، أن الإيقافات شملت من هو متورّط في احتكار المواد الأساسية والترفيع في الأسعار، والحال أن تصريحات المحامين عن الموقوفين بيّنت أن التهم الموجّهة حتى الآن لا تشمل هكذا مسألة. توجّه سعيّد في اليوم نفسه لسوق باب الفلة، وهو سوق شعبي وسط العاصمة، للاستماع لمشاغل التجار والمواطنين بحسب بلاغ رئاسة الجمهورية. إثر ذلك، نشرت صفحة الرئاسة أن سعيّد توجّه لوزارة الداخلية لمقابلة القيادات الأمنية، دون تسجيل حضور وزير الداخلية توفيق شرف الدين، وتحدّث سعيّد عن أن الموقوفين هم إرهابيين ومؤكدًا أن "التاريخ أثبت قبل المحاكم أنهم مجرمين"، مشيرًا مجددًا لوجود محاولة لاغتياله.

ولم يفوّت سعيّد الفرصة مجددًا لتوجيه الانتقادات للنيابة العمومية ذاكرًا أن الأجهزة الأمنية طلبت الإذن بالإيقافات نهاية الأسبوع، ولكن النيابة طلبت تأجيل ذلك لبداية الأسبوع قبل رضوخها، وهو إقرار من سعيّد على لسانه بحقيقة الوضع القضائي في الأشهر الأخيرة وبالخصوص تغوّل نفوذ الأجهزة الأمنية على حساب الرقابة القضائية. يأتي، في هذا الجانب، استذكار شهادات عدد من القضاة المعفيين، بتاريخ 1 جوان/ يونيو 2022، بأن سبب إعفائهم هو عدم استجابتهم لطلبات أجهزة أمنية للإذن لها بالقيام بمداهمات.

تصريحات الرئيس، من جانب آخر، التي تضمنت شكرًا للقيادات الأمنية على مجهوداتها، تعزّز عناصر خطابه المستقرّ القائم على توجيه الاتهامات للمعارضين باعتبارهم "خونة" و"عملاء" مع ربط ذلك بالتواصل مع جهات أجنبية. كما طغى على خطابه الجزم القاطع بنسبة التهم الموجهة للموقوفين باعتبارها "حقيقة"، وبالخصوص في قضية التآمر على أمن الدولة، وهو ما يعزّز المخاوف بخصوص مدى توفّر ضمانات المحاكمة العادلة، في ظلّ الضغط الرئاسي الموجّه على القضاء التونسي، الذي عرف تراجعًا في استقلاليته طيلة الأشهر الأخيرة انطلاقًا من حلّ المجلس الأعلى للقضاء وصولًا لإعفاء 57 قاضيًا بأمر رئاسي دون تمكينهم من حق الدفاع.

انتقادات سعيّد للنيابة العمومية هو إقرار منه على لسانه بحقيقة الوضع القضائي في الأشهر الأخيرة وبالخصوص تغوّل نفوذ الأجهزة الأمنية على حساب الرقابة القضائية

  • نحو عودة القبضة الأمنية؟

تعدّ حملة الإيقافات الأخيرة مؤشرًا جديدًا على النزوع السلطوي خاصة بما بيّنته ملفات القضايا موضوع التتبعات حتى الآن، وبالخصوص قضية التآمر التي تتمحور حول دور الناشط السياسي خيّام التركي، وهو دور معلوم، لإطلاق مبادرة سياسية لحلّ الأزمة بالبلاد. يعدّ إثارة ملف قضائي بخصوص هكذا دور، وخاصة بما تبيّن من دور متصاعد للأجهزة الأمنية ومحدودية الرقابة القضائية على أعمالها، تصعيدًا في اتجاه تحوّل مواضيع الخلاف السياسي إلى ملفات قضائية تعدّها السلطة لتصفية المعارضين، وبالتالي "أمننة" الساحة السياسية. 

وقد جاءت الإيقافات نهاية الأسبوع الماضي بالخصوص -بعد يوم واحد من اجتماع سعيّد مع وزيرة العدل ليلى جفّال- بما يعزّز حقيقة الضغوطات التي باتت تمارسها وزارة العدل على النيابة العمومية، التي أصبح جزء منها طيّعًا عمليًا بعد حملة "تطهيرها" قبل 9 أشهر، ووجود مناخات خوف في أوساط القضاة أمام قابلية إعفائهم بأمر رئاسي دون حتى المرور بالمجلس الأعلى للقضاء. توجيه رئيس الدولة بمقرّ الداخلية الشكر للقيادات الأمنية مقابل ما اعتبره تقصير النيابة العمومية، يؤكد تصاعد دور أجهزة الداخلية على جميع الأجهزة الأخرى، بما يعيد شبح عودة "القبضة الأمنية" زمن ما قبل الثورة، خاصة وأن الرئيس صرّح في اجتماعه بالأمنيين أنه لا يجوز "التعلّل بالإجراءات لطمس الحقيقة".

توجيه سعيّد بمقرّ الداخلية الشكر للقيادات الأمنية مقابل ما اعتبره تقصير النيابة العمومية، يؤكد تصاعد دور أجهزة الداخلية على جميع الأجهزة الأخرى، بما يعيد شبح عودة "القبضة الأمنية" زمن ما قبل الثورة

في جانب متصّل، أكّد ملف قضية نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري الملاحق بسبب تدوينة على فيسبوك، وهو ملف انطلق بتقرير أمني تم رفعه للنيابة العمومية، السعي للتضييق على ممارسة حرية الرأي والتعبير، خاصة في سياق تواتر إحالات النيابة العمومية، طيلة الفترة الماضية، عبر المرسوم عدد 54 الذي أصدره سعيّد وينصّ على عقوبات مشددّة تصل للسجن لمدة 10 سنوات بعنوان تهم نشر إشاعات أو أخبار زائفة. 

في هذا الإطار، يعدّ إيقاف مدير عام إذاعة "موزاييك" في تونس، التي تقدّم نفسها كالإذاعة الخاصة الأكثر استماعًا في تونس، وبالخصوص بحسب الأسئلة الموجهة إليه من قبل الفرقة الأمنية المتعهدة بملفه، مؤشرًا على النزوع نحو السيطرة على الإعلام. سعيّد نفسه انتقد أداء هذه الإذاعة في تصريح إعلامي على هامش "القمة الفرنكفونية" قبل أسابيع، وتقدّم الإذاعة برنامجًا سياسيًا يوميًا يتضمن عادة فقرة ساخرة توجه نقدًا لأداء رئيس الدولة. في دلالة حول تدهور وضع الحريات الإعلامية بتونس، سبق وأعلنت نقابة الصحفيين التونسيين أنه تم إقصاء عدد من الصحفيين في التلفزة العمومية المتمسكين باستقلالية خطها التحريري من البرمجة، مع تحوّل التلفزة لجهاز بوق دعاية للسلطة في تغييب تام للأصوات المعارضة.

هناك مناخ عامّ يسوده توظيف القضاء والأجهزة الأمنية لضرب الحقوق والحريات، بعنوان "المحاسبة" أمام الجمهور العام

في الختام، شملت الإيقافات شخصيات سياسية وإعلامية وقضائية في ملفات، جلّها أساسًا، في سياق ما تصفه هيئات الدفاع بملفات "مفبركة" بإعداد من أجهزة أمنية بضغط من رئاسة الجمهورية بغاية استهداف الأصوات المعارضة للرئيس، مع تقدير أن بعض الملفات فقط جديّة خاصة تلك المتعلقة بشبهات فساد القاضي المعفى الطيب راشد. وتأتي هذه الإيقافات بعيْد حملة شملت قبل أسبوع عدد من النقابيين، وهو ما يبيّن وجود مناخ عامّ يسوده توظيف القضاء والأجهزة الأمنية لضرب الحقوق والحريات، بعنوان "المحاسبة" أمام الجمهور العام.

جميع المؤشرات اليوم، تبيّن بالخصوص، أن تونس تشهد لحظة تاريخية دقيقة للحفاظ على مكتسبات الثورة وبالخصوص منها حريات الرأي والتعبير والإعلام.