11-مارس-2023
ساحة القصبة بلدية تونس

أعلن قيس سعيّد عن قرار حل المجالس البلدية في إطار  مقاربة البناء القاعدي التي يحاول إرساءها منذ توليه كل السلطات (Frédéric Soltan/Corbis)

مقال رأي 

 

أطلّ الرئيس التونسي قيس سعيّد ككل مرة محاطًا بأعضاء مجلس الوزراء، وبنبرة صوت تشبه تلك الخطب التي تطرق أذن المواطنين ساعات قليلة قبل دق طبول الحرب، ليعلن عن قرار حل المجالس البلدية في إطار  مقاربة البناء القاعدي التي يحاول إرساءها منذ توليه كل السلطات منذ الخامس والعشرين من جويلية/يوليو، ليعلن من خلال هذا القرار  هدم آخر حصون  البناء الديمقراطي الذي كرسه دستور 2014

بعد حلّ قيس سعيّد المجالس البلدية لم يبقَ من الجسم السياسي المؤسساتي الذي أرساه دستور التوافق سوى هيئات إدارية صورية لا يمكن تشبيهها إلا بحالة "الموت السريري"

لم يبقَ من الجسم السياسي المؤسساتي الذي أرساه دستور التوافق سوى هيئات إدارية صورية لا يمكن تشبيهها إلا بحالة "الموت السريري". فبعد أن أغلقت السلطة الحالية البرلمان بمدرعة عسكرية وأعدمت المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وأحاطت إعدامه بمجزرة عزل مروعة، وأفرغت جل الهيئات الدستورية على رأسها هيئة الانتخابات من مهامها، وأوصدت باب هيئة مكافحة الفساد بالأقفال جاء الدور على المجالس البلدية المنتخبة.

 

 

يواصل الرئيس، بصلابة أجهزته الأمنية، تركيز مخطط البناء القاعدي مبهم الملامح والتفاصيل دون أي مبالاة بالنصوص القانونية سابقة الوضع ودون الاهتمام بالأصوات التي تدعوه للتعقل وإيقاف السير نحو المجهول وتستمر المعارضة في إصدار بيانات التنديد والشجب التي لا تمتلك غيرها. 

ويمعن الرئيس ونظامه في التغول نحو هدم البناء المؤسساتي لتونس بإصدار مراسيم أحادية تضبط حدود وشروط المشاركة في المسار الذي رسمه. فبعد حل المجالس البلدية سن الرئيس مراسيم تتعلق بطريقة "تعيين" مجالس محلية جديدة. بالتالي استطاع الرئيس من خلال مسار 25 جويلية/يوليو أن ينسف كامل مسار الانتقال الديمقراطي الذي حلمت به الأجيال السابقة وراهن عليه الجيل الحالي من السياسيين من مختلف مشاربهم. وصار المشهد لا يختلف كثيرًا عمّا قبل ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي.

يمعن الرئيس في التغول نحو هدم البناء المؤسساتي لتونس بإصدار مراسيم أحادية تضبط حدود المشاركة في المسار الذي رسمه، فبعد حل المجالس البلدية سنّ مراسيمًا تتعلق بطريقة "تعيين" مجالس جديدة

كانت المجالس البلدية منذ اعتماد دستور 2014 نقطة فارقة في النظام السياسي التونسي الذي تخلى عن مركزية القرار  وفسح المجال واسعًا عبر مجلة الجماعات المحلية لمبدأ التدبير الحر  دون الحاجة للرجوع إلى وزير لا يغادر مكتبه القابع في بناية من بنايات العاصمة. وكانت هذه المجالس محطة من محطات التنافس السياسي الحقيقي فقد كانت البلديات اختبارًا لقوة الأحزاب في الوصول إلى العمق الشعبي ومحرارًا لاستشراف نتائج الانتخابات التشريعية سنة 2019. 

ومثل جهدها إسنادًا للسلطة المركزية في قضاء شؤون المواطنين وخففت وطأة المطلبية المباشرة، فبعد أن كان المواطن يشتكي ويحتج ضد الحكومة ومجلس النواب صار يتجه لمقر  البلدية بحثًا عن حل لمشاكله، بل وأصبح مشاركًا فاعلًا في صناعة الحل. وهو ما يختلف كل الاختلاف عن الحال الذي يريد الرئيس إرساءه.  فالمجالس المحلية الحالية لن تكون سوى مجالس صورية شأنها شأن بقية المؤسسات التي اعتمدها تصور الدستور الجديد. فلن تحتاج مؤسسات سبر الآراء إلى كثير من الوقت لتستنتج أن نسبة المشاركة في الانتخابات البلدية القادمة لن يتخطى عتبة النسب السابقة الأمر الذي سيعيد الحديث عن خطاب المشروعية الذي يتبناه الرئيس. 

 

 

ولن تستطيع هذه المجالس إحداث أي تغيير لأن انتخابها مبني على أفراد ورؤى شخصية للعمل المحلي وسيكون  تجميعها أمرًا مستحيلًا. ومن الواضح كذلك أنها ستكون دائمًا خاضعة لسلطة تقديرية في حلها لرئيس الجمهورية وأحد أعضاء حكومته كبقية الوظائف في دولة 25. وهو ما سيجعل القرارات أن وجدت قرارات هشة تلغيها جرة قلم وتلغي معها الكيانات التي شرعتها. 

أي فشل آخر يلحق النظام في التعاطي مع مجريات الأحداث ستكون ضربة قاصمة تهدم جزءًا من وجوده وقد تفتح خطوة حل المجالس البلدية الباب أمام خيارين بين دفن الديمقراطية أو إعادة إحيائها مرة أخرى

تعامل المعارضة مع الموضوع لم يختلف كثيرًا عن تعاملها مع كامل المسار، ولم يخرج من سياق بيانات هشة لا تستطيع إحداث فارق وصناعة تغيير على أرض الواقع، لكنها استطاعت أن تتحول إلى نقطة تجميع لقوى مناهضة المسار فرغم اختلاف التصور السياسي العام حول شكل الخروج من الأزمة بين استئناف مسار ما قبل 25 أو إعادة بناء جديد لم يختلف هذه المرة فرقاء المعارضة حول ضرورة وجود المجالس البلدية وضرورة التخلي عن مسار المركزية الذي ترتكز عليه الأنظمة الدكتاتورية عادة. وربما سيكون هذا التحول نقطة ضوء تنضاف إلى نقاط ضوء أخرى لتوحيد مُعارضة تعيد تونس إلى سكة الديمقراطية

وربما ستكون هذه النقطة فخًّا ينصبه النظام لنفسه عكس ما يتصوره دائمًا. فأي فشل آخر يلحق النظام في التعاطي مع مجريات الأحداث ستكون ضربة قاصمة تهدم جزءًا من وجوده وتضيف مسمارًا آخرَ في نعشه الذي لم يبقَ فيه أماكن كثيرة للمسامير. وسيكلفه ثمن الفشل في هذه المحطة الكثير من شعبيته المتآكلة أساسًا وسيقوّي موقف المعارضة التي تراكم يومًا وراء آخر  قوة ميدانية توسعت بشكل متواتر.

خلاصة الحديث أن هذه الخطوة ستفتح الباب أمام خيارين بين دفن للديمقراطية أو إعادة إحيائها مرة أخرى.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"