03-فبراير-2020

كيف تطورت الأمور لتعود فرضية إعادة الانتخابات التشريعية إلى الواجهة؟ (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

منذ حوالي أسبوعين، تحديدًا عندما فشل الحبيب الجملي في الحصول على المصادقة على حكومته، توقع الجميع أن خليفته سيكون أمام مهمة سهلة لتمرير حكومته مهما كان حجم الاختلافات. بُني هذا الموقف بالنظر للانعكاسات الممكنة في حال لم تُمرر حكومة "الشخصية الأقدر التي سيكلفها الرئيس"، إذ أن سقوطها قد يؤدي إلى حل البرلمان التونسي، كما ينص الدستور في فصله 89، وكان بديهيًا أن لا يضحي أي نائب بخسارة كرسي لا ضمانات إلى استعادته في ظل إعادة إجراء الانتخابات التشريعية بأجواء مغايرة وحتى وفق قانون انتخابي قد يتم تعديله.

لكن أيامًا قليلة تلت الإعلان عن إلياس الفخفاخ، كالشخصية الأقدر التي كلفها رئيس الجمهورية لترؤس الحكومة، أثبتت عكس ذلك، وصار الحديث عن شبح سقوط حكومة الفخفاخ متداولاً، كيف تطورت الأمور لتعود فرضية إعادة الانتخابات التشريعية إلى الواجهة؟

  • في البدء كانت النهضة..

بدأ الخلاف حينما أعلن المكلف بتشكيل الحكومة عن ما أسماه "حزامها السياسي" أي الأحزاب التي سيتشاور معها من أجل تكوين الحكومة وأقصى حزب "قلب تونس"، ثاني الأحزاب تمثيلًا داخل البرلمان التونسي (38 نائبًا). لم يتقبل قلب تونس هذا الخيار واعتبر أن "طريقة تكليف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة لم تكن متناسبة مع روح الدستور ومع إرادة أغلب الأحزاب الفائزة والممثلة في البرلمان وأن المسار المعتمد من الفخفاخ سيضرب أسس النظام السياسي المنصوص عليه في الدستور، باعتباره يلغي كامل نتائج الانتخابات التشريعية والحجم البرلماني للأحزاب".

بدأت الأزمة عندما عارضت حركة النهضة بشدة توجه الفخفاخ وطالبت منذ أول اجتماع جمع رئيسها به بحكومة وحدة وطنية مفتوحة أمام الجميع

في الحقيقة، معارضة توجه الفخفاخ لم يقتصر على حزب قلب تونس، ولو اقتصر على هذا الحزب مع دعوات فضفاضة من أحزاب ممثلة بعدد قليل من المقاعد في البرلمان لما كان الأمر مؤثرًا. بدأت الأزمة عندما عارضت حركة النهضة بشدة توجه الفخفاخ وهي أكبر الكتل في البرلمان التونسي (54 نائبًا) وطالبت منذ أول اجتماع جمع رئيسها بالفخفاخ بـ"حكومة وحدة وطنية مفتوحة أمام الجميع، لا تقصي إلا من استثنى نفسه" في إشارة إلى الحزب الدستوري الحر الذي يرفض حتى تكليف الفخفاخ بتشكيل الحكومة. وهنا تحديدًا بدأت تتضح ملامح الأزمة.

في المقابل، تمسك الفخفاخ باختياراته ولم يتراجع بل بررها بأن الأمر لا يتعلق بإقصاء لأي طرف بل أن جميع العائلات السياسية ممثلة في حزام حكومته السياسي، كما قال، وأوضح أن الائتلاف الحكومي الذي اختاره يعكس نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الثاني في إشارة للفوز الساحق الذي حققه قيس سعيّد خلالها وإلى الأطراف السياسية التي أعلنت حينها دعمها له.

يُذكر أن المكونات الرئيسية لهذا الحزام هي التيار الديمقراطي، حركة الشعب، تحيا تونس وحركة النهضة مع مكونات أخرى تشاور معها الفخفاخ لكن تمثيليتها في البرلمان ضعيفة جدًا كأحزاب مشروع تونس، نداء تونس، الاتحاد الشعبي الجمهوري، آفاق تونس والبديل التونسي، والتي لا يبدو أن جزءًا منها يتجه نحو دعم حكومة الفخفاخ وبعضها كان قد قاطع بعض مراحل المشاورات الأخيرة.

لم يتراجع الفخفاخ ولم تتراجع النهضة أيضًا ورغم تطمينات الفخفاخ خلال ندوة صحفية يوم الجمعة الماضي بأن حكومته ستحظى بدعم حوالي 160 نائبًا وأنه على اتفاق في معظم المسائل مع كل الأحزاب السياسية التي يتشاور معها ورغم تأكيده إمضاء الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي يوم السبت على الوثيقة التعاقدية، التي تمثل أهم خطوط برنامج حكومته، إلا  أن الإمضاء لم يحصل بل تم تأجيله.

هل يعتبر الفخفاخ هدفًا للنهضة؟ أم أنها توجه رسائلها لمن يقف خلفه، لمن دعمه ورشحه (تحيا تونس  والتيار الديمقراطي) ولمن آمن به وعيّنه (رئيس الجمهورية قيس سعيّد)؟ هل الصراع الحقيقي هو مع مؤسسة رئاسة الجمهورية؟

صدر عن الفخفاخ أن الإرجاء يأتي بطلب من حركة النهضة بما يسمح لرئيسها بالمشاركة فيه بعد أن تعذر عليه ذلك السبت نظرًا لعودته المتأخرة من السفر، بينما أكدت قيادات من مجلس شورى الحركة أن حركة النهضة طلبت التأجيل إلى حين اجتماع مؤسساتها والنظر في القرارات الصادرة عنها، وقد انعقد فعلاً مساء السبت المكتب التنفيذي لحركة النهضة وجاء عنه "تجديد ​​​​​​​تمسّك الحركة بحكومة وحدة وطنية لا تقصي أيّ طرف وذات حزام سياسي واسع". "لا تراجع".. هذا شعار النهضة والفخفاخ إذًا.. لكن إلى متى؟

تكليف إلياس الفخفاخ من قبل رئيس الجمهورية (الرئاسة التونسية)
تكليف إلياس الفخفاخ من قبل رئيس الجمهورية (الرئاسة التونسية)
  • رسائل النهضة.. ماذا يُخفي التمسك بمشاركة "قلب تونس"؟

خلف تمسك النهضة بحكومة وحدة وطنية لا تقصي قلب تونس، أسئلة عديدة. لما تستميت النهضة في الدفاع عن حق هذا الحزب في المشاركة في الحكومة القادمة وهو الذي "غدر" كما غدر غيره بالحركة الإسلامية عندما رفض منح الثقة لحكومة الجملي؟ هل للنهضة مشكل محدد مع إلياس الفخفاخ؟ هل هي معركة كسر عظام مع الرجل؟

هل يعتبر الفخفاخ هدفًا للنهضة؟ أم أنها توجه رسائلها لمن يقف خلفه، لمن دعمه ورشحه (تحيا تونس  والتيار الديمقراطي) ولمن آمن به وعيّنه (رئيس الجمهورية قيس سعيّد)؟ هل الصراع الحقيقي هو مع مؤسسة رئاسة الجمهورية، التي أخذت عبر هذا التعيين وعبر ما يظهر من ولاء الفخفاخ لها، حظوة وصلاحيات تُقلق حركة النهضة المتوجة بالانتخابات التشريعية، والتي تخشى أن تجد نفسها رغم نتائجها في الانتخابات الأخيرة بعيدة عن سلطات القرار فعليًا؟

لكن خاصة هل تتجه النهضة نحو آخر الطريق عبر الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها خلال أشهر قليلة وحل البرلمان الحالي وما قد يعنيه ذلك من خسارة كرسي رئاسة البرلمان الذي ظفر به رئيسها؟ أم أنها ستكتفي بالضغط إلى أقصى حد لتحسين شروط التفاوض والحصول على تمثيلية جيدة في الحكومة القادمة؟

ربما لم تكن حكومة الجملي منتهى ما كانت تسعى له قيادات الحركة لكن سقوطها كان محرجًا للنهضة التي تحرص على الظهور بصورة الحزب الفائز، الحاكم، والمسيطر على الأحداث في تونس

لا يمكن لمتابع للمشهد السياسي التونسي أن لا يتبين حجم الخيبة التي مُنيت بها حركة النهضة، أو على الأقل جزء فاعل من الحركة، إبان سقوط حكومة الحبيب الجملي. ربما لم تكن حكومة الجملي منتهى ما كانت تسعى له قيادات الحركة لكن سقوطها كان محرجًا للنهضة التي تحرص على الظهور بصورة الحزب الفائز، الحاكم، والمسيطر على الأحداث في تونس. لذلك بدا ضغطها وإحراجها للفخفاخ في علاقة بالتمسك بإشراك "قلب تونس: أقرب بالرسالة الضمنية لكل من دعم الرجل مؤخرًا مفادها  أنها قادرة على إسقاط حكومته كما أسقطوا هم حكومة الجملي.

أما عن حجم الضغط ومدى تواصله، فلا تخلو الصورة من ضبابية ، فلو قدرت حركة النهضة أن تمرر مشروع تعديل القانون الانتخابي بإضافة عتبة بـ5 في المئة وهي التي ستمكنها من ترفيع عدد مقاعدها في البرلمان القادم، فإن فرضية "الضغط إلى الآخر" والقبول بإعادة الانتخابات تبقى قائمة. مشهد برلماني مختلف يمنحها مع "قلب تونس" الأغلبية (109 صوتًا) سيكون المفضل للحركة الإسلامية لخمس سنوات قادمة ويعطي استقرارًا للمشهد السياسي وتوافقًا على شاكلة ما  نتج عن انتخابات 2014 بين النهضة ونداء تونس.

لكن لا ضمانات أن مشروع القانون سيمر داخل المجلس، وإن كان ذلك ممكنًا (أصوات النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة))، ويبقى حينها تخوف قائم من رفض رئيس الجمهورية إمضاءه كما حصل مع مشروع تعديل القانون الانتخابي، الذي قدمته حكومة الشاهد قبل الانتخابات الأخيرة والذي لم يتم إمضاؤه من قبل الرئيس السابق قائد السبسي وبقيت ملابسات ذلك الأمر غامضة إلى اليوم. 

تسعى النهضة لمزيد الضغط واستغلال ضيق المدة الزمنية أمام الفخفاخ، وهو ما يمكنها من هامش تفاوض أوسع للحصول على تمثيلية أفضل في حكومة الفخفاخ ووزارات محددة

لا يمكن أيضًا إخفاء تخوّف جزء من القيادات النهضوية من نتائج انتخابات تشريعية سابقة لأوانها هذه المرة، إذ أن آخر سبر للآراء قدمته شركة سيغما كونساي يُرجح تراجع النهضة إلى المرتبة الثانية خلف قلب تونس إذا أعيدت الانتخابات الآن. كما يُطرح هنا سؤال مفصلي آخر في حال توجهت النهضة نحو هذا الخيار هل يمكن أن تقبل إمكانية ضياع كرسي رئاسة البرلمان؟

فرضية أخرى تبقى قائمة ويرجحها الكثيرون وهي أن النهضة، وعبر تمسكها بإشراك قلب تونس في الحكومة القادمة، تسعى لمزيد الضغط واستغلال ضيق المدة الزمنية أمام الفخفاخ، وهي المقدرة بشهر غير قابل للتمديد وقد مر أكثر من أسبوعين إلى حد الآن. وهو ما يمكن النهضة من هامش تفاوض أوسع للحصول على تمثيلية أفضل في حكومة الفخفاخ ووزارات محددة.

خلال الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية 2019 (أنيس الميلي/ أ.ف.ب)
خلال الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية 2019 (أنيس الميلي/ أ.ف.ب)

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة في حكومة الجملي المقترحة في تونس.. تحدّي نيل ثقة البرلمان

ماذا بعد فشل حكومة الجملي في انتزاع ثقة مجلس النواب؟