23-مارس-2019

حديث جيران السجون عن قصص الرهبة والإثارة (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

حدثنا المواطن رضا رياطة الذي التقيناه عن جاره السّجن:

"أنا ولد حومة الحبس الجديد، حلّينا عينينا على السور العالي وبيبان حديد عمرك ما تراها تتحل.. وما تسمع في قهوة الحومة في باب العلوج كان اليوم جابوا جماعة الانتماء.. البارح هزوا أولاد القابسية للمحكمة.. غدوة الصباح بكري باش يهزو سفاح نابل.. كبرنا مع حكايات الحبس.. لين جاء الوقت ودخلتلو وولّيت أنا بيدي قصة تتحكى في قهوة الحومة".


بهذه الكلمات البسيطة العميقة، يبدأ حديثنا عن قصص جيران السجن، أولئك الذين يفتحون عيونهم صباحًا على أسوار السجن الشاهقة وبوّاباته المهيبة وعسسه اللذين يحيطون بع من كل مكان، وينامون ليلًا على بهر ضوئه الساطعة.

يدخل السجن في علاقة لا مرئية مع جيرانه فتخرج قصص الزنازين من الشقوق وتتسلل أحاسيس السجناء لجيرانهم من خيوط الشمس وهسهسة الرياح. "الترا تونس" حاول نقل بعض هذه القصص.

اقرأ/ي أيضًا: "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

جار سجن 9 أفريل: دخلت السجن من شدّة ولعي بقصصه

رضا رياطة خمسيني بسترة "دنقري" نيلية بالية، هو صانع أقفاص عصافير يبيعها بسوق "المنصف باي" للحيوانات الأليفة والطيور بالعاصمة التونسية كل يوم أحد.

"رياطة"، وهي كناية عن إحدى المسكوكات النحاسية الصلبة التي كانت رائجة إبان الاحتلال الأسباني لتونس، يروي طفولته التي لم تكن عادية بحكم سكناه قبالة أحد أشهر السجون التونسية وهو سجن 9 أفريل الشهير بـ"الحبس الجديد".

نشأ على القصص التي تتسرب من السجن ويلوكها الجيران فتحسن مواهب السرد لديهم، ويستمتع الصغار بتلك القصص التي تخرج من السجن المتجاوزة لمخيالهم الصغير فتتحوّل إلى أساطير.

رضا رياطة (جار سجن 9 أفريل): قررت في فترة شبابي دخول السجن لاكتشاف أسراره والوقوف على تلك القصص التي انطبعت في مخيلي

يروي رضا رياطة لـ"الترا تونس" كيف أنه من شدة ولعه بقصص السجن، قرر في فترة شبابه دخول هذه القلعة المهيبة لاكتشاف أسرارها والوقوف على تلك القصص التي انطبعت في مخيلته صغيرًا.

يقول: "شربت زوز مرناق (نوع من الخمر) في الحومة مع صحابي وخرجت للافيني (الشارع الرئيسي في العاصمة)... شدّني الحاكم (الشرطة) بتهمة السّكر الواضح، نلقى روحي في قلبو (في إشارة للسجن).. وطلعت حكاية أخرى في الحبس لا باندية (فتوّة) تحكم كيف ما يحكيو ولا حتى شيء... لوّجت (بحثت) على البونية متاع علي شوّرب في حيط الشمبرة فلا أثر لها (في إشارة للحديث الشعبي الرائج عن أثر لكمة لواحد من أشهر فتوات تونس بعد الاستقلال قيل إن أثارها لازال موجودة على حائط غرفة السجن)".

جار سجن منوبة: زوجتي أوصدت باب المنزل بـ"مادرية" أيام الثورة       

 جيران السجن كثّر ولكل واحد حكاياته وقصصه مع هذا الجار، فالعمّ الطاهر حواص، وهو معلم متقاعد، يسكن متاخمًا لسجن منوبة. يحدثنا قائلًا: "في البداية لم يكن هذا المكان سجنًا، لقد كان قصرًا لإحدى الأميرات زمن حكم البايات ثم مقرًا لبعض رموز الثورة الجزائرية عند مساندة تونس للجزائر من أجل استقلالها عن فرنسا ليتحول فيما بعد الى سجن في السبعينيات فرُفعت الأسوار وكثُرت الحراسة فأصبح مكانًا غريبًا كأننا لا نعرفه من قبل".

ويضيف عم الطاهر: "لقد قضينا طفولتنا نلعب ونمرح داخل القصر، نقطف حبّات التوت ونتسلق نخله الباسق لكن مع حلول السجن تغيرت الأحوال فأصبحت تأتينا قصص السجينات وخاصة اللائي هزّت قضاياهم الرأي العام".

الطاهر حواص (جار سجن منوبة): سجن منوبة كان قصرًا لإحدى الأميرات زمن البايات ثم مكانًا لبعض رموز الثورة الجزائرية قبل أن يصبح سجنًا في السبعينيات

ومن الطرائف التي رواها العم طاهر باسمًا ثم ضاحكًا أنه عاد في ذات مساء أيام الثورة من المقهى بعد نقاش سياسي مع أصدقائه حول مآلات البلد، فوجد باب منزله الذي لا يبعد سوى أمتار عن سور سجن منوبة محكم الغلق بقطعة خشب كبيرة. طرق الباب فجاءه صوت زوجته من الداخل قائلًا: "يا  الطاهر.. أدخل من الشباك الباب سكرتو من الداخل بمادرية (قطعة خشبية) وحطيت قدامو بنك (سرير).. هام قالو النساء باش يهربو من الحبس الليلة وأنا الحق خايفة عليك". هكذا ردت الزوجة ببساطة بعد سريان شائعات بهروب السجناء من أغلب سجون الجمهورية حينها إبان الثورة.

جار آخر لسجن النّساء بمنوبة التقيناه هو لمجد النّابلي، كهل يشتغل سائقًا لسيارة أجرة بالعاصمة يقول لـ"الترا تونس" إن عائلته تشعر بالأمان لإقامتها قرب السجن على اعتبار وجود الحراسة على مدار الساعة "عندما نتغيب عن المنزل لأي سبب من الأسباب لا نخاف السرقة أو السطو فالسجن يحمينا".

ويضيف: "أحيانا تصلنا القصص من داخل الزنازين حول سجينة حاولت الهرب أو أخرى حاولت الانتحار أو سجينة خطيرة اعتدت على إحدى الحارسات. هي حكايات نتفاعل معها فنحزن لبعضها ونضحك ونستطرف البعض الآخر، كما نتفاعل مع هذه القصص فنتناقش حول بعض القضايا التي هزت المجتمع وأودع مرتكبوها سجننا". ويتذكّر محدثنا، في الأثناء، أن والدته المتوفاة كانت تقدّم خلال فصل الصيف المياه الباردة لطوابير الزيارة كفعل خير عفوي حسب تعبيره.

اقرأ/ي أيضًا: الفرقة الموسيقية ببرج الرومي: صرخة الحرّية لا تحدّها القضبان

جار سجن باجة: لا نستطيع بناء طابق ثان لمنازلنا لأننا جيران السجن!

قصة أخرى من ولاية باجة يرويها لنا أنيس النفزي وهو أستاذ للتعليم الثانوي وجار لسجن باجة الموجود في وسط البلد، يقول إن التدابير الأمنية الخاصة بالسجن باتت تزعج جيرانه "فلا أحد يستطيع بناء الطابق الثاني أو الثالث فوق منزله مما يضطر الابن المتزوج حديثًا لتسوّغ منزل عوض البناء فوق منزل والده" وفق تأكيده.

يضيف، في نفس الإطار، أنه لا يمكن فتح مقاهي أمام السجن في حين يصبح مرور السيارات تحت الرقابة ليلًا لينتهي بالقول إن "وجود السجن في رحابنا حوّل حياتنا إلى جحيم".

أنيس النفزي (جار سجن منوبة): وجود السجن في رحابنا حوّل حياتنا إلى جحيم

أما عن القصص المتأتية من السجن، يقول محدثنا إنها اغرب من الخيال مشيرًا لانتشار إشاعات بأن مجرمين خطرين خططوا للهروب من السجن وقفزوا للحي وهددوا إحدى العائلات طلبًا للاختباء".

ويتحدث، في هذا الصدد، عن رواج إشاعة ذات شتاء حول هروب سجين خطير واختباءه بمنزل الجار، قائلًا إن والده أيقظه من النوم للتجهز مع سكان الحي لإنقاذ الجار من براثن السجين الهارب، وحين طرق باب منزل هذا الجار في عمق الليل إذا به يغط في نوم عميق ولا علم له بالأمر لينفجر الجيران ضحكًا حنى تحولت الحكاية الى قصة طريقة يتداولها أهل الحي دائمًا.

جامعية في علم النفس: السجن في أذهان الناس يعني الإثارة والرهبة

هذه القصص وغيرها التي تنبت من جيرة السجن وخاصة تلك السجون الموجودة في الأحياء أو اللصيقة لها حملناها لأستاذة علم النفس بجامعة 9 أفريل أميرة العروي التي أكدت في بداية حديثها لـ"الترا تونس" أن السجن هو مؤسسة مجتمعية زجريّية يتنزّل وجودها ضمن أطر العدالة التي ابتدعتها الانسانية على مر تاريخها، وأيضًا ضمن فلسفة العنف الذي تملكه الدولة حتى يكون الاجتماع ممكنًا وفق تعبيرها. 

وأضافت الجامعية أنه "عادة ما يشي حضور السّجن في أذهان الناس بالغرابة والإثارة والرهبة وحتى الخوف ولذلك يتسلح جيرانه بالسرد والحكي والنفس الأسطوري حتى يحموا أنفسهم من هذه المؤسسة التي يرونها صباحًا ومساءً".

أميرة العلوي (جامعية في علم النفس): عادة ما يشي حضور السّجن في أذهان الناس بالغرابة والإثارة وحتى الخوف ولذلك يتسلح جيرانه بالحكي حتى يحموا أنفسهم من هذه المؤسسة

وأوضحت أن الإنسان يتأثر بالمحيط الذي ينشأ فيه وعليه من الطبيعي أن يتأثر جيران السجن بهذه المؤسسة لتصبح جزءًا من حياتهم اليومية، مشيرة لاقتحام بعض المصطلحات السجنية إلى الحقل اللغوي الخاص بالجيران. وحذرت أستاذة علم النفس، في هذا الجانب، من الإفراط في الحديث عن قصص السجن وتمجيد السجناء والتحدث عنهم كأبطال وذلك بتحويلهم على غير دراية في ذهن الطفل إلى أيقونات ومراجع.

يحضر السّجن دائمًا كمعنى خفي من معاني الحرية وقد أخذ اتجاهات مختلفة فنية وأدبية واجتماعية ونفسية. وبات للسجن تاريخه وأدبه وغناؤه وقاموسه ونواميسه وأبطاله وقصصه المثيرة، حتى أنّ العديد من السجون في العالم تحولت قصصها وروايات أبطالها من المساجين الخطرين أو الطيبين إلى وثائقيات وأفلام روائية مبهرة.

لكن يبقى السجن مؤسسة موسومة بالريبة والخشية سواء بحضوره المادي في المدن، أو بما تتناقله الألسن عما يحدث داخله، فهو عالم مغلق دائمًا ما يثير الحذر على اعتبار أنه مكانًا للمنحرفين المخالفين للقانون والمتمردين على نواميس المجتمع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أيام قرطاج السينمائية" في السجون.. السينما تجتاح السجن!

عبد الحميد الجلاصي.. حصاد السجن التونسي