01-يونيو-2018

يطرح مسلسل جنون القايلة عديد القضايا عبر اعتماده على الخرافة

راهنت التلفزة الوطنية التونسية منذ السنة الفارطة على مسلسل "جنون القايلة" في برمجتها الرمضانية، ويظهر أنّها كسبت الرهان نوعًا ما إذ تعج مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تصبّ في خانة استحسان هذا العمل التلفزيوني. "يا سادة ويا مادة، ناس الدّيوان دلّونا على طريق الخير والسّعادة، جنون القايلة راجعين، وحكاياتهم بالخير فايضة"، بهذه الكلمات التي تأخذك إلى عالم الطفولة وتذكّرك بحكايات الجدات في المنازل العتيقة انطلقت رحلة الإثارة والمتعة في الجزء الثاني من "جنون القايلة" هذا العام. وقد كانت المدينة العتيقة بأبوابها وأزقّتها التي تعبق منها رائحة التاريخ والأصالة فضاء تواترت فيه أحداث المسلسل وهو من إخراج أمين شيبوب وسيناريو وحوار لعزّة السعيدي.

اقرأ/ي أيضًا: أهم الأعمال التلفزية التونسية في رمضان 2018

وضم المسلسل أجيالًا مختلفة من الشخصيات، الأول جيل يتجسّد في "أمي فاطمة" التي أدت دورها سامية رحيم و"سي الفاضل" الذي يؤدي دوره عبد اللطيف خير الدين، والجيل الثاني تمثله إيمان بدرج في دور "فتحية" وفريال الشماري في دور "لمياء قلب حجر" وحكيم بومسعودي في دور "باسل" ومعز بعطور في دور "الكامل"، والجيل الأخير يمثلّه الأطفال الخمس يوسف سوسية في دور "إلياس" ورنيم عوسجي "ياسمين" ومحمد عزيز خلف الله "وليد" ومحمد عزيز القابسي "سامي" وزينب فخفاخ "إيناس".

وفيما يمثّل الجيل الأول "كبار الحومة" الذين يمتلكون أسرار المدينة العتيقة وأسرار ناس الديوان الذين يمثّلون عصب المسلسل، فإن الأطفال الخمسة أو "جنون القايلة" هم شريان الأحداث النابض.

يبدو السيناريو في الجزء الأول من سلسلة "جنون القايلة" بسيطًا ولكن إذا ما تمحّصنا فيه سنلاحظ أنّه ينتقد غزو التكنولوجيات الحديثة لحياة الإنسان

"جنون القايلة" قصدوا منزل جدّتهم أمي فاطمة مكرهين نظرًا لغياب التكنولوجيات الحديثة عن المنزل فلا هواتف ذكية ولا تلفاز ولا أي شكل من أشكال الحياة العصرية، ففي المنزل المنتصب في قلب المدينة العتيقة لا وسيلة للترفيه عدا الحكايات التي تقصّها الجدّة.

يبدو السيناريو في الجزء الأول من المسلسل بسيطًا ولكن إذا ما تمحّصنا فيه سنلاحظ أنّه ينتقد غزو التكنولوجيات الحديثة لحياة الإنسان وتسبّبها في فتور العلاقات الإنسانية وبرودها، ويسافر بنا إلى حقبة زمنية كانت فيها حكايات الجدّات وسيلة متعة وترفيه.

تململ الأطفال وضيق صدرهم لم يثن أمي فاطمة عن رواية "خرافة من ذهب لا ذكرها كتاب ولا وصفتها كتب سر ما يعلم به حد حكاية أعجب من العجب". وحاولت أن تمرر رسائل غامضة لـ"جنون القايلة" عن مدينة أسوارها عالية ومحمية بأبوابها تمكّن منها الوحوش لكن "ناس الديوان" تصدّوا لهم وحموا المدينة العتيقة.

وباعتماد سياسة الريّ قطرة قطرة، تدسّ أمي فاطمة معلومات عن "ناس الديوان" في حكاياتها وينطلق الأطفال الخمسة في رحلة البحث عن خواتم "ناس الديوان" ذلك أنه تم اختيارهم منذ سنة 1913 ليسيروا على درب أجدادهم ويحاربوا الوحوش ويكونوا صمام أمان المدينة.

والجزء الأوّل من المسلسل انتهى بعثور "جنون القايلة" على الخواتم الخمسة لـ"ناس الديوان" وهي خواتم المعرفة والطيبة والشجاعة والمثابرة والإحساس، وبذلك تحول الأطفال الخمسة إلى مدافعين عن أسوار المدينة وحامين لها من مخطّط "لمياء قلب حجر" التي تسعى إلى هدم منازل المدينة لتنشئ "قلب حجر لاند".

سيناريو مسلسل "جنون القايلة" يطرح ثنائية أزلية هي الخير والشر فالصراع بينهما أزلي ومتجدّد وتختلف تمظهراته من عصر إلى آخر

سيناريو المسلسل يطرح ثنائية أزلية هي الخير والشر فالصراع بينهما أزلي ومتجدّد وتختلف تمظهراته من عصر إلى آخر، وقد توقّف الأطفال في مرحلة ما عن التفكير في وسائل الترفيه والمتعة وانغمسوا في اكتشاف أسرار المدينة العتيقة والنهل من حكايات ناس الديوان وكأنهم أصبحوا أكثر نضجًا وغلّبوا مصلحة المدينة على رغباتهم.

والخواتم الخمسة تمكّن مستعملها من التنقل بسهولة من مكان إلى آخر، وباجتماع الأطفال في الحلقة الأخيرة من الجزء الأول وترديدهم "يا مدينتي نحميك بروحي وقلبي" سافروا عبر الزمن وعادوا إلى سنة 1951.

أطفال قادمون من عام 2018 يعود بهم الزمن أدراجه إلى الوراء فبدت الألوان وهيئات الأشخاص ولهجتهم وأكلاتهم مختلفة عنهم، ويستشف المتفرّج الاختلاف في الأزمنة من خلال دهشة إسكندر الطرودي الذي قام بدور "سي الشريف" زوج أمي فاطمة وجدّ "جنون القايلة" وخوفه من هيئة أحفاده.

وحافظ الجزء الثاني من المسلسل على خاصية الحديث عن تاريخ المدينة العتيقة ومعالمها عن طريق الأطفال بمعلومات بسيطة وسهلة الفهم.

وأنت تشاهد المسلسل بعد الإفطار، تسري بك الأحداث إلى عوالم أخرى، إلى عالم الطفولة حيث الذكريات التي تتعتّق بمرور الزمن، وتعرج إلى ما وراء أبواب الزمن حيث لا ولي ولا سيد على خيالك الذي تلهبه أحداث المسلسل المشوقة.

فقط تخيّل أنّ الزمن عاد بك إلى الوراء وعشت أيامًا مع جدّك وهو في سن الطفولة ورأيت والده "سي رؤوف" الذي يؤدي دوره محمد علي بن جمعة، تخيّل للحظة أنّك تعيش في فترة ما قبل الاستقلال، تخيل أنّه لا توجد مجلّة أحوال شخصية تضمن حقوق المرأة، كل هذه المسائل التي تراود أخيلتنا أثارها مسلسل جنون القايلة.

وبأسلوب مزج بين الهزل والجد وما بينهما من إثارة وتشويق، تمكّن الأطفال من الإقناع بدورهم خاصة فيما يتعلّق بتعاملهم مع جدّهم الذي كان بنفس عمرهم في ظل التباين في أساليب الحياة. ولإضفاء لمسة من العجائبية على المسلسل ركن المخرج إلى المؤثرات البصرية في علاقة "بنفس المدينة" الذي صدر عن الخواتم في شكل أضواء تختلف ألوانها باختلاف الخواتم والذي استعمله الأطفال في ملاحقة الوحوش الصغار الذي خرجوا من مخابئهم ليهيئوا الفضاء لخروج زعيمهم "غضوم".

اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟

مسلسل جنون القايلة وإن كان في ظاهره "خرافة" فإنه في باطنه مفخّخ بالنقد لعدّة ظواهر اجتماعية وثقافية

وفي سفرهم عبر الزمن لم ينفك الأطفال يستفسرون عن "ناس الديوان" وعن أسرارهم وطرق مواجهتهم للوحوش وقد كان لهم "سي رؤوف" والد جدّهم سندًا ومرشدًا، لكنهم كانوا يواجهون مشكلة تتمثل في كونهم عالقين في زمن آخر ولا حل لعودتهم خاصة وأن "ناس الديوان" في تلك الفترة كانوا مشغولين في معركة مع الوحوش. في الطرف الآخر من الزمن كانت أمي فاطمة وسي الفاضل، وهو خليل ناس الديوان وحافظ أسرارهم وعلمهم، يبحثون عن طريقة لفتح باب الزمان، لم تتردّد الجدّة كثيرًا وتحدّت الزمن وعادت إلى الوراء معرّضة حياتها إلى الخطر.

يعود "جنون القايلة" إلى حضن المدينة العتيقة محملين بذكريات الصبي جدّهم وما تعلّموه من فنون القتال كالقدرة على التجميد واستعمال "نفس المدينة"، في الأثناء تشرع "قلب حجر" في هدم منازل المدينة ويساعدها الوحوش الصغار في ذلك وتتدهور صحة أمي فاطمة وتتهيأ للرحيل. ولا يستسلم الأطفال ويعودون إلى المكتب السري لناس الديوان فيعثرون عبر خاتم الإحساس على وصفة تركها سي رؤوف لأمي فاطمة لأنه كان يعلم أنه ستفارق الحياة بعد أن تحدّت الزمن، وبمفعول السائل السحري وقوة الخواتم تبعث أمي فاطمة حية من جديد.

ويواصل "جنون القايلة" تمرير رسائل قيمية منها الإيثار وإعلاء المصلحة الجماعية على المصلحة الشخصية والتضحية. والمسلسل وإن كان في ظاهره "خرافة" وضربًا من الخيال فإنه في باطنه مفخّخ بالنقد لعدّة ظواهر اجتماعية وثقافية، ويثير البرود في العلاقات الأسرية وصراع الأجيال والحفاظ على الموروث الثقافي والمعماري من خلال تصوير فظاعة وبشاعة هدم منازل المدينة العتيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أَوَخِّي، لَمَكِنْتِي ووْاشِي.. حين تصبح لهجة الأرياف مادة للإضحاك

"يوسف الصديق" باللهجة التونسية.. التونسيون بين رافض ومرحّب