05-ديسمبر-2019

احتجاجات اجتماعية للمطالبة بالتنمية والتشغيل لسكان المدينة المهمّشة (صورة أرشيفية/ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

لمن لا يعرف جلمة، هي قرية في ولاية سيدي بوزيد، يدرّ باطنها الماء لكنّ أهلها عطاشى، جلمة بلا مستشفى جهوي ولا منطقة صناعية، ولا منطقة خضراء تؤمّها الأعين لعلّها تشيح عن واقع يوشّحه التهميش والتفقير.

في الطريق إلى جلمة، يلف الضباب الأفق، في مشهد يحاكي سحب الغاز المسيل للدموع التي غمرت أحياء جلمة في الحراك الاحتجاجي الأخير، حراك أحياه انتحار الشاب عبد الوهاب الحبلاني حرقًا بعد أن قنط من نيل حقّه.

 تبكي السماء في جلمة كأنها تواسي الأم الثكلى التي فقدت وحيدًا خانه صبره وسدّت أمامه كل المنافذ وهو الذي لم يتقاض راتبه من الآلية 16 لمدة سنة وثمانية أشهر، لتتراكم ديونه ويكون الانتحار سبيله الأوحد

في الأفق ضباب وفي الواقع ضبابية تجعل المشهد في جلمة مقلقًا، جلمة التي اكتست طرقاتها بسواد ناجم عن حرق العجلات المطاطية احتجاجًا على انتحار ابنها، احتجاجات يبدو أنّها ستتّخذ منحى تصعيديًا في حال لم تستجب السلطات المعنية لمطالب المحتجين.

مواجهات بين المحتجين والأمنيين منذ الجمعة الماضية، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لم تخفت إلا مساء أمس، تهدئة ظرفية في انتظار حلول والي سيدي بوزيد إلى المدينة التي يشكو أهلها تهميشًا تتعدّد تعبيراته لتلتقي عند حقوق مسلوبة، حال يتعايش معها البعض وتحمل البعض الآخر على الانتحار فيما يرفضها آخرون ويحاولون افتكاك حقوقهم.

في جلمة، ظهر الأربعاء، تبكي السماء كأنها تواسي الأم الثكلى التي فقدت وحيدًا خانه صبره وسدّت أمامه كل المنافذ وماعاد يقوى على دين إضافي، وهو الذي لم يتقاض راتبه من الآلية 16 لمدة سنة وثمانية أشهر، لتتراكم ديونه وتتقلّص آماله ويكون الانتحار سبيله الأوحد.

اقرأ/ي أيضًا: سكان "الهراهرة" في القصرين.. تونسيون مع وقف التنفيذ!

شهادة أم ثكلى..

لا يمكن أن تزور جلمة دون أن تعرّج على المنزل الذي آوى أحلامًا لم تكتمل وصارت دخانًا انتشر في الأثير ما إن لامست النار البنزين على جسد عبد الوهاب الحبلاني. كل شيء في هذا المنزل كئيب، الجدران عارية والأرضية غير مهيئة، والحاشيات بالية كوعود السلطات، وأم الفقيد تبكي وتنادي باسمه ولكنّه لا يجيب، تمرّر أصابعها على وجهها وهي تروي تفاصيل آخر لقاء معه، وهي تستحضر ابتسامته حينما غادر المنزل وأثار أظافرها على وجنتيها.

والدة عبد الوهاب الحبلاني لـ"ألترا تونس": كان وجهه جميلًا جدًا يوم انتحاره لا يوحي بالموت، كان يخطو خطوة إلى الأمام ويلتفت مبتسمًا إلى أن غاب عن عيني إلى الأبد

"في انتظار أن أعدّ الطعام، ظننتُ أنه سيتوجّه إلى المقهى كعادته، لم يبدو عليه أنّه سينتحر، لقد كان يومها وسيمًا بوسامة لم أعهدها عليه من قبل"، تحدّثنا الأم وهي تغمض عينيها وكأنّها تستحضر لحظات لن تعود.

صورة متداولة على مواقع التواصل لعبد الوهاب الحبلاني مع والدته (فيسبوك)

 

دموع الأمّ تثير الوجع في نفوس الحاضرين، وجع لن يضاهي بعًضا من وجعها هي التي تقول إنّها خسرت حياتها وابتسامتها وراحتها، فعبد الوهاب لم يكن ابنها فحسب بل صديقًا وأخًا كانت تنتظر حضوره ليأكلا معًا لكنه غادرها وأكلت الحزن وحيدة، على حدّ تعبيرها.

"عانقني كثيرًا يومها وقبّلني أكثر وهو يقول "سامحيني" ولم أسأله لماذا، كان وجهه جميلًا جدًا لا يوحي بالموت، كان يخطو خطوة إلى الأمام ويلتفت مبتسمًا إلى أن غاب عن عيني إلى الأبد"، هكذا تحكي الأم عن اللحظات الأخيرة لابنها معها أو ربّما ترثاه قبل أن تنهار باكية وينهار كل من حولها وتفقد كل الكلمات معانيها.

القطرة التي أفاضت الكأس..

هي ليست المرة الأولى التي يحاول فيها عبد الوهاب الحبلاني الانتحار حينما تسلّطت عليه ظروف اجتماعية واقتصادية قاهرة، ووجد نفسه وجهًا لوجه مع محسوبية مقيتة، فالجميع هنا يتحدّث عن المحسوبية وعن الحظوة التي ينالها المقربون من المسؤولين إذا عملوا في الآلية 16 أو الحضائر.

مرّة أولى، افتكّ منه جاره سكينًا كان ينوي أن ينتحر به، وفي المرة الثانية أنزلوه من عمود كهربائي ليتوارى في المرة الأخيرة عن الأنظار في أرض فلاحية ويضرم النار في جسده بعد أن اشترى البنزين بمال أمدّته به والدته ظنًا منها أنه سيجلس في المقهى كالعادة.

منزل عائلة عبد الوهاب الحبلاني في جلمة (فيسبوك)

 

وبعض الشباب المحتجين الذين التقين بهم، وبعضهم أصدقاء مقربين من الفقيد، يجمعون على أن مماطلة السلطات المعنية له وحرمانه من مستحقاته المادية، جعلته يغرق في دوامة من اليأس ليكون تعرّضه إلى تهديد بالسجن في حال مطالبته مجدّدًا القطرة التي أفاضت الكأس، وفق روايتهم.

وانتحار الشاب الذي انتهى عمر عامًا بعد ربع قرن من العيش في جلمة التي يعاني شبابها البطالة أو الظروف المهنية المهينة، كان القطرة التي أفاضت كأس الصمت، صمت أبناء الجهة عن حقوقهم، ومنذ ذلك النبإ اندلعت الاحتجاجات في جلمة وواجهتها الوحدات الأمنية بالغاز المسيل للدموع.

شهادات المحتجين لـ"ألترا تونس"

عن الاحتجاجات، يقول حمزة السايبي، وهو شاب يبلغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، إن العاطلين عن العمل لجأوا إلى الشارع ليطالبوا بحقوقهم وبحق الفقيد، داعين إلى ضرورة فتح تحقيق في الانتدابات في الآلية 16 والحضائر وما يشوبها من محسوبية وفساد خاصة فيما يتعلّق بتسوية الوضعيات المهنية لأقارب المسؤولين، وفق قوله.

حمزة السايبي (من الشباب المحتج في جلمة): يجب فتح تحقيق في الانتدابات في الآلية 16 والحضائر وما يشوبها من محسوبية وفساد خاصة فيما يتعلّق بتسوية الوضعيات المهنية لأقارب المسؤولين

أما فيما يخص التعامل الأمني، فيشير إلى أنّ السلط المعنية من بلدية ومعتمدية وولاية وضعوا المحتجين والأمنيين في مواجهة، والحال أن المشكل ليس مع الأمنيين الذين بالغوا في استعمال الغاز المسيل للدموع وكنا ندافع عن أنفسنا ولم تشهد احتجاجاتنا أي عنف أو تكسير ونحن حريصون على سلميتها، على حدّ تعبيره.

وليس للمحتجين، وفق قول السايبي، مشكل مع الأمنيين بل إنهم يطالبون بمحاسبة المسؤولين عن حالة الاحتقان التي تشهدها جلمة منذ مدّة، خاصة أن الوالي والمعتمد لا يتحركان لحلحلة الوضع وإنما يكتفون بالتدخّل لإطلاق سراح الموقوفين على خلفية الاحتجاجات، وبعضهم لم يكن حاضرًا بها أصلًا، حسب إفادته لـ"ألترا تونس".

يتهم المحتجون قوات الأمن بالمبالغة في استعمال الغاز المسيل للدموع (فيسبوك)

 

عن مآل الاحتجاجات، يقول محدّثنا "رغم ترويعنا وقذف قنابل الغاز المسيل للدموع داخل المنازل وحتى في روضة أطفال، فإننا سنواصل احتجاجاتنا وسنصعّد في حال لم تستجب السلط إلى مطالبنا المتمثلة في الحق في الماء والعمل وفتح تحقيق في الانتدابات".

من جهته، يقول بلال السلطاني، وهو متحصل على شهادة عليا في الإعلامية ويعاني البطالة منذ سبع سنوات، أنه يشارك في الاحتجاجات للمطالبة بحقه وحق أبناء جلمة في التشغيل من ناحية، ومحاسبة كل من تسبب في انتحار صديقه عبد الوهاب الحبلاني من ناحية أخرى.

ويشير، في حديثه عن الوضع في جلمة، إلى أن المدينة تفتقر إلى المنطقة الصناعية التي ظلت مجرّد حبر على ورق، وإلى أن الدولة لم تقدّم شيئًا لأبنائها حتى المستشفى الجهوي لم ير النور إلى اليوم ويبدو أنه لن يراه رغم أن اعتماداته مرصودة، وحتى المكسب الوحيد وهو الماء يُستنزف، على حدّ قوله.

اقرأ/ي أيضًا: منسّق المرصد التونسي للمياه: الدولة تتجه لخوصصة قطاع المياه (حوار)

أرض الماء بلا ماء ..

ومن بين المشاكل التي يطرحها المحتجون مشكلة الماء، فجلمة أرض غنية بالماء، ولكن يشكو الفلاحون من نقص المياه وبعض العائلات لم يصلها الماء الصالح للشراب بعد وحتّى العائلات التي رمقتها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وانسابت المياه في حنفياتها، فإنّ لونها متغيّر، وفق حديث صابرة، وهي إمرأة أربعينية تقطن بالقرب من منزل الشاب الذي انتحر حرقًا.

بلال السلطاني (من الشباب المحتج في جلمة):  المدينة تفتقر إلى المنطقة الصناعية التي ظلت مجرّد حبر على ورق والدولة لم تقدّم شيئًا لأبنائها حتى المستشفى الجهوي لم ير النور إلى اليوم

غياب الماء، وانقطاعه لأيام، أمراض الكلى، هي حصيلة الأهالي من أرضهم الحبلى بالماء، ماء يعلمون عذوبته وحلاوته لكنهم لا يتمتعون به، بل إن البعض منهم ممن توفر له الماء يقتني المياه المعدنية التي تستخرج بعضها من جلمة، حسب قول ذات المتحدّثة.

أما المتساكنون الذين يغيب الماء الصالح للشراب عن منازلهم فلا يلقون سوى التسويف من الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، وفق حديث محمد حرزلي لـ"ألترا تونس وهو يطالب بتزويده بالماء منذ سنة 2015 ولا يلقى استجابة إلى اليوم رغم أن جيرانه يتمتعون به.

للاحتجاجات وجوه كثيرة..

وبعيدًا عن الاحتجاجات الليلية وما يعقبها من مواجهات بين المحتجين والأمنيين رغم تأكيد سلميتها، ترابط متحصلات على شهادات عليا أمام مقر المعتمدية للمطالبة بالانتداب بعد أن طالت بهن فترة البطالة.

وريدة الخشناوي متخرجة منذ سنة 1998 وتعاني البطالة إلى اليوم وهي متمسّكة بمواصلة الاحتجاج حتّى تتحقق مطالب أبناء الجهة المتعلّقة بالتشغيل والتنمية. وهي تتحدّث عن معاناتها من البطالة، وجهت محدّثتنا دعوة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد قائلة" سيدي الرئيس منحناك أصواتنا ومن حقّنا أن تطّلع على ما يحصل في جلمة وما يعيشها أهلها من اوضاع مزرية".

نددت الاحتجاجات في جلمة بالمحسوبية والفساد في المدينة (فيسبوك)

 

من جهتها، تقول ثريا عبد اللاوي، المتحصّلة على الأستاذية في اللغة العربية، لـ"ألترا تونس" إنها ستواصل الاحتجاج ضد المحسوبية والفساد الذي يلف الانتدابات في الإدارة الجهوية للتربية في سيدي بوزيد، على حد تعبيرها.

وهي تلازم باب المعتمدية، تشير محدّثتنا أنها موجودة اليوم لتؤكّد أن المحتجين ليسوا دعاة عنف أو أنّها لن تحرق نفسها وستمضي في الاحتجاج أمام مقر المعتمدية، لافتة إلى أنّ قضية جملة مسؤولية أصحاب القرار ممّن يمكنهم التغيير.

وفي حديثهم عن مشكل التشغيل، لم يفوّت المحتجون الفرصة ليتحدّثوا عن محاولة الانتحار الثانية التي شهدتها جلمة والتي نجح الأهالي في وقفها، وهو ما ينذر بأن الأوضاع يمكن أن تسوء في حال لم يتم إيجاد حلول جذرية للمشاكل التي طرحت.

هل يتكرر السيناريو؟

في الطريق إلى مخزن للإسمنت حيث يعمل كريم السايبي الذي حاول الانتحار ولحسن الحظ أنه لم ينجح في ذلك، تطالعك بقايا القنابل المسيلة للدموع لتشهد على تعامل الأمنيين مع المحتجين.

وفي حديثه عن محاولته وضع حدّ لحياته، يقول كريم لـ"ألترا تونس" إن انتحار عبد الوهاب الحبلاني أثار فيه غضبًا قديمًا على السلطات فأراد أن يلفت نظر السلطات إلى المظلمة الكبيرة التي تعرّض إليها والتي تتمثل في طرده من عمله حارسًا في المدرسة الواقعة على أرض تبرع بها جدّه.

ثريا عبد اللاوي (معطلة عن العمل): سأواصل الاحتجاج ضد المحسوبية والفساد الذي يلف الانتدابات في الإدارة الجهوية للتربية في سيدي بوزيد

وحتّى حين عمل في الآلية 16 تم إيقافه عن العمل وهو الآن يعمل حمل أكياس إسمنت وبالكاد بإمكانه تأمين مصارف زوجته وابنتيه وأخواته، الأمر الذي جعل الانتحار حلًا في نظره، قال لنا إنه سيلجأ إليه يوم الجمعة مجدّدًا إذا لم يف الوالي بتعهده تجاهه ويتدخّل لتسوية وضعيته، وفق قوله.

وإلى جانب كريم السايبي الذي يؤكّد أنه سينتحر المرة المقبلة بطريقة لن تجعل منفذًا لإنقاذه ويحمّل مسؤولية ذلك للوالي، فإنّ الجزار مولدي المنصوري هو الآخر يعاني من غلق المذبح، الأمر الذي خلّفه له عديد الإشكاليات في علاقة بذبح الخرفان، مطالبًا والي سيدي بوزيد بالنزول من برجه العاجي والاطلاع على مشاكل أهالي جلمة والكف عن تسكينهم بالوعود الزائفة، على حدّ تعبيره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحياء الآجر على ضفاف المدينة.. بوصلة الفقر في سوسة

باعة المشموم.. عندما يتحوّل الياسمين إلى خبز