16-ديسمبر-2024
فتحي الهداوي

كشفت لنا تجارب العديد من الفنّانين قبل وفاتهم أنّ الإعلام التونسيّ قد أساء توظيف وضعيّاتهم الصحيّة فأخرجهم في هيئة لا تليق بمقاماتهم (مصدر الصورة: أيام قرطاج السينمائية)

مقال رأي 

 

تفاعل التونسيون مع وفاة الممثل فتحي الهداوي بمنتهى التأثّر تفجُّعًا وتألّمًا وبكاءً رافقه رثاءٌ وتأبين وذِكرٌ لفضائل الرجل ومزاياه وخصاله الحميدة، ولم يُخفِ الكثيرون الحديث عن تجاربهم الخاصّة مع هذا الفنّان صاحب التجربة الغزيرة المتميّزة في تونس وسوريا والوطن العربي عامّة، فكشفوا من خلال بعض التفاصيل عن كرمه ونُبله ومروءته.

من العناصر التي أسهمت في تعميق الشعور بالحزن والأسى لدى التونسيين عامّة والمقرّبين من الهداوي خبر موته الفجئي ولسان حال الجميع يردّد في تأوّه " أوّاه من موتك الفجئي أوّاه، أوّاه من غُصنك المكسور أوّاه، يا عبرة من صميم القلب قد جمدت، لمّا علمتُ بأنّ الموت أفناه". 

تفاعل التونسيون مع وفاة الممثل فتحي الهداوي بمنتهى التأثّر تألّمًا وبكاءً رافقه رثاءٌ وذِكرٌ لفضائل الرجل ومزاياه وخصاله الحميدة، ومن العناصر التي أسهمت في تعميق الشعور بالأسى لدى التونسيين عامّة والمقرّبين من الهداوي خبر موته الفجئي

تبيّن بُعيد دقائق من انتشار الخبر في جلّ وسائل الإعلام المحليّة والعالميّة أنّ موت الهداوي لم يكن فجئيًّا كما تهيّأ للغالبيّة في البدء، فما هي بذبحة صدريّة أو سكتة دماغيّة أو حادث مرور، إنّما هو موت سبقته معاناة مع المرض دامت أسابيع، هذا التعديل في إحدى ملابسات الوفاة دفع الكثيرين لاحقًا إلى التساؤل: لماذا تكتّم الهداوي وعائلته عن حالته الصحيّة.

 

  • الكريم الحرّ ليس له عمر

في غمرة هذا الحدث الحزين لم يظفر أحد بإجابة عن أسباب كتمان المرض، سؤال بدا نشازًا غير ذي معنى في حضرة الموت، هذه النهاية الوجوديّة المأساويّة التي لا فكاك منها، وما كان السائلون ليظفروا بالردّ اليقيني والحال أنّ عائلة الفقيد أبعد ما تكون عن حمّى الحديث في تفاصيل الحياة الشخصيّة الخالصة التي تحوّلت إلى مادّة متواترة في العديد من المنوّعات التلفزيّة يستجيب لها عامّة الناس ونُخبهم.

مع ذلك اجتهد البعض في تقديم إجابات هي أقرب إلى التأويل والافتراض منها إلى الحقيقة، فقد صرّح محمد علي بن جمعة الممثّل التونسي قائلًا:" فتحي لم يُعلم أحداً بمرضه.. خمم (=فكّر)  فينا أكثر ملي خمم في روحو.. هذا هو فتحي".

في غمرة هذا الحدث الحزين لم يظفر أحد بإجابة عن أسباب كتمان المرض، سؤال بدا نشازًا غير ذي معنى في حضرة الموت، وما كان السائلون ليظفروا بالردّ اليقيني والحال أنّ عائلة الفقيد أبعد ما تكون عن حمّى الحديث في تفاصيل الحياة الشخصيّة

هذا الكلام يتناغم مع الصورة التي ترسّخت في أذهان التونسيين حول كرم الهدواي ولطفه ووداعته، غير أنّ الملفوظ لا يتضمن أي سند أو مرجع أسريّ يمكن الاستئناس به، ولأنّ المقام تأويليّ فلا بدّ أن نراهن على ما نراه أقرب إلى المنطق والواقعيّة.

لا أدّعي "السبقَ الصحفيَّ" وأعترف بأنّ صلتي بالهداوي كانت عرضيّةً ولقاءاتي معه كانت وجيزةً فقد جمعتني به أكثر من مرة بعض المحادثات ذات المنحى الثقافيّ بمناسبة المنتدى الاجتماعي العالمي بتونس سنة 2013 أي قبل ما يزيد عن عشر سنوات، وكانت تلك الساعات كافية لأكتشف معدن هذا الرجل فنّانًا وإنسانًا، لذلك خطر في ذهني يوم رحيله قول الشاعر أبي تمّام "الكريم الحرّ ليس له عمر". وهو قول يحمل في طيّاته إجابة أكثر وجاهة ومعقوليّة عن السؤال  لماذا تكتّم الفقيد فتحي الهداوي وعائلته عن خبر مرضه؟

 

  • هكذا عبث الإعلام بصورة الفنانين والمفكّرين في أيامهم الأخيرة 

كشفت لنا تجارب العديد من الفنّانين قبل وفاتهم أنّ الإعلام التونسيّ قد أساء توظيف وضعيّاتهم الصحيّة، فأخرجهم في هيئة لا تليق بمقاماتهم الإبداعيّة التي اجتهدوا في نحتها وترسيخها في أذهان الناس منذ عقود.

كشفت لنا تجارب العديد من الفنّانين قبل وفاتهم أنّ الإعلام التونسيّ قد أساء توظيف وضعيّاتهم الصحيّة، فأخرجهم في هيئة لا تليق بمقاماتهم الإبداعيّة التي اجتهدوا في نحتها وترسيخها في أذهان الناس منذ عقود

لا أستطيع أن أنسى العبث الذي مارسه عدد من الإعلاميين مع ثلّة من أفضل الفنانين والمفكرين وهم مرضى أو في "أرذل العمر"، لقد تعمّدوا التركيز وتبئير الكاميرا والميكروفون على وهن أجسادهم وضعف ذاكرتهم وفقدانهم  صفاء الوجه ونضارته وطلاقة اللسان وبيانه. 

فعَلُوا هذا، ويا أسفاه، مع دلندا عبدو الممثلة الرمز أياّمًا قبل أن تلفظ أنفاسها، وأجرموا لمّا أحضروا  المفكر محمّد الطالبي ونزعوا عنه هيبته العلميّة والأكاديميّة وحوّلوه إلى "أضحوكة" حتّى ثار طلبته وزملاؤه في الجامعة ونادوا بإيقاف هذه المهزلة التي شارك فيها أكثر من منشّط تلفزي وإذاعيّ. ولا يمكن في هذا المقام الأليم أن ننسى الجرم الذي مورس في حقّ المغني المنصف عبلة الذي دعاه أحد المنشّطين وهو تحت طائلة العلاج الكيمياوي في حالة ضعف نفسي وجسدي وذهني وأخرج منه أسوأ ما فيه ممّا ساهم في تعميق همومه وخلافاته الأسريّة. 

لا ننسى العبث الذي مارسه عدد من الإعلاميين مع ثلّة من أفضل الفنانين والمفكرين وهم مرضى أو في "أرذل العمر"، فقد تعمّدوا التركيز على وهن أجسادهم وضعف ذاكرتهم وفقدانهم  نضارة الوجه وطلاقة اللسان

ومن نوائب هذا الإعلام الساذج السخيف أنّ تلك الصور والمشاهد المهينة قد كسبت انتشارًا في الإنترنت وفي مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من أعمال هؤلاء العلماء والفنانين وإبداعاتهم، وإن شئت التحقّق سَلْ شابًّا عن محمد الطالبي، لن يذكر له إشرافه على مئات البحوث العلميّة، ولن يتفطّن إلى ما أضافه للمدونة النقديّة والحضاريّة من مؤلفات قيّمة منها عيال الله، وأمّة الوسط، ومرافعة من أجل إسلام معاصر، والإسلام حريّة وحوار، وكونية القرآن، وليطمئنّ قلبي، وديني الحريّة.. في المقابل سيذكر له القاصي والداني الغافلُ والمُطّلع ذاك المشهد الكاريكاتوري الذي كان فيه الرجل يصفق ويردد بأسلوب أثار الضحك والسخرية "يحبو يقتلوني، ما خلونيش نتكلم، يحبو يكفروني".

 

  • احموا مرضاكم من هذه العدسات المُذلّة

لست ميّالًا إلى الوعظ والتنظير،  لكنّني أنصح أبناء المبدعين والعلماء ونجومِ الرياضة والفن أن يستأنسوا بسلوك عائلة الهداوي وينسجوا على منوالها، فيحموا آباءهم وذويهم من عدسات الإعلاميين المتهافتين المفتقرين إلى اللياقة، ينبغي أن نفعل مع آبائنا وذوينا عند المرض وفي أرذل العمل ما نفعله حينما نروم حماية  أطفالنا الصغار والقاصرين من أعين اللصوص والمتحرّشين والمجرمين والمنحرفين وقطّاع الطرق.

في حالات المرض، يكون المبدع أو المفكّر في أسوأ أحواله، قد يثير في المتلقّي الشعور بالعطف والشفقة، لكنّ حضوره في وسائل الإعلام وهو على تلك الوضعية لن يثمر في نفوس المتابعين ما يرجوه أصحاب السموّ الفنيّ  من إعجاب وتقدير

في حالات المرض، أعزّك الله،  يكون المبدع أو المفكّر في أسوأ أحواله، قد يثير في المتلقّي الشعور بالعطف والشفقة وقد يبث في المشاهد إحساسًا بالإشفاق والرأفة، لكنّ حضوره في وسائل الإعلام وهو على تلك الوضعية لن يثمر بأيّ حال من الأحوال في نفوس المتابعين ما يرجوه أصحاب السموّ الفنيّ والأدبيّ من إعجاب وتقدير. 

يمرض الرؤساء والملوك والقادة ولا نرى لهم صورة واحدة فيها شحوب أو انتفاخ أو ترهّل فلا يخرج  علينا الواحد منهم إلّا وهو في بدلة الكبرياء وبرنس الأنفة، وقفاتهم مستقيمة وأجسادهم سليمة ووجوههم صافية ناضرة وألسنتهم فصيحة بليغة، وإذا أصابهم مرض ستره الإنكار والكتمان حتّى يستعيدوا عافيتهم، لماذا لا يحظى المفكرون والفنانون بما يحظى به أصحاب السمو والجلالة من حفاظ على الهيبة والرفعة؟

كتمانُ المرض أو إعلانه يكاد يكون اختيارًا فرديًّا أو أسريًّا خالصًا ولم يكن موضوع جدال فكرّي أو أخلاقيّ، غير أنّ بعض الوقائع والحالات تدفعنا دفعًا إلى معالجة المسألة معالجة لا تدّعي الموضوعيّة والنزعة العقليّة وإنّما تراعي ما يمكن وصفة بالأنسب والأشرف

كتمانُ المرض أو إعلانه يكاد يكون اختيارًا فرديًّا أو أسريًّا خالصًا ولم يكن موضوع جدال فكرّي أو أخلاقيّ، حضر فقط في مقامات ذات بعد فقهيّ، غير أنّ بعض الوقائع والحالات كما أوضحنا في الأمثلة المذكورة تدفعنا دفعًا إلى معالجة المسألة معالجة لا تدّعي الموضوعيّة والنزعة العقليّة وإنّما تراعي ما يمكن وصفة بالأنسب والأشرف، رحم الله فتحي الهداوي ورزق أهله وأحبّته سبيل الرشاد وحسن التدبير.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"