07-يناير-2025
تدوينات العضو المجهول في مجموعات فيسبوك.. لماذا نخفي هويّاتنا؟

يلجأ الشخص للسؤال بهوية مجهولة عادة خوفًا من انكشاف أمر مشكلته التي يريد أن يبقيها سرًا

 

"لا يبدو أنّي أستطيع طرح هذا السؤال على حائطي في فيسبوك، إذ لا أريد لأحد أن يعرف بهذا الأمر، من الممكن أن أنشر السؤال في إحدى المجموعات الاستشارية المنتشرة بكثرة.. لا شكّ أنّ خاصية (العضو المجهول) ستساعدني في ذلك".

لعلّ نسبة هامة من مستعملي منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك، قد تبادرت إلى أذهانهم مثل هذه الفكرة، لدى حاجتهم للسؤال عن أمر ما أو مشاركة تجربة أو تقديم نصيحة أو غير ذلك، دون الحاجة إلى نشر تلك المواضيع بهويّاتهم الحقيقية.

باتت خاصية "العضو المجهول" التي تتيحها مجموعات فيسبوك، تمثّل مهربًا لافتًا ومثيرًا للاهتمام لدى شريحة واسعة من المستخدمين

خاصية "العضو المجهول" (membre anonyme)، التي تتيحها مجموعات فيسبوك، باتت تمثّل مهربًا لافتًا ومثيرًا للاهتمام لدى شريحة واسعة من المستخدمين.. فكان لا بدّ مع انتشار هذه الظاهرة، من طرق أبواب الطب النفسي وعلم الاجتماع، لسبر أغوراها في هذا التقرير.

  • لماذا تفاقمت ظاهرة استعراض المشاكل عبر مجموعات فيسبوك؟

توجهنا بهذا السؤال للمختص في علم النفس، صدقي الشيخ، فأوضح لـ"الترا تونس"، أنّ هذه الخاصية فرضت نفسها بعد ارتفاع حجم المشاكل داخل المجتمع، الأمر الذي خلق الحاجة لهذه الخاصية، بالإضافة إلى استصعاب دفع قيمة الخدمات المقدمة، فبدل أن يذهب المواطن لطبيب، أصبح يستسهل السؤال الافتراضي في هذه المجموعات الفيسبوكية، ويستصعب دفع رسوم المختص.

يوضّح صدقي الشيخ، أنّ فئة الطلبة خاصة، ترى أنّ المعلومة متاحة على منصات التواصل، ولهذا فهي حاضرة بقوة في هذه المجموعات، وقال: "نشجع كمختصّين على الصحة النفسية، لكننا بطريقة غير مباشرة نوفر بهذه الخاصية، الخدمات المجانية ونطبّع مع المثل القائل (اسأل مجرّبًا ولا تسأل طبيبًا)".

 

عضو مجهول
عيّنة من تدوينات الأعضاء المجهولين، التي نشروها في مجموعات مختلفة على فيسبوك

 

وتابع المختص النفسي، أنّ المشكل في انتظار الحلول من عامة الناس عبر مجموعات فيسبوك، يكمن في أنّ التعليقات ستكون من قبل كلّ من هبّ ودبّ، فكارثة التطبيع مع مثل "اسأل مجرّب ومتسألش طبيب"، تحيلنا إلى أنّ "كل الناس تسأل وكل الناس تجيب". مشددًا على أنّه ليس كل مجرّب كانت تجربته موفقة وناجحة، أي أنّ المتلقّي قد يصدّق عديد المعطيات والتجارب التي يقرؤها رغم أنها ليست بالضرورة سليمة، وفي هذا خطر كبير، وفقه.

يضيف بقوله إنّ "الصحة النفسية قائمة على أساس أنّه لكلّ الكلمة قيمتها وأهميتها وتأثيرها"، في إجابة على ملاحظة أنّ بعض التعليقات تكون ساخرة ومتنمرة وقد تحمل حكمًا أو اتهامًا للسائل، معقبًا: "لا يتحمّل المختصّون هذه السلوكيات لكننا نجد أنّ هؤلاء الأشخاص مآلهم العودة للمختصين لسؤالهم، خاصة وأنهم في وضعية هشة ويحتاجون المعلومة الصحيحة لا مجرّد معلومات من قبل أيّ كان"، وفقه. 

وأرجع المختص النفسي، تفشي هذه الظاهرة، إلى نزعة الحصول على المعلومة بشكل مجاني، ولهذا أسبابه أيضًا، إذ أنّ الظروف الاقتصادية تجعل الناس تستسهل مجانية الخدمات، وتمنعهم من دفع أموالهم للتمتع بهذه الخدمة، فيقومون إما بسؤال "المجرّب" أو المختصين الذين يجيبون أحيانًا بشكل تطوعي.

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": كارثة التطبيع مع مَثَل "اسأل مجرّب ومتسألش طبيب"، تحيلنا إلى أنّ "كل الناس تسأل وكل الناس تجيب"

كما تحدّث صدقي الشيخ عن أنّ المشاكل كثرت داخل المجتمع، من تعدد حالات الطلاق، والمشاكل الزوجية والإرث والمشاكل النفسية وغيرها.. وبالتالي هناك طلب متزايد على المعلومة، ما خلق الحاجة لخاصية "العضو المجهول"، وقد كان التوجّه الغالب قبل هذه الخاصية، هو السؤال بالاعتماد على حساب وهمي آخر يملكه الشخص، وفق قوله.

  • لماذا يخفي الشخص هويته لدى السؤال؟ 

أسباب عديدة، تجبر مستعمل فيسبوك على التخفي لدى مشاركته بعض الأسئلة أو طرحه لمشكلة يبحث عن حلّها، لعلّ أوّلها القلق الاجتماعي (l'anxiété sociale) أو الوصم، فالناس تخاف الحكم عليها من طرف الآخر، وهي تخشى النظرة السلبية تجاههم، وبالتالي فهذه الخاصية عبارة عن قناع يحمي هؤلاء الأشخاص من الأحكام الاجتماعية التي يمكن أن تمارس عليهم وتجنّبهم الوصم.

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": كثرت المشاكل في المجتمع فتزايد الطلب على المعلومة، مع النزعة للحصول عليها بشكل مجاني، ما خلق الحاجة لخاصية "العضو المجهول"

يقول صدقي الشيخ في تصريحه لـ"الترا تونس": يسعى التونسي عادة لإخفاء هويته لدى السؤال، خوفًا من (الفضيحة) وتجنّبًا لـ(العار) الذي يمكن أن يلحقه، وهو إذن يبحث عن المساعدة من دون خوف من رفض الآخر، خاصة ما قد يسبّبه سؤاله، من رفض مجتمعي لتوجهه الفكري المخالف مثلًا، وفق تعبيره.

يقرّ المختص النفسي، بأنّ هذه الخاصية، تمكّن الشخص من التعبير عن المشاعر المكبوتة بلا قلق من التبعات، وهي أقرب للتفريغ النفسي، بما يمكّنه أيضًا من استكشاف الجوانب الخفية لشخصيته، فضلًا عن أنها فرصة ليكتشف ميولات نفسية وجنسية وعاطفية قد تكون أحيانًا مرفوضة مجتمعيًا، وفقه.

ولم ينس المختص النفسي في هذا السياق، ذكر أحد أهم الأسباب لتفشي هذه الظاهرة، وهي حماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية خاصة لدى المشاهير من ذوي المكانة الاجتماعية أو المناصب الهامة الذي قد يثير كلامهم الرأي العام بأكمله. 

 

عضو مجهول
تتنوّع تدوينات الأعضاء المجهولين، التي ينشرونها في مجموعات فيسبوك، بين الاستشارات النفسية والعاطفية والصحية واليومية.. وغيرها

 

الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم، توضّح في حديثها لـ"الترا تونس"، أنّ المجتمع شهد تحولات كبرى، لعلّ أهمها تقلّص العلاقات الاجتماعية وتراجع منسوب الثقة حتى داخل الأسرة الواحدة أو بين أفراد الأسرة الموسّعة، بالإضافة إلى الوسط المهني أيضًا والأصدقاء، تقول: "تراجعت فكرة مشاركة المشاكل مع العائلة والأصدقاء والجيران، وحتى في التربية أصبحنا نرى الأولياء يعلّمون أطفالهم ضرورة عدم إعطاء الأمان للآخر"، وفقها.

باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": الخوف هو السبب الرئيسي وراء هذا التخفي، الخوف من ردة فعل الآخر أساسًا، خاصة بعد تراجع فكرة مشاركة المشاكل مع العائلة والأصدقاء والجيران

تضيف الباحثة، أنّ الأمر بات أقرب لكوننا نعطي صورة أنّ الآخر هو "إنسان متوحش" قد يستغل السر أو نقطة الضعف لأغراض أخرى.. هذه هي التصورات والتمثلات الاجتماعية الموجودة اليوم في المجتمع، وفقها، ولهذا أصبح الأفراد يلجأون للتخفي.

تصرّح نسرين بن بلقاسم، بأنّ الخوف هو السبب الرئيسي وراء هذا التخفي، الخوف من ردة فعل الآخر أساسًا، فحين يلجأ الشخص للسؤال بهويته الحقيقية قد ينكشف أمر مشكلته التي يريد أن يبقيها سرًا، وهو إذن يريد الهروب للمجتمع الافتراضي الذي أصبح يتفوّق أحيانًا على المجتمع الحقيقي، مشددة على أنّ ثقافة الذهاب بهذه المشاكل إلى المختص النفسي مازالت غير منتشرة بالشكل الكافي بعد، والنسبة ليست مرتفعة، وفقها.

  • خاصية "العضو المجهول".. طرح للأفكار أم للمشاكل؟

في المقابل، أكدت رحاب العكاري، إحدى المشرفات على مجموعتي فيسبوك "انجم نعاون" و"الخطاب على الباب"، لدى سؤالها حول تجربتها بهذا الشأن، أنّ السلبي والإيجابي كلاهما موجود فيما يتعلّق بهذه الظاهرة، تقول لـ"الترا تونس": "أتساءل أحيانًا إن كان ما نقوم به مفيد أم لا، لكني سرعان ما أقول إنه إن لم نكون موجودين فغيرنا موجود، فمجموعات فيسبوك موجودة بكثرة، وتناقش جلّ القضايا سواء كانت بأسماء مكشوفة أو متخفية.. ونحن لم نأت بشيء جديد فيه ضرر لمستعملي وسائل التواصل الاجتماعي" وفقها.

إحدى المشرفات على مجموعتي فيسبوك لـ"الترا تونس": لا يمكن منع الناس من استعمال هذه الخاصية، ونسعى كمشرفين إلى خلق بيئة سليمة قائمة على التوجيه

واعتبرت العكاري أنّ توجّه بعض المجموعات مدمّر، وضارّ وفيه الكثير من السلبية، مضيفة: "أحاول كمشرفة رفقة بقية زملائي في هذه المجموعات، خلق بيئة سليمة قائمة على التوجيه عبر تسليط الضوء على الأشخاص أصحاب الخبرة والعلم وجعلهم الأكثر ظهورًا، كما نسعى دومًا إلى التركيز على ضرورة حسن التواصل وعدم أخذ بعض التعليقات السلبية بعين الاعتبار، بل ونصل إلى حد حظر بعض التعليقات حين يصل أصحابها إلى مرحلة من عدم الاحترام أو حين يكون الكلام سامًا ومضرًا للبيئة التي حرصنا على إنشائها"، وفقها.

تقرّ رحاب العكاري، بأنّ خاصية "العضو المجهول" برزت خصيصًا لأجل مستعمل منصة فيسبوك، الذي يريد يطرح فكرة أو مشكلة دون أن تُعرف هويته، وقالت: "في المجموعات التي أديرها، تمرّ التدوينات على المشرفين قبل الموافقة على نشرها من عدمه. من المشرفين من درس الإعلام وتدقيق المحتوى، وكلهم يملكون نضجًا ووعيًا مكتسبًا من خلال خبرة تراكمت عبر السنوات في المجتمع المدني والنشاط الافتراضي".

وشدّدت المشرفة على بعض المجموعات الفيسبوكية، في تصريحها لـ"الترا تونس": "الهدف هو عرض الأفكار لا المشاكل كي ننفتح على أفكار أخرى، إذ لا يمكن منع الناس من استعمال هذه الخاصية، مع أنّ هذا الكمّ الهائل من الأفكار والخبرات، قد يفتح الباب للمتلقّين، لاستكشاف مشاكل وتجارب هم في غنى عنها، وقد لا يحتاجونها فعلًا في حياتهم اليومية، خاصة وأنهم بذلك سيعيشون تجارب الآخرين لا خوض تجاربهم الخاصة".

أحد مستخدمي خاصية "العضو المجهول" لـ"الترا تونس": استعملتُ هذه الخاصية مرارًا لكثرة أبراج المراقبة وتطفل المعارف والأصدقاء على أبسط الأمور الخاصة

وتساءلت المشرفة بقولها: "هل فعلًا لا توجد استفادة من طرح المشاكل باستعمال خاصية العضو المجهول؟ لا أعرف، لكن على الأقل نحن نحرص على التوجيه، ولا نملك الوقت ورفاهية التطفل على هويات أصحاب المنشورات، الذين لا يريدون أن ترتبط الفكرة بهوياتهم، بقدر ما يهمهم إيصال الفكرة".

وفي إجابة عن سؤال حول المسؤولية الأخلاقية لهؤلاء المشرفين على المجموعات، باعتبارهم هم فقط القادرين على معرفة الهوية الحقيقية لناشري التدوينات، قالت العكاري: "صاحب المنشور يحمل أيضًا مسؤولية أخلاقية، إذ ليست وحدها ملقاة على عاتق المشرفين فقط، نحن إنما أردنا استغلال الموجود بطريقة أفضل وبأقل ضرر وبأكثر مراقبة، بهدف خلق منصة لتبادل حر ومختلف للأفكار" على حد تعبيرها.

يشار إلى أنّ موقع فيسبوك، حدّد طريقة إدارة المشاركة مجهولة الهوية في المجموعات التي يتولى فيها البعض دور المسؤول أو المشرف، وفي سؤالنا لعيّنة عشوائية من المستخدمين، أقرّوا جميعًا بأنّهم استخدموا هذه الخاصية لأكثر من مرة، وأرجع أحدهم السبب إلى ما أسماه "كثرة أبراج المراقبة من المعارف والأصدقاء الذين باتوا يتطفلون على أبسط الأمور الخاصة"، فيما شاركته مستخدمة أخرى هذا السبب بقولها إنّ "تتبّع حياة الآخرين زاد بكثرة، وأصبح هواية لدى الكثيرين، ما جعل الحاجة إلى هذه الآلية في تنامٍ".