26-مارس-2018

يوجد نقص تشريعي على المشرع التونسي تداركه في مجال المراقبة الجبائية

عمد المشرع التونسي إلى سن أسطول قانوني يُعنى بتنظيم المادة الجبائية باعتبارها أحد أهم مصادر تمويل خزينة الدولة عبر إجبار المواطن على دفع الضرائب، هذا المواطن الذي سماه المشرع عبر مجلة الحقوق والاجراءات الجبائية بالمطالب بالأداء، محمول بالقيام بواجب جبائي مبدئي مفاده "المبادرة بالتصريح التلقائي بالأداء".

وجاء هذا الواجب تحت لواء القاعدة الأصولية المؤطرة للهيكلة العامة للنصوص القانونية وهي افتراض حسن النية، لكن هذا الافتراض ليس مطلقًا حيث في أغلب الحالات لا يقع التصريح التلقائي للأداء لمصالح الجباية والتي خوّلها المشرّع عبر الفصول من 5 إلى 14 من مجلة الحقوق والاجراءات الجبائية من حق المراقبة الجبائية. 

عمد المشرع التونسي إلى سن أسطول قانوني يُعنى بتنظيم المادة الجبائية باعتبارها أحد أهم مصادر تمويل خزينة الدولة عبر إجبار المواطن على دفع الضرائب

اقرأ/ي أيضًا: تعرف على أهم 10 مجلات قانونية في تونس

وبناء عليه المراقبة الجبائية هي حق يتبلور عبر سلطة منحها المشرع لمصالح الجباية هدفها التقصي والبحث عن كل نشاط لم يتم التصريح به، وهو أساس التمييز بينها وبين المراجعة الجبائية التي تختصّ بمراجعة أداء معين في فترة معينة، في حين تمكّن المراقبة من بحث شامل غير مقيّد لا بزمن أو بأداء عن أي نشاط مهما كان نوعه، صناعي أو تجاري أو خدماتي، لم يتم التصريح به. هذه المراقبة خوّل المشرع ضمانَا لفاعليتها القيام بها بمسكن المطالب بالأداء، ويُعرف المسكن بكونه المكان الذي يقيم به الشخص وبأنه الإطار الملائم لحماية الحياة الخاصة والتستر بعيدًا عيون الفضوليين. 

لكن رغم ذلك، عمد المشرع إلى تقنين تجاوز الحق في حرمة السكن مؤسسًا هذا التدخل على حماية النظام العام وباستغلال التمطّط والتلون الذي يشهده تعريف هذا المصطلح. حيث تعدّ حرمة المسكن محور اهتمام لا فقط الدستور عبر الفصل 24 منه بل أيضًا جميع المعاهدات والمواثيق الدولية وأهمها الاعلان العالمي لحقوق الانسان عبر الفصل 12. وتكشف هذه العناية عن حماية لحرمة المسكن تصل لدرجة التقديس فالمسكن "قلعة كل فرد" على حد قول الفقيه الفرنسي العميد كاربونييه.

 تعدّ حرمة المسكن محور اهتمام لا فقط الدستور عبر الفصل 24 منه بل أيضًا جميع المعاهدات والمواثيق الدولية أهمها الاعلان العالمي لحقوق الانسان

لكن يمكن أن يقع انتهاك هذه القداسة بما ينافي القانون عبر القيام بمخالفات جبائية داخل هذه الاماكن والتي تتحول شيئًا فشيئًا إلى مقر مهني تحت مسمّى مسكن عائلي، ولذلك شرع القانون اقتحامها عبر الفصل 8 من مجلة الحقوق والاجراءات الجبائية للقيام بالمراقبة الجبائية أساسًا عبر القيام بالتفتيشات اللازمة للبحث عن الحجج المثبتة لهذه المخالفات. وتجدر الاشارة الى أن المشرع ميّز تمييزًا هامًا في ذات الفصل بين التفتيشات والمعاينات المادية، حيث مكّن الأولى من التسلل الى مقر السكنى عبر عبارة "المحلات المظنون فيها" وهي ذات صبغة جزائية، فيما تقتصر الثانية على مقرات النشاط من جهة وهي ذات صبغة مدنية بحتة.  وعليه يتجه طرح السؤال، إلى أي مدى تحترم المراقبة الجبائية حرمة المسكن؟

اقرأ/ أيضًا: تقارير الهيئات الرقابية في تونس.. أي مصير؟

ضمانات حماية حرمة المسكن

يظهر التمسك بحرمة المسكن عبر إيلاء المشرع للتفتيشات الاهتمام الجزائي وذلك من خلال إحالة الفصل 8 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية إلى مجلة الإجراءات الجزائية، وهو ما يمثل ضمانة هامة لحماية المسكن وتحديدًا عبر احترام ضابط زمن التفتيشات من خلال الفصول من 93 إلى 96. إذ جاء الفصل 95 مؤكدًا لقاعدة هامّة مفادها أنه لا يمكن إجراء التفتيش بمحلات السكنى وتوابعها قبل الساعة السادسة صباحًا وبعد الساعة الثامنة مساءً، وذلك تمسكًا بحرمة المسكن وضمانًا لحرمة الحياة الخاصة. حيث يراعي هذا التحديد الزمني الضوابط الفعلية للحياة الخاصة لما يمثله الليل من ملجأ للراحة والسكينة لا يقدر المشرع على إفسادها إلا في حالات قصوى بالغة الخطورة مثل التلبس الذي يقلب الاجراءات الجزائية رأسًا على عقب، لأنه يمثل حالة استنفار جعلها المشرع وسيلة للحفاظ على الأدلة والتي يمكن أن تندثر عبر تمكين القيام بالتفتيشات في الفترة المحجرة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحجير لم يكن الأول من نوعه في المادة القانونية، إذ حجر الفصل 291 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية التنفيذ الجبري، وجاء التحجير مؤسسًا على نفس الأسس، لكن الميزة التي تجعل الليل في القانون المدني خاصًا هي تحديده بدقة تتجاوز عمومية الليل الجزائي حيث "يشمل الليل من 1 أفريل/أبريل إلى 30 سبتمبر/أيلول الساعات بين الثامنة مساءً والخامسة صباحًا، ومن 1 أكتوبر/تشرين الأول الى 31 مارس/آذار الساعات بين السادسة مساءً والسابعة صباحًا". وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المدني مكن من كسر التحجير عبر إذن على عريضة وهو استثناء شهده القانون الجزائي أيضًا.

 تعد الضوابط الزمنية للتفتيشات التي تقوم بها مصالح الجباية إحدى أهم الأسس الضامنة لحرمة المسكن

بذلك تعد الضوابط الزمنية للتفتيشات التي تقوم بها مصالح الجباية إحدى أهم الأسس الضامنة لحرمة المسكن رغم تسرب بعض الاستثناءات المتمثلة في حالة التلبس. وهذا الواجب الزمني المؤسس لاحترام حرمة المسكن عند البحث عن أعمال التحيل الجبائي يعاضده ضابط آخر متعلق بالأشخاص المتدخلة في العملية.

حيث يتعدد الأشخاص اللذين لهم صلاحية التفتيش، فانطلاقًا من الإحالة الصريحة من الفقرة الثالثة من الفصل 7 إلى أحكام التفتيش بمجلة الاجراءات الجزائية، ينصّ المشرع على أن التفتيش من صلاحيات حاكم التحقيق دون سواه ولكنه مكن أعوان الادارة المرخص لهم بالقيام بالتفتيشات، أي أعوان مصالح الجباية في صورة الحال. وتجدر الإشارة إلى اختلاف هذه المصالح جغرافيًا، وذلك بين مصالح داخلية تتمركز في العاصمة منبثقة عن وزارة المالية وهي الادارة العامة لمراقبة الأداءات، ومصالح خارجية جهوية لمراقبة الأداءات. ويخفي هذا التخصص نوعًا من الاحترام وضمان حرمة المسكن حيث يمنع المشرع مصالح الجباية من القيام بمعاينات خارجة عن المخالفات الجبائية وذلك على خلاف أعوان الضابطة العدلية والذين لهم صلاحيات واسعة في البحث عن كل إخلال مهما كانت طبيعته وهو ما قد يمسّ بشكل فادح من حرمة المسكن.

تتعدّد المصالح التي تقوم بالتفتيش عن المخالفات الجبائية بين مصالح داخلية تتمركز في العاصمة، ومصالح خارجية جهوية لمراقبة الأداءات

وتوجد ضمانة أخرى هي وجوب حضور أشخاص، حيث جاء بالفصل 96 من مجلة الاجراءات الجزائية أنه على حاكم التحقيق أو مأمور الضابطة العدلية أن يصطحب معه عند مباشرة التفتيش بمحلات السكنى امرأة أمينة إن كان ذلك لازمًا، لكن تجدر الإشارة إلى أن الفصل لم يمنح هذه الصلاحية إلى أعوان الإدارة و من ذلك مصالح الجباية. لكن بما أن المشرع لم يمنع ذلك عن أعوان الادارة اعتبارًا بأن المبدأ العام هو الإباحة، فإن هذه الامكانية متاحة لهؤلاء الأعوان وهو ما يمثل ضمانة هامة لحرمة المسكن ما لم يكن أحد أعوان المرأة بما يفرض احترام حرمة الحياة الخاصة. وعمومًا تسعى هذه الضوابط إلى احترام حرمة المسكن ولكن توجد بعض الحدود أو النقاط السلبية التي قد تمسّ من هذه الحرمة.

اقرأ/ي أيضًا: النفاذ إلى المعلومة: حق دستوري لم تهضمه الإدارة التونسية

في ضرورة التدخل التشريعي

تشهد عملية المراقبة الجبائية نقصًا تشريعيًا فادحًا يمسّ من حرمة المسكن وذلك بالنظر لخطورة عملية التفتيش حيث لم يتم اشتراط الاذن الخاص مثلما جاء في المعاينة المادية. حيث جاءت الفقرة 3 من الفصل 8 من المجلة الجبائية خالية من كل إشارة إلى التكليف الخاص للقيام بالتفتيشات اللازمة بحثًا وتقصيًا عن كل مخالفة جبائية، وهذا الامتناع التشريعي من فرض التكليف يفتح أبواب التعسف على مصراعيها بما يفرغ الضمانات التي تم توضيحها سابقًا من كل جدوى وفعالية. إذ يجعل التكليف من العملية ذات حجية أقوى لاقتحام ودخول المنزل دون أن تترك للمطالب بالأداء أي حجة لمنع مصالح الجباية من القيام بواجباتها، حيث يمكّن التكليف الأعوان من الاستنجاد بالقوة العامة، غير أنه تم تمكين مصالح الجباية من هذا الامتياز دونما تكليف عبر الفصل 14 من مجلة الحقوق والاجراءات الجبائية. إذ جاء النص ملزمًا للسلط المدنية والأمنية بتقديم المساعدات لمصالح الجباية، إلا أنه في الواقع وأمام امتناع المطالب بالأداء من تمكين الأعوان من الدخول يعمدوا إلى طلب هذا التكليف ليسحبوا من الطالب كل حجة تمكنه من الامتناع قانونًا، لكن رغم ذلك يعد التكليف الذي يطلبه الأعوان نوعًا من أنواع سد الفراغ التشريعي عبر آلية جريان العمل.

تشهد عملية المراقبة الجبائية نقصًا تشريعيًا فادحًا يمسّ من حرمة المسكن وذلك نظرًا خطورة عملية التفتيش حيث لم يتم اشتراط الإذن الخاص

ويمكن لوهلة أولى تبرير الأمر عبر البحث عن عنصر المفاجأة، اذ تفترض مثل هذه الابحاث المفاجأة في القيام بالمراقبة والتفتيش، إلا أن التكليف الخاص لا ينفي هذا العنصر حيث لا يُعلم المطالب بالأداء به ولم يوجب مثلًا المشرع في إطار المعاينة المادية إعلامه بالتكليف، وإنما اعطاءه فقط اعطاءه نسخة منه وذلك بما ينفي كل علاقة للتكليف بتراجع فاعلية عنصر المفاجأة. وهو ما يؤكد وجوب التدخل التشريعي لسدّ هذا النقص، إلا أن رغم توارد هذه الامكانية كل سنة عبر قانون المالية لم يتم ذلك الى حد هذه الساعة حتى بعد قانون المالية لسنة 2017، بما يجعل الأمر يبدو كنوع من الامتناع التشريعي عن التدخل بما يطرح أسئلة كثيرة حول سبب ذلك.

من جانب آخر، بما أن المشرع لم يشترط التكليف الخاص للقيام بالتفتيشات اللازمة عند البحث عن حجج تثبت المخالفات الجبائية المرتكبة، يكون قد أعطى للمصالح السلطة الكاملة والمطلقة لتقدير القرائن المؤسسة للتدخل. حيث جاء التنصيص التشريعي على عبارة "قرائن" حيث وردت في صيغة الجمع بما يدل على وجوب اعتماد عدة قرائن متظافرة قوية ومنسجمة وهي الشروط القانونية لاعتماد القرائن البسيطة للإثبات في المادة المدنية.

ومنح هذا التقدير لمن ليس له السلطة في التقدير يعد مسًّا فادحًا لحقوق الأشخاص باعتبار أن القاضي هو حامي الحريات، واعتبارًا بأن الفصل 8 من مجلة الحقوق والاجراءات الجبائية الصادرة سنة 2000 ورد على أنقاض الفصل 63 من مجلة الضريبة على الدخل الذي نصّ على أن التقدير يكون من وكيل الجمهورية الذي يراقب مدى تظافر القرائن وقوتها وتجانسها، وقد عدل الفصل 8 المذكور عن هذا الحلّ رغم أن جميع التشريعات المقارنة أعطت السلطة الى رئيس المحكمة الابتدائية. 

حرمة المسكن وحماية الحياة الشخصية تعد جميعها من الحقوق الدستورية التي تعد مكاسب لا يجب التراجع عنها بل يجب تدعيمها

ولكن هذه السلطة الممنوحة لأعوان مصالح الجباية قد تمكن من تشريع التعسف بقوة القانون والمس من حرمة المسكن عبر النص القانوني. ومن هذا المنطلق، ندعو المشرع للتدخل في أقرب وقت وسد هذا الفراغ القاتل حيث يهدد بشكل كبير حرمة المسكن ومن ثم الحياة الخاصة، وجميعها حقوق دستورية تعد مكاسب لا يجب التراجع عنها بل يجب تدعيمها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل التونسية ملزمة بالنفقة على أبنائها بعد الطلاق؟

زواج التونسيات بغير المسلم.. جدل القانون والمدنية