تتعدّد الدوافع والمصير واحد.. عن تجارب تونسيين ضحّوا بحياتهم في سبيل إنقاذ غيرهم
9 يونيو 2025
تتّخذ تضحية الأنا في سبيل الغير ألوانًا شتّى ودرجات متباينة أبسطها وأدناها بذلُ الوقت والجهد والمال والمركز والوظيفة، وأخطرُها وأرفعُها منزلة الموتُ في سبيل إنقاذ الآخرين، إنّه عمل فريد تتقاطع فيه قيم الشجاعة والإيثار والإحسان، فيدرك في بعض وجوهه مرتبة العمل الخارق الذي يسمو بصاحبه إلى مرتبة البطل الملحمّي.
هذا الفعل النبيل دافعه في الغالب الحبّ والواجب والفتوّة، ولا يقتضي بالضرورة سياقًا محدّدًا أو حيّزًا مضبوطًا، فقد يحدث في ساعة الوغى، كما يمكن أن يقع في مقرّ مغلق، وقد يكون الفضاء العموميّ المفتوح مسرحًا له، ولا يشترط استعدادًا مخصوصًا أو مهارة استثنائيّة، فالنفوس الكبيرة والأرواح الأبيّة قد تسكن أحيانًا أجسادًا هشّة، فتبثّ فيها قوّة قادرة على الإنقاذ والتحرير والإحياء، ذاك شأن الطبيبة "عبير عزيّز" والمربّي "ياسين البلاقي" والصحفي "توفيق مخلوف" والشابان "مجدي" و"عزّوز" ، هؤلاء وغيرهم من التونسيين قبلوا التحدّي والمواجهة في معركة وجوديّة غير متكافئة بدت فيها النهاية المأساويّة حتميّة لا فكاك منها، وما فرّطوا في شرف الفعل والمحاولة.
أنت روحي.. أنت قلبي.. أنت فلذة كبدي
في مقام تَحبّبٍ وثناء ومودّة، يستدعي الآباء والأمّهات في تونس عبارات عاطفيّة متميّزة تصف شدّة تعلّقهم بأبنائهم، كأن تخاطب الأمّ ابنها قائلة "أنت روحي، أنت نور عيني، أنت قلبي، أنت عمري، أنت فلذة كبدي.." هذا الملفوظ ليس مجرّد كلام فصيح بليغ مبنيّ على المجاز والتشبيه والاستعارة، إنّما هو قول قائم على الحقيقة والمطابقة يتجسّد لنا من خلال العديد من مشاهد الإنقاذ التي تحوّلت في تونس خاصّة سنتي 2024 و2025 إلى ظاهرة مثيرة.
عديدة هي مشاهد الإنقاذ التي تحوّلت في تونس خاصّة سنتي 2024 و2025 إلى ظاهرة مثيرة، بعد أن فقد المنقذون أرواحهم في سبيل إنقاذ غيرهم
ففي منطقة المندرة، بجهة طبلبة من ولاية المنستير يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2024، تمكّنت "عبير عزيز" من إنقاذ ابنها من موت محقّق، إذ نزل إلى السكّة، فأسرعت إليه، ورفعته إلى الأعلى بشدّة، ودفعته بقوّة إلى الرصيف، فأدرك القطار القادم بسرعة جنونيّة فأصاب جسدها الطاهر، فلم تصعد روحُها إلى بارئها إلّا بعد أن ألقت على ابنها نظرة وداع أخيرة، وأيقنت أنّها قد بثّت فيه الحياة إنقاذًا، وكانت قبل أربع سنوات قد وهبته الوجود ولادةً، أليس هذا الطفل الطريّ الناعم هو روحها حقًّا، أليس بعضًا منها أو كلَّها؟ من قال إنّها تتوخّى المجاز إذ نادته مرّات ومرّات "يا روحي، يا حياتي".
إنّه قلب الأمّ الوهّاب المعطاء، ولكنّ للآباء مآثر تضارع تضحية الطبيبة "عبير عزيّز" عطرًا وحُنوًّا ومعزّة، ولنا في قصّة ياسين البلاقي ومغامرة توفيق مخلوف آية على ذلك.
في شاطئ سيدي سالم بولاية بنزرت ذات صباح من شهر جوان/يونيو 2024، تفطّن "ياسين" الكاتب العام السابق للمندوبية الجهويّة بباجة، وهو على الشاطئ، إلى أنّ ابنيه يصارعان الأمواج والتيارات المائيّة البحريّة في حركات يائسة، وفيما كان البقيّة يستغيثون رهبة وفزعًا طالبين النجدة، هرع الأب في غير توجّس أو تخمين وطول تقدير، وباندفاع بطولي تمكّن من إيصال فلذتي كبده إلى برّ الأمان، لكنّ الجهد الذي بذله تسببّ له في توقّف قلبي رئويّ، فمات ميتة سيذكرها اِبنَاهُ وأفراد أسرته بحسرة وفخر في آن، وسيرويها الناس بعده بدهشة وإعجاب عبر الزمان.
بعد شهر واحد من ملحمة ياسين البلاقي، شهدت منطقة المرازقة من ولاية نابل فاجعة أخرى بطلها الصحفي "توفيق مخلوف" الذي حرّكه الحبّ الأبويّ لإنقاذ ابنيه من الغرق ودفعته شهامته إلى إنقاذ طفل ثالث، لكنّه لم يستطع الصمود أمام الأمواج، فجرفه البحر، ولقي حتفه مفارقًا الحياة حاملًا في الذاكرة نياشين المروءة وأوسمة الشهامة لرجل مقدام مغوار.
إنّ النعوت التي وصفْنا بها الآباء والأمهات الذين ماتوا فداء لأبنائهم تستحي أن توضع في محلّ الكلمات التي تحاكي شموخ أفعال جليلة بلغت أعلى درجات الفخامة والعظمة، ومع ذلك، فقد أنكر أحد الباحثين في دراسة معاصرة نسبة مصطلح "تضحية" إلى الآباء والأمّهات عند الموت في سبيل إنقاذ أبنائهم، فعدّ أفعالهم سليلة "غريزة حبّ الحياة" عند الفرد بمقتضى قاعدة "الانصهار العاطفي"، فالأمّ إذ تُخلّص ابنها من النيران وتحترق عوضًا عنه إنّما تنقذ نفسها، وقس على ذلك الأب حينما يغرق وقد أنجى ابنه من قاع البحر وأمواجه.
ماذا لو استأنسنا بهذه القاعدة في تفسير حادثة جدّت في الفترة نفسها تقريبًا يوم 16 ماي/أيار 2024 بأحد شواطئ النفيضة من ولاية سوسة راح ضحيّتها شابّ في الحادية والعشرين أنقذ صديقًا له تربطه به علاقة مودّة فائقة، إذ اندفع إليه مغيثًا لمّا رآه يطلب النجدة، ولمّا أتمّ مهمّته باقتدار لم يقْوَ على مغالبة الأمواج فكان مصيره الموت، ألا يمكن إخضاع هذا اللون من التضحية إلى مقولة "الانصهار الروحي"؟ ألم يقل التوحيدي متحدّثًا عن الصداقة "الصديق هو أنت، ولكن يخالفك بالجسد".
نداء الواجب أقوى من حبّ الحياة
لئن كان "الانصهار العاطفي" محرّكًا غريزيًّا متحكّمًا في تضحية الآباء والأمهات بحياتهم في سبيل أبنائهم ومحرّكًا روحيًا بين الأصدقاء والأحبّة، فإنّ موت فئة من الموظفين في سبيل الواجب هو عين النضال وآية الإنسانيّة، يتجلّى هذا خاصّة في قصص أعوان الحماية المدنيّة في تونس، فلا تمرّ سنة دون أن ترتفع قائمة الوفيات في عمليّات إنقاذ أفراد أو جماعات كانوا قاب قوسين أو أدنى من الموت حرقًا أو غرقًا، وقد تتخذ عمليّة الإنقاذ بعدًا رمزيًّا حينما يكون الناجي من الزوال والتلاشي ذا قيمة إداريّة حسّاسة تتّصل بالوثائق والسجّلات التي تحفظ حقوق المواطنين، تجسّد هذا من خلال النهاية المأسويّة التي أفضى إليها جهد عون حماية مدنيّة وهو يعاند النيران صامدًا متمرّدًا على لهيبها حرصًا على إنقاذ أرشيف تابع للصندوق الوطني للتأمين على المرض بمنوبة.
نماذج التونسيين الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل إنقاذ الآخرين عديدة، ويمكن أن نستوحي منها أعمالًا مسرحيّة وسينمائيّة ودراميّة بنّاءة ومساعِدة على بناء شخصيّة "الفتى التونسيّ الأبيّ" لعلّها تساهم في الحدّ من موجة الأبطال المضطربين
حصلت هذه المغامرة الجريئة يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، مشهد موت العون ذي الثامنة والثلاثين ربيعًا أقرب إلى المشاهد السينمائيّة إثارة وتشويقًا وتداخلًا، الصورة الحقيقيّة الخاليّة من التضخيم والمبالغة والخدع الصوتيّة والمرئيّة، تمثّلت في صعود العون عبر آلة رافعة إلى مستوى الطابق الرابع، كان يريد التحقّق من معرفة مصدر النيران لأنّ الدخان قد عبّأ المكان من كلّ الجهات، ورغم أنّ الأضرار البشريّة مستبعدة بمقتضى وقوع الحادثة يوم عطلة أسبوعيّة، فإنّ العون قد تحلّى بالشجاعة فأصرّ على مواصلة مغامرته حتّى تراءت له بؤرة الحريق، فأنبأ رفاقه، وهو ما سيساعد لاحقًا على وضع إستراتيجية ذلّلت عمليّة الإطفاء، غير أنّ الدخان في تلك اللحظة المصيريّة قد بلغ ذروة الكثافة فاحتجبت على بطل الإنقاذ الرؤية لكنّ صوته ظلّ قويًّا واضحًا جليًّا بدأ بخبر دقيق وظيفيّ مفيد في عمليّة الإنجاد، وانتهى بصرخة مدوّيّة أخبرت عن سقوط الجسد من حوالي خمسة عشر مترًا إلى مستوى الطابق السفليّ وصعود الروح إلى العالم العلويّ، ميتة مشرّفة نال العون بعدها ما يستحقّ من الإشادة والتكريم من السلطة والإدارة التي ينتمي إليها والإعلام وعامّة المتابعين للخبر على صفحات التواصل الاجتماعي.
ولئن كان ما حصل لهذا العون وأمثاله وثيق الصلة بمهنة الحماية المدنيّة في تونس وفي العالم كلّه، فإنّ فئة أخرى من الذين يبذلون حياتهم في سبيل الآخرين، لا تحرّكهم الأمومة أو الأبوة أو العشرة أو الواجب على النحو الذي ذكرنا في العيّنات السابقة، إنّما تحرّكهم الشهامة والفتوّة في مواقف فجئية طارئة لا يكون المنقذ قد قرأ لها حسابًا مسبقًا.
شهامة فائقة في لحظة بطولة طارئة
"ليست ابنة خاله ولا هي بابنة عمه ولم تكن له بها أيّ معرفة سابقة.." بهذه الكلمات فسّرت الأمّ القيروانيّة علاقة ابنها "وجدي" الذي مات في بلجيكا طعنًا بسكّين بعد أن نجح في إنقاذ امرأة وابنتها الصغرى من عمليّة سطو (براكاج) تأبّط فيه الجاني سلاحًا أبيض.
لم يكن المحرّك في هذا السلوك الفاضل النبيل انصهارًا عاطفيًّا أو حبًّا أو قرابة دمويّة أو واجبًا قد يثمر لصاحبه إن نجا تكريمات وترقيات وذِكرًا حسنًا، إنّما الموقف قد جرى في لحظة طارئة وفي مكان بعيد عن الأنظار حيث لا شاهد على البطل المنقذ ولا محفّز له غير شهامة عفويّة فائقة وفتوّة راسخة متأصلة وجرأة صادقة عفيفة لا تشوبها المطامع والرغبة في الثواب المادّي الآجل.
ما قام به "وجدي" في موفى شهر ماي/أيار 2025 يحاكي أو يكاد ردّ فعل "عزّوز" شابّ من السيجومي بولاية تونس، يشتغل حلّاقًا عاين من محلّ عمله منحرفًا قد اختطف حقيبة امرأة حامل فيها أمتعتها وأموالها وهاتفها، فطارده إلى أن لحق به، ولمّا أدركه استعاد منه الحقيبة، وفي غفلة من الجاني تلقّى طعنة أردته قتيلًا، فكان لهذا الحدث أثر صادم بليغ في سكّان المنطقة الشعبيّة تجسّد تمجيدًا واعترافًا بالجميل وتشكّل من خلال صورة عملاقة للشاب الشهم الأبيّ علّقها أبناء الحيّ على واجهة أحد المحلّات الكبرى.
ما صدر عن "وجدي" خارج تراب الوطن وما أنجزه "عزّوز" في السيجومي، يؤكّد أنّ صفة الشهامة مازالت قائمة في نفوس العديد من الشباب والكهول في واقعنا الراهن رغم ما يراودنا أحيانًا من يأس بسبب ما نراه من استقالة وعدم اكتراث لدى فئة كبيرة من جيل اليوم.
يجب تطوير أساليب تكريم المنقذين المضحّين بحياتهم من خلال تخليد صورهم وتثمين أعمالهم ماديًا وتوثيقيًا ورمزيًا، فأفعالهم البطوليّة لا ينبغي أن تظلّ مجرّد أخبار في صفحات الحوادث
يتّضح أنّ روح التضحية في سبيل إنقاذ الآخر مبثوثة في الجنسين ذكورًا وإناثًا، وليست حكرًا على طبقة بعينها أو مجال مهنيّ مخصوص، إذ تصدر عن المربّي والطبيب والعاطل وغيرهم من الفئات الاجتماعيّة، لكنّ لا بدّ أن نعترف بأنّ الشباب أكثر اندفاعًا إلى مغامرات مساعدة المستجير وإنقاذه والتضحية من أجله.
إنّ العيّنات التي عرضناها ومئات من أمثالها تصلح نماذج يمكن أن نستوحي منها أعمالًا مسرحيّة وسينمائيّة ودراميّة بنّاءة ومساعِدة على بناء شخصيّة "الفتى التونسيّ الأبيّ" لعلّها تساهم في الحدّ من موجة أبطال مضطربين، فيهم السّاذج والمحبَط والآثم والبوهيميّ، ومن فرط تواتر حضورهم في تلفزيوناتنا سكنت أقوالهم السخيفة وأعمالهم الهابطة أذهان أبنائنا ونفوسهم وانعكست على سلوكهم.
إنّ الفُتوّة بما هي جُمّاعُ قيم تتآلف فيها معاني العفة والكرم والشجاعة.. غالبًا ما تكون متأصلة ثقافيًّا وأدبيًّا ودينيًّا وأخلاقيًّا، ولكّننا نحتاج في أيّامنا هذه إلى إحيائها وتثمينها، إن من خلال البرامج التربويّة أو المتابعة الإعلاميّة الجادّة أو الأعمال الفنيّة الراقية أو عبر المؤسّسات الرسميّة التي ينبغي أن تُطوّر أساليب تكريم المنقذين المضحّين بحياتهم من خلال تخليد صورهم وتثمين أعمالهم ماديًا وتوثيقيًا ورمزيًا، فأفعالهم البطوليّة لا ينبغي بكلّ حال من الأحوال أن تظلّ مجرّد أخبار في صفحات الحوادث.
الكلمات المفتاحية

جدل الالتحاق بالمعاهد النموذجية في تونس.. وزارة التربية تتفاعل
سبق أن توجّه عدد من الأولياء في خطوة تصعيدية، إلى المندوبيات الجهوية للتربية للمطالبة بالحصول على أوراق الامتحانات والتحقق من الأعداد المسندة لأبنائهم، في محاولة للكشف عن أي تجاوزات محتملة

كيف تمر بالجمارك في تونس؟ دليل للمغتربين والعائدين
كيف يعمل نظام الجمارك في تونس؟ أبرز الإجراءات والخطوات في هذا المقال عن الديوانة التونسية

قصة خبيب حمدي.. ما لا يُرى بالعين يُدرك بالإرادة
خبيب حمدي لـ"الترا تونس": "هو طريقك مهما ساعدك الناس وساندوك، في الأخير ستجتازه لوحدك ولك القرار. وتكتشف مع الوقت أن حياة كل فرد فينا متقلّبة لا يمكن السيطرة على كلّ تفاصيلها ولا نملك دائمًا رفاهية الاختيار"

وزارة التربية تتعهد باستكمال إدماج الأساتذة والمعلمين النواب سنة 2026
أعلن وزير التربية نور الدين النوري، يوم الاثنين 14 جويلية 2025، عن انطلاق الوزارة في التحضير لإدماج الدفعة الثانية من الأساتذة والمعلمين النواب، وذلك بداية من سنة 2026، مؤكدًا أن الملفات المعنية ستخضع للدراسة خلال الفترة القادمة لضمان التحاقهم بالوظيفة العمومية بصفة رسمية

بعد دعوات لمقاطعة حفل الشاب مامي.. مدير مهرجان الحمامات يرد
أثار إعلان مشاركة الفنان الجزائري الشاب مامي، ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي لسنة 2025 موجة من الانتقادات وفي المقابل، دافعت إدارة المهرجان عن خيارها

أنس جابر تتراجع إلى المرتبة 71 عالميًا بعد انسحابها من ويمبلدون
شهد التصنيف العالمي الجديد لرابطة محترفات التنس (WTA)، الصادر يوم الاثنين 14 جويلية 2025، تراجعًا جديدًا للاعبة التونسية أنس جابر، التي خسرت 12 مركزًا لتتراجع إلى المرتبة 71 عالميًا

الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس يرشّح فرانشيسكا ألبانيزي لجائزة نوبل للسلام
فرانشيسكا ألبانيزي هي محامية وخبيرة قانونية دولية إيطالية، تشغل منذ عام 2022 منصب المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة