27-يونيو-2022
تأخر النمو الذهني والجسدي لدى الأطفال

غياب الأنزيم القادر على تفكيك الفينيلالين في الكبد، يستوجب تحديد نظام غذائي مميز وصارم (صورة توضيحية/ getty)

 

سنة 1950، نشرت بارل باك Pearl Buck كتابها "الطفل الذي لا يكبر أبدا"، الذي تحدّثت فيه عن تجربتها كأم مع حالة التأخّر الذهني التي أصيبت بها ابنتها في سن مبكّرة: "لقد كنت أشعر بفخر كبير كلما تحدّث الناس عن جمالها الاستثنائي وعن عمق نظرة عينيها الزرقاوين. لا أدري متى توقّف ذهنها عن النمو، ولا السبب في ذلك". 

"الفينيل ستينوري" مرض ناتج عن عدم قدرة الجسم على استيعاب وتحويل الأحماض الأمينية الموجودة في البروتينات، ما يؤدي إلى تراكمها على مستوى الدماغ وهو ما يسبّب اضطرابات في الوعي والنمو والحركة

ربما لم تظفر بارل بإجابة عن تساؤلاتها، لكن أمًّا أخرى هي Borgny Egelend لم تفقد الأمل، أو ربما قادتها الأقدار إلى الدكتور النرويجي أبجورن فولنغ Asbjorn Folling الذي وافق، بعد إلحاح الأم، بتشخيص حالتي طفليها، "ليف" و"داغ"، اللذين كانا يعانيان آنذاك من حالة ذهول دائم وفقدان للإدراك، عجز الحركة وتحول لون عينيهما نحو الأزرق، مع رائحة مميزة تفوح منهما، والتي كانت السبب في لجوء دكتور فولنغ إلى تحاليل إضافية لبول الطفلين، ما كان ليتفطن لها لولا تكوينه الأساسي في الكيمياء قبل الطب، ما قاده تباعًا لاكتشاف مرض "الفينيل سيتونوري Phenylketonuria".

"الفينيل ستينوري" هو أحد الأمراض الأيضية الوسيطة، les maladies métaboliques، ينتج عن عدم قدرة الجسم على استيعاب وتحويل الأحماض الأمينية الموجودة في البروتينات، التي نستهلكها في أغلب الأغذية كاللحوم والحبوب، ما يؤدي إلى تراكمها في الجسم، على مستوى الدماغ تحديدًا، فيسبّب بذلك تعطّل وظائفه، وبالتالي اضطرابات في الوعي، النمو والحركة. 

أكثر من 500 حالة مسجلة ومحل متابعة حسب أرقام قسم طب الأطفال بمستشفى الرابطة بالعاصمة. ما هي خصوصيات هذا المرض وعلاجه؟ ما هي الإجراءات الوقائية منه وتكاليف العلاج؟ أي دور الدولة في رعاية ومعاضدة هذه الفئة؟ هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عنها في التقرير التالي.

التشخيص المبكّر هو الحل

"بالنظر إلى فشل منظومة الضمان الاجتماعي في التكفل بتكاليف علاج الأمراض الوراثية الأيضية، يصبح التقصّي الاستباقي ما بعد الولادة ضربًا من اليوتوبيا". هذا ما جاء في ورقة بحثية من إنجاز مجموعة من أخصائيي طب ما بعد الولادة والبيوكيمياء بالشراكة بين مستشفى الرابطة وكلية الطب بالمنستير. 

 

الكمية الموجودة من الفينيلالين في بعض المواد الغذائية

 

كغيرها من النصوص، يشير الأخصائيون إلى موطن الداء، وهو غياب نظام تحاليل التقصي المعمق ما بعد الولادة. وهو ما يفسّر ما جاء في شهادتي كل من أمل من ضواحي القيروان، التي تقول: "بعدما يناهز السنة على ولادة ابني البكر، لاحظت أنه لا يستطيع الجلوس كباقي الأطفال، فلجأت إلى بعض الأطباء في الجهة، عجز كلهم عن تحديد المرض. وبعد تحاليل كثيرة، نصحني أحدهم إلى اللجوء إلى قسم طب الأطفال بمستشفى الرابطة، أين تمكنوا من تشخيص المرض، خاصة عند علمهم أن زواجي هو زواج أقارب من الدرجة الأولى". 

أرقام قسم طب الأطفال بمستشفى الرابطة بالعاصمة تشير إلى أكثر من 500 حالة تعاني مرض "الفينيل ستينوري" مسجلة ومحل متابعة

كذلك تقول سميرة من سوسة، والتي لم يستطع الأطباء في جهتها تشخيص المرض، ولولا توجهها أيضًا إلى قسم الأطفال بمستشفى الرابطة بالعاصمة، لما تمكنت من سماع كلمة "ماما" بعد ثماني سنوات من ولادة ابنها، باتباعها الحمية الغذائية التي تمثل العلاج الوحيد لهذا المرض.

"يمكن ولو نسبيًا استباق وقوع بعض هذه الحالات عبر القيام بالتحاليل الطبية اللازمة قبل الزواج". يقول أنيس، أحد الممرضين بمستشفى الرابطة. يضيف: "لكن أغلب التونسيون لا يبالون ولا يقومون بهذه التحاليل كما يجب". من جهة أخرى، ونظرًا للتكلفة المرتفعة للتحاليل الجينية القادرة على كشف هذه الأمراض الوراثية، فإن الأطباء يشترطون إما ظهور أعراض المرض على أحد الأبوين، أو بالاعتماد على ماضيهما الطبي: كالنطق المتأخر لدى أحدهما في سن الطفولة. وللإشارة، فإن إجراء تحاليل جينية في فترة الحمل قد يؤدي إلى خطر الإجهاض بنسبة من 1 إلى 3%، حسب ما جاء على لسان الأطباء ممن اتصلنا بهم، لهذا يفضّل إجراء الفحوصات بعد الوضع.

الملاحظ أن المشكل مركّب، فمن جهة، هناك لا مبالاة من طرف المواطنين، ومن جهة أخرى هناك منظومة الصحة العمومية التي تعيش حالة موت سريري هي الأخرى، وتحتاج العلاج أكثر ممن يلجؤون لها. أما في البلدان ذات الدخل المرتفع، فهناك مجموعة من التحاليل، Batterie des tests، يقع القيام بها في اليوم الثالث من الولادة للرضيع، وذلك للكشف على هذه الفصيلة وغيرها من الأمراض.

الحمية.. لمن استطاع إليه سبيلًا

كما سبق وأشرنا، يتمثّل المرض أساسًا في غياب الأنزيم القادر على تفكيك الفينيلالين في الكبد. لهذا، وحسب التشخيص ونسبة هذه الأحماض في جسم المريض، يقع تحديد نظام غذائي مميز وصارم، قائم على نسب محددة من الفينيلالين، ويقع إعادة تعييرها باستمرار من طرف الأطباء حسب تطوّر حالة المريض ومدى استجابته للنظام الغذائي.

يستثني هذا النظام الغذائي كافة اللحوم، الحمراء والبيضاء، ومشتقات الحبوب كالخبز، إلى جانب البيض، والمواد التي تحتوي على مادة الأسبرتام Aspartame. فيما يبقى القليل من الخضر على غرار الجزر، والفاكهة كالإجاص، بصفة مراقبة. فيما عدا ذلك، يسمح بتناول السكر والمشروبات الغازية، طبعًا حسب كل حالة منفردة وحسب ما يوصي به الأطباء.

توجد مواد غذائية مخصصة لأصحاب تأخر النمو الذهني والجسدي لدى الأطفال، كالنشاء والحليب، غير أن أسعارها باهظة جدًا مقارنة مع مستويات الدخل في تونس

يبقى الإشكال في تزويد الجسم بما يحتاجه من الأحماض الأمينية الموجودة في البروتينات واللازمة للنمو والحركة، والتي يجب أن تكون مخففة من البروتين. لهذا توجد مواد غذائية مخصصة لأصحاب هذه الأمراض، كالنشاء والحليب، إلا أن أسعارها مرتفعة جدًا بالمقارنة مع مستويات الدخل في تونس، 40 دولارًا للكلغ من بودرة الحليب، و22 دولارًا للكلغ من مادة الفارينة. 

 

فاتورة لإحدى الأمهات توضّح أسعار بعض المواد الخاص بالحمية (قرابة 1500 دينار)

 

"هناك اضطراب كبير في توفير مادة الحليب من الكنام". تقول أمل. "أنا أمّ لطفلين ويجب أن تكون لديّ هذه المواد بطريقة منتظمة حتى أحافظ على استقرار صحتهما". 

كشأن أغلب الأدوية، أثرت أزمة سداد ديون الصندوق الوطني للتأمين على المرض تجاه مزوديه، على عملية تزويد المحتاجين لهذه المواد الغذائية، ما دفعهم نحو البحث عن استيرادها عن طريق الأصدقاء والعائلة من الخارج، أو اللجوء إلى طرق أخرى، كالسوق السوداء. 

أمل (أم لطفلين يعانيان الفينيل ستينوري): أعيش حالة تأهب ومتابعة يومية لطفليّ، لكن ما يثير فزعي هو هاجس أن ينفد الحليب أو النشاء الخاصين بهما

"أعيش حالة تأهب ومتابعة يومية لطفلي، لكن ما يثير فزعي هو هاجس أن ينفد الحليب أو النشاء". تقول أمل، فيما تضيف سميرة: "لا يستطيع طفلي النوم دون أن يشرب الحليب، لهذا أتعامل مع المزود الوحيد في تونس، وكذلك أوصي كل قريب أو صديق قادم من الخارج أن يحضر لي بعض هذه المواد".

ربما تمكنت هاتين العائلتين من تدبر أمرها في توفير هذه المواد مرتفعة الأسعار، لكن ماذا عن باقي العائلات؟ "في كل مرة لا أتمكن من علبة حليب أو نشاء، تتدهور حالة ابنتي نحو الأسوأ، وتتحول حياتي إلى كابوس". تقول حياة من ضواحي العاصمة. وتضيف: "تتطلب حالة ابنتي المتابعة اليومية حتى لا تقوم بأكل قطعة خبز أو شيء ما لا يتوافق ونظامها الغذائي، ما يعني أن عليّ أن أراقبها بنفسي مع عدم إمكانية العمل أو أي شيء آخر. حياتي صعبة جدًا".

حياة (أم لطفلة تعاني الفينيل ستينوري): في كل مرة لا أتمكن فيها من شراء علبة حليب أو نشاء، تتدهور حالة ابنتي نحو الأسوأ، وتتحول حياتي إلى كابوس

حاولنا الاتصال بالمسؤولين في الوزارة، لمعرفة هل هناك خطة لتحسين الإحاطة وتعميم هذا الاختصاص على الجهات، لكن لا إجابة واضحة عدا "إن شاء الله". أما دور الكنام فهي مسألة مركبة تمتد من خلاص المستحقات المالية للمؤجرين تجاه الأجراء، وصولًا إلى الأزمة الهيكلية التي تعيشها المؤسسات العمومية بصفة عامة. 

لا بدّ من التذكير والتنويه في الختام، بدور الأمهات بصفة خاصة، بدءًا من بارل وبورني وصولًا إلى أمل، سميرة وحياة، وكل الأمهات اللاتي تحولن إلى ممرضات بدوام دائم لأبنائهن: يتابعن، يمرّضن، يرعين أطفالهن حتى تستقيم صحتهم "ويتمكنوا من النطق ولو ببضعة كلمات"، كما قالت إحدى محدثاتنا قبل أن تجهش بالبكاء.