22-ديسمبر-2018

ينتظم معرض "القرجي المتعدد" إلى غاية 10 فيفري/ شباط 2019

لم تكن زيارة التدشين التي قام بها مؤخرًا رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي لمعرض عميد مدرسة تونس للفن التشكيلي الرّسام الرّاحل عبد العزيز القرجي برواق قصر خير الدين بالمدينة العتيقة بتونس، والمتواصل إلى غاية 10  فيفري/ شباط 2019، سوى زيارة مجاملة يمكن حملها على عدّة أوجه منها الوجه السياسي وهو أن الرئيس يريد أن يظهر للشعب بمظهر الدّاعم للثقافة والفنون والآداب، وهي من تقاليد السياسة البورقيبية التي تربى عليها الباجي قائد السبسي إذ يتسنّى له في زحمة المشاغل والمواعيد الرئاسية أن يفتتح معرضًا للرسم في قلب الحفصية (حي شعبي بالمدينة العتيقة).

اقرأ/ي أيضًا: "سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون

هناك أيضًا الوجه الإنساني والعلائقي لهذه الزيارة وهو أن الرئيس جمعته صداقة قديمة بالرسام الراحل عبد العزيز القرجي عندما كانت مدرسة تونس للفن التشكيلي في الستّينيات والسّبعينيات في أوجها وكان رموزها في قمة أمجادهم داخل تونس وخارجها، وعندما كان السياسيون في العهد البورقيبي يتقربون من أهل الفنّ والثقافة ويحضرون افتتاح المعارض التشكيلية والمسرحيات ويجالسونهم في مقاهى باريس ولونيفار وفلورنسا والماجستيك.

"القرجي المتعدد  gorgi Pluriel" هو عنوان المعرض الذي يحتفي بتجربة أحد أهم الرسامين في تاريخ تونس الحديث وهو عبد العزيز القرجي

إن زيارة الباجي قائد السبسي لمعرض "القرجي المتعدد" لن تضيف شيئًا للفنان ومعرضه وهو الذي قضى عمره متعاليًا عن السياسيين لا يعنيه سوى الفن والتجريب في الفن، بقدر ما تجرد الفن والإبداع وتفرغه من روحه الحرّة والمتمرّدة وتلوثه بالسياسة، هذه الزيارة تضيف للرئيس نفسه ويقتات منها سياسيًا واتصاليًا، فالقرجي وهو في بيته السماوي يعطي للرئيس مساحة ضوء أغفلتها فرشاته.

كان عبد العزيز القرجي مسكونًا بسحر الحديد وعالمه الطري الصلب (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

"القرجي المتعدد  gorgi Pluriel"، هو عنوان المعرض الذي يحتفي بتجربة أحد أهم الرسامين في تاريخ تونس الحديث وهو عبد العزيز القرجي ( 1928 ــ 2008) بمناسبة عشر سنوات على رحيله. أكثر من 300 عمل فني توزعت على طابقي الرواق البلدي قصر خير الدين ضمن تمشي كرونولوجي وفني. فعبد العزيز القرجي لم يكن منضبطًا لتقنية بعينها أو سجينًا لمادة أو محمل بعينه، إنه الشجاع المتمرد إلى أبعد الحدود.

القرجي وبالرغم من نشأته الفنية الكولونيالية أيام الاستعمار الفرنسي إلا أنه انخرط في مسألة الهوية التي طرحت بشدة في تونس خصوصًا مع تداعيات ما عرف بقضية التجنيس. كما شارك بقوة وفاعلية في تونسة الثقافة التونسية ونشر فنون تونسية صرفة مع بداية الاستقلال.

ولكي يكون كذلك اتجه عبد العزيز القرجي مثله مثل أبناء جيله من الرسامين التونسيين يحي والزبير والهادي التركي وعمار فرحات وعلي بن سالم وإبراهيم الضحاك ونجيب لخوجة إلخ، إلى المخزون الثقافي والحضاري التونسي واستنطق منه جماليات وإبداعات فنية خالدة.

يبدو أن عبد العزيز القرجي كان مسكونًا بسحر الحديد وعالمه الطري الصلب فسكن إليه طيلة تجربته الفنية

كان عبد العزيز القرجي نسّاجًا استثنائيًا

من الدروب التونسية التي مشى فيها القرجي بثبات هي عالم النسيج التقليدي. لقد كان هذا الرسام المسكون بالفن يترصد أيادي السيدات التونسيات من وراء المناسج وهن ترسمن بالسليقة رموزًا وتيمات بربرية وفينيقية وعربية. لكن القرجي لم يكن مقلدًا لتلك الأنماط النسيجية بل أسكن أعماله ومنسوجاته العديدة رسومًا سوريالية وألوانًا تونسية. والمعرض احتوى جزءًا يسيرًا من منسوجات القرجي المشتتة لدى المؤسسات الرسمية والخاصة ولدى جامعي الأعمال الفنية من الأجانب والتونسيين.

مع القرجي إغراءات الحديد لا حدود لها

يبدو أن هذا الرسام كان مسكونًا بسحر الحديد وعالمه الطري الصلب فسكن إليه طيلة تجربته الفنية. ففي فترة السبعينيات حول عبد العزيز القرجي العديد من أعماله الخطّية إلى نصب ونحتيات وجداريات صغيرة من الحديد فجاءت فاتنة ومغرية للعين ومجددة إلى أبعد الحدود. لكنه لم يكتف بذلك بل ذهب إلى فن الجدارية لينفد ما يدور في ذهنه أفكار حديدية. ولرؤية إحدى خالداته من الحديد التفتوا ذات مرة بساحة باستور بالعاصمة التونسية إلى واجهة مبنى البريد التونسي بالبلفدير وستشاهدون روعة حديد القرجي في محاكاة لمشهد طيور حديقة البلفدير.

عاد القرجي للحديد في أخرياته وهو على عتبات الشيخوخة فحوّل العديد من شخصيات لوحاته إلى منحوتات غريبة تشبه الكائنات الفضائية لكنها تشبهنا قليلًا بعد تأمّل ونظر. عيّنة أعمال الحديد التي يقدمها معرض قصر خير الدين هي عينة أصيلة من تجربة هذا الفنان مع الحديد وإغراءاته.

اقرأ/ي أيضًا: صالونا الشباب والخزف المعاصر... رهانات وتعثّرات

 الرسم المائي.. يبدو أنه الحديقة الخلفية التي يستريح فيها عبد العزيز القرجي (رمزي العياري/ الترا تونس)

القرجي: سيرة خزّاف

ومن مخازن الفنون والحرف التونسية الأصيلة التي طرقها القرجي هو التفاتته الذكية إلى عالم التشكيل بالطين في تجاه تجارب خزفية على طريقته.

لقد حاول القرجي وهو يجرب في "الجلّيز التونسي" أو يروي قصصًا فيها غابات وزياتين وصحاري ونساء جميلات. لم يقلد السائد بل استنبط ألوانًا وأشكالًا ونباتات أخرى لم تكن معهودة في الخزف التونسي الكلاسيكي. ونفذ القرجي بعض أعماله الخزفية في ديكورات بعض النزل بالحمامات وسوسة وجربة.

المعرض يروي من جملة ما يروي سيرة خزفيات القرجي حيث يجد المتجول المخطوطات الأولى لأفكار الخزف وكيف يبني الفنان فكرته لتتحول إلى منجز فني.

الأعمال الخطّية للقرجي والتي يقدم معرض قصر خير الدين جزءًا منها تسكن في تلك المنطقة بين الكاريكاتير والسوريالي

الغرافيك والرسم المائي: عوالم السكينة الأولى

الرسم الخطي كان المجال الحيوي للفنان الكبير الراحل الزبير التركي الذي كان نجمًا ولا يزال في الخطّيات، لا أحد يضاهيه في تلك التقنية وكل الذين سلكوا نهجه أطفأتهم رياح التركي العاتية. وحده عبد العزيز القرجي من نافسه بندّية واشتغل بأريحية في هذا المجال ونجاحه في اعتقادي كان وليد عنصري قوة وهما جرأة القرجي وشجاعته الفنية. ومن جهة ثانية، كان القرجي يفكر داخل عالم الرسم وله مشروع ثقافي وله استراتيجيات في عمله الإبداعي.

الأعمال الخطّية للقرجي والتي يقدم معرض قصر خير الدين جزءًا منها تسكن في تلك المنطقة بين الكاريكاتير والسوريالي. فالشخصيات المرسومة تدعوك للضحك لكنها تستوقفك في أوج ضحكتك وتقول لك نحن معًا في أوج التراجيديا. لا تطل في ضحكك، فقط  تعالى نتساءل معًا عن منزلة الإنسان في الوجود. لا تضحك عزيزي فأنا سؤال فلسفي.

وحده عبد العزيز القرجي من نافس بندّية الفنان الراحل الزبير التركي في مجال الرسمي الخطي ( رمزي العياري/ الترا تونس)

أما الرسم المائي فيبدو أنه الحديقة الخلفية التي يستريح فيها القرجي كلما أعيته الحياة  وكلما عاد من أسفاره العديدة بأوروبا والولايات المتحدة الامريكية وإفريقيا. الرسم المائي ذاك السهل الممتنع نجده صدى لكل الأعمال تقريبًا، هو البدايات والنهايات لمسيرة عبد العزيز القرجي، لا يغريه الرسم الزيتي بقدر إغراء انسيابية الفرشاة المبتلة بالماء والألوان على البياض. عشرات اللوحات المعروضة في هذا العرض الضخم والتي تبين تمكّن هذا الفنّان القدير من هذه التقنية وخاصة في الأعمال المليئة بالتفاصيل الدقيقة.

وباعتبار عبد العزيز القرجي مؤسسًا لمدرسة تونس للفن التشكيلي ( وهي مجموعة فنية ارتأت لنفسها الدفاع عن الفن التشكيلي التونسي نذكر من أعضائها عمار فرحات وموس ليفي وبيار بوشارل والثلاثي التركي) وترأسها لسنوات عديدة وكان صارمًا في إدارتها، فإن هذا المعرض كرّم هذه المجموعة ومنحها قاعة في الطابق العلوي من غاليري قصر خير الدين وهي أعمال مملوكة من قبل مؤسسات مثل وزارة الشؤون الثقافية وبلدية تونس العاصمة وبنوك وجامعي أعمال تشكيلية.

معرض "القرجي المتعدد" برواق قصر خير الدين بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس والذي انطلق يوم ذكرى وفاته العاشرة ويمتدّ إلى غاية 10 فيفيري/ شباط 2019 وأسهم في بعثه لفيف من مؤسسات وأشخاص ومن عائلته على وجه التحديد، يعدّ كتابًا مفتوحًا يقدّم مسيرة استثنائية لرسام تونسي كبير وأصيل، بانورامي ومتعدد له إسهامات نوعية في الثقافة التونسية لعقود وخاصة في فترة بناء دولة الاستقلال و" تونسة الثقافة ". كما درّس أجيالًا من الرسامين والفنانين بمدرسة الفنون الجميلة بتونس وارتقى بالذائقة العامة للتونسيين من خلال أعماله الخالدة ومن خلال منجزات الرسامين الذين مرّوا عبر رواقه الخاص بضاحية سيدي بو سعيد الشهيرة.

القرجي طائر فينيق لا يموت وأحيانًا ينهض من تحت الرّماد مزهرًا ومبهجًا، كما هو الحال هذه الأيام.

من اليمين إلى اليسار عبد العزيز القرجي وعمار فرحات والزبير التركي وبيار بوشري

اقرأ/ي أيضًا:

عرض "المرقوم".. حينما يُخلق "المذكّر" من أضلع "المؤنّث"

رسم مائة شخصية في تاريخ تونس.. مشروع وطني بريشة شباب مبدع