14-سبتمبر-2023
انتخابات

لا يُنتظر أن تحمل الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل عنوان تغيير سياسي مع سلطة منحرفة عن جادة الديمقراطية (صورة أرشيفية/حسن مراد/Getty)

مقال رأي 

 

تنتهي العهدة الخماسية لرئيس الدولة قيس سعيّد في الخريف المقبل، والمفترض أن تنتظم خلاله الانتخابات الرئاسية 2024. والوضع الطبيعي يقتضي أنه لا حاجة لاستدعاء مؤشرات لتنظيمها باعتبار دوريتها آليًا، بيد أن القطيعة التي أحدثها الرئيس على المستوى الدستوري بعد تعليق العمل بدستور 2014، الذي اُنتخب على أساسه سعيّد عام 2019، وفرضه دستورًا جديدًا كتبه بنفسه لنفسه في صيف 2022، دفعت نحو حالة من الغموض.

تنتهي العهدة الخماسية لسعيّد في الخريف المقبل، والمفترض أن تنتظم خلاله الانتخابات الرئاسية 2024 بيد أن القطيعة التي أحدثها الرئيس بعد تعليق العمل بدستور 2014 دفعت نحو حالة من الغموض

أعلن سعيّد، على هامش زيارته لضريح الراحل الحبيب بورقيبة في أفريل/نيسان المنقضي، أن الانتخابات ستنتظم في موعدها، وهو ما أكده بدوره رئيس هيئة الانتخابات في تصريح في شهر أوت/أغسطس الفارط، بيد أن هشاشة المنطق المؤسساتي في سياق سلطة "الرجل الواحد"، تفتح على كل الاحتمالات. رئيس الدولة مثلًا أعلن بعد إعلانه "التدابير الاستثنائية" التزامه بالدستور، ولكن سرعان ما انقلب عليه ليفرض مسارًا تأسيسيًا جديدًا.

المرجّح، مبدئيًا، هو التزام رئيس الدولة بتنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها في خريف 2024، ليس فقط احترامًا لانتهاء ولايته الرئاسية، بل باعتباره سيكون متضرّرًا من تأجيلها. المسألة، بالنهاية، مصلحية وليست مبدئية. فرئيس الدولة يقدّر مصلحته دائمًا ثم يجد أي مسوّغًا قانونيًا لتبرير "ما يريد" ببساطة. العامان الماضيان أثبتا أن سعيّد محترف في التلاعب بالقوانين والفصول، ودائمًا الغاية هي تطويعها كما يشتهي دون رقيب لخدمة رغبته البحتة. فإن قدّر مصلحة في التأجيل مثلًا، لن يحتار في التسبيب.

 

 

لكن لماذا سيتضرّر سعيّد من تأجيل الانتخابات؟ الأسباب متعدّدة. أولّها تثبيت صورة النظام غير الديمقراطي الجاري تأسيسه بعد 25 جويلية 2021 وبالخصوص في مستوى الشرعية جوهر الممارسة الديمقراطية.

إضافة لذلك، ثبت الفشل الذريع لسعيّد في إدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، مع التدهور غير المسبوق في القدرة الشرائية للتونسيين وتسجيل فقدان غير عادي في المواد الغذائية الأساسية. هذا الفشل الرّاجع لعدم كفاءة الرئيس من جهة وسوء اختياراته سياسة وأشخاصًا معاونين من جهة أخرى، هو حقيقة تؤدي بصفة تصاعدية إلى تراجع شعبية الرئيس. بذلك، كلّما تأخر عرض سعيّد نفسه على تجديد الثقة، كلما زاد تراجع شعبيته وبالتتابع يصعّب عليه المهمّة. 

سيتضرر سعيّد من تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية القادمة فكلّما تأخر عرض نفسه على تجديد الثقة، كلما زاد تراجع شعبيته وبالتتابع يصعّب عليه المهمّة

يرتبط هذا السّبب بعنصر آخر يرجّح أنه دافع لعدم تأجيل الانتخابات وهو واقع تصحير سعيّد للمشهد السياسي بعد استهدافه الممنهج للمعارضة عبر وضع لفيف من قادتها في السجون في قضايا مُثارة جلّها بعنوان "تآمر على أمن الدولة"، وهي ليست حقيقة إلا قضايا "تآمر الدولة على المعارضة".

استطاع سعيّد بتقييد النشاط الحزبي وضرب الحريات العامة وفبركة القضايا بالتتابع إشاعة مناخ من الترهيب في الفضاء العام، ومن تهيئة مشهد سياسي غير تنافسي. مثلًا في قضية ما يُسمى التآمر على أمن الدولة، زجّت السلطة بسياسيين ديمقراطيين في السجن، ينتمون إلى تيارات مختلفة، لأنهم، واقعًا، يتحاورون فيما بينهم لإطلاق عرض سياسي جديد، وهي محاورات وأدها سعيّد بالقضية، التي أثارتها السلطة بوجه مكشوف، وهو الذي يعتبر أن هذه اللقاءات لوحدها هي قرينة على ارتكاب جرائم تآمر على أمن الدولة. 

واقع المعارضة المفتّتة اليوم، وطبعًا المسؤولية تعود لمكوّناتها أيضًا، هو فرصة مثالية لسعيّد للمسارعة لتنظيم الانتخابات، باعتبار أن تأجيلها سيزيد من إضعاف شرعيته وبالتالي تقوية حجج معارضته من جهة، دونًا عن أن التأجيل سيمثّل فرصة لهذه المعارضة لترميم نفسها لمواجهته.

استطاع سعيّد بتقييد النشاط الحزبي وضرب الحريات العامة وفبركة القضايا بالتتابع إشاعة مناخ من الترهيب في الفضاء العام، ومن تهيئة مشهد سياسي غير تنافسي

في هذا السياق، يُنتظر أن الموقف من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة لن يكون محل إجماع بين أحزاب المعارضة، بين من سيعتبر المشاركة قبولًا بالانخراط في المسار الانقلابي وقبولًا بالأمر الواقع بل شرعنة لتجديد الرئيس لولايته، وبين من سيعتبرها، من جهة أخرى، فرصة لمنافسة الرئيس ونقد سياساته في سياق انتخابي وعرض مشروع بديل للتونسيين. الموقف من المشاركة في هذه الانتخابات في صورة تثبيت موعدها، عمومًا، من المفترض أن يتصدّر نقاش "ما بقي" من المعارضة خلال العام المقبل.

الانتخابات الرئاسية، في الأثناء، ستنتظم بشروط جديدة استحدثها دستور الرئيس وهي شرط حصرية الجنسية التونسية وهو ما يمنع مزدوجي الجنسية من الترشح، وشرط الجنسية لأصول المترشح "كلهم دون انقطاع". في حين اكتفى دستور 2014 بشرط الجنسية التونسية منذ الولادة، وأنه إذا كان للمترشح جنسية غير الجنسية التونسية فإنه يقدم ضمن ملف ترشحه تعهدًا بالتخلي عن الجنسية الأخرى عند التصريح بانتخابه رئيسًا للجمهورية.

يتبيّن، بالمقارنة بين الشروط الواردة في كل دستور، الطابع الإقصائي في دستور الرئيس ليس فقط بالمنع المبدئي لمزدوجي الجنسية من الترشح بل بالخصوص عبر شرط الجنسية التونسية "دون انقطاع" للأصول، وهو ما يمثل خرقًا لمبدأ المساواة بين التونسيين وتقييدًا غير مشروع لحق الترشح للانتخابات الرئاسية. 

يُنتظر أن الموقف من المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة لن يكون محل إجماع بين أحزاب المعارضة، بين من سيعتبر المشاركة قبولًا بالانخراط في المسار الانقلابي وشرعنة لتجديد الرئيس لولايته، وبين من سيعتبرها، فرصة للمنافسة وعرض مشروع بديل للتونسيين

في الختام، لا يُنتظر أن تحمل الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل عنوان تغيير سياسي مع سلطة منحرفة عن جادة الديمقراطية، وهي لا تخطّط إلا ما يخدم مصلحتها. ولكن الخطير هو تصريح سابق للرئيس مفاده أنه "ليس مستعدًا لتسليم الوطن لمن لا وطنية له". وهو ما يكشف بوضوح عن انحرافه عبر وضع نفسه حكمًا لوحده في تحديد أهلية استحقاق من سيتمّ انتخابه ليقبل بتسليم السلطة له، والمعيار هو الوطنية التي يحدّد الرئيس أيضًا لوحده لمن يمنحها ولمن يجرّدها، وهو الذي يوجّه، بمناسبة ودون مناسبة، اتهامات بالتآمر والخيانة والعمالة لمن يعارضه من اليمين إلى اليسار.

خطورة هذا التصريح تعكس حقيقة الرئيس الذي يصعب عليه أن يغادر قصر قرطاج إلى بيته في يوم ما لأنه يعرف أن مغادرة موقع الرئاسة سيكلّفه كثيرًا نظير أفعال ما بعد 25 جويلية/يوليو 2021. فللأسف، يصعب تخيّل مشهد مغادرة الرئيس سعيّد ودخول آخر لقصر قرطاج في يوم ما في المستقبل، على نحو مشهد التسلّم والتسليم الذي عايناه أعوام 2011 و2014 و2019. فقد جرت مياه كثيرة في النهر، وإن كان الأمل باق أن تونس لم تطو بعد صفحة التداول السلمي.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"