03-ديسمبر-2024
التنمر في تونس التعليم

المنظومة التربوية تشهد منذ سنوات ظواهر سلبية في مستويات متعدّدة بما تسبب في اضطراب العلاقة بين مختلف أطرافها على نحو أدى أحيانًا لواقع استعداء

مقال رأي 

 

انتحار أستاذ التربية الإسلامية فاضل الجلّولي بسبب تنمّر تلاميذه هو حدث مرعب بما تعنيه الكلمة من ثقل في أكثر من مستوى، بداية من استباحة تلاميذ لمقام الأستاذ بما يعنيه من اعتداء على مقامه ورمزيته في التربية المجتمعية، ووصولًا أيضًا لعدم قدرة الأستاذ نفسه على مواجهة ما تعرّض إليه مُخيّرًا إنهاء حياته بما يرفع الغطاء عن واقع هشاشة نفسية مستفحلة في الوسط المدرسي لا تستثني أحدًا. 

لكن من الواضح حسب المعطيات المثبتة أن وقائع أخرى دفعت الأستاذ للإقدام على الانتحار، فإن ما كان التنمر هو السبب المنشئ للأحداث، فمن الواضح أيضًا أنّ سوء تعامل الأولياء والمؤسسات هو العنصر الذي ولّد حالة القهر والغبن عند الأستاذ.

انتحار أستاذ بسبب تنمر تلاميذه هو حدث مرعب بما تعنيه الكلمة من ثقل في أكثر من مستوى، بدايةً من استباحة تلاميذ لمقام الأستاذ بما يعنيه من اعتداء على مقامه ورمزيته، وصولًا لعدم قدرة الأستاذ نفسه على مواجهة ما تعرّض إليه مُخيّرًا إنهاء حياته

تصوير التلاميذ لمقاطع فيديو لأستاذهم وتداولها فيما بينهم على سبيل السخرية، وتشكّي والدة تلميذ ضد الأستاذ بدعوى تعنيفه لابنها ليخضع لبحث لدى فرقة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل وتوجيه استدعاء له للحضور لدى المحكمة، على نحو جعل الأستاذ يتخذ قرارًا بإنهاء حياته، وهو يعاين ما يراها مَظلمة عبر قلب للأدوار ليصبح هو في قفص الاتهام.

في هذا السياق، قبل أسبوعين من الحادثة، وخلال جلسة للمجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية بتونس التي ظلّت جارية لساعة متأخرة في المساء، واكبت قضيتين متتابعتين المتهم فيها هو المربّي: 

القضية الأولى شكاية من والدة تلميذ ضد أستاذ بسبب دعوى تعنيفه، وهو الأمر الذي نفاه "المتهّم" مطلقًا مشيرًا إلى أن التلميذ كان يرتدي سروالًا قصيرًا لا يليق بمؤسسة تعليمية داعيًا إلى سماع شهادة بقية التلاميذ.  أما القضية الثانية فهي شكاية من والدة طفلة في مؤسسة حضانة بدعوى تعنيفها أيضًا من طرف مربيّتها التي اُحيلت هي ومديرة المؤسسة على القضاء، ونفت أيضًا المربيّة ممارسة أي عنف مدلية بشهادة أولياء أطفال بنفس المؤسسة تشهد بحسن سلوكها. كان واضحًا وعي القاضي أن المسألة خارج نطاق التجريم عندما لاحظ للأستاذ أن طريقته في التعامل مع التلاميذ "قديمة". 

على أهمية حفظ الحق في التشكي من أجل العنف عندما تتوفّر أركانه القانونية، فإن المسارعة إلى التتبع القضائي، خاصة في غياب أي آليات مراقبة ووساطة، يعكس عن خلل، قيمي وأيضًا هيكلي، في المنظومة التربوية والتعليمية

على أهمية حفظ الحق في التشكي من أجل العنف عندما تتوفّر أركانه القانونية، فإن المسارعة إلى التتبع القضائي، خاصة في غياب أي آليات مراقبة ووساطة، يعكس عن خلل، قيمي وأيضًا هيكلي، في المنظومة التربوية والتعليمية.

هذه المنظومة تشهد منذ سنوات عديدة ظواهر سلبية في مستويات متعدّدة بما تسبب في اضطراب العلاقة بين مختلف أطرافها على نحو أدى أحيانًا لواقع استعداء، تجلّت بوضوح في السنوات الماضية مع ما اُعتبر الصبغة القطاعوية للتحركات النقابية للأساتذة كالإضرابات المتعددة و"حجب الأعداد" على نحو جعل التلميذ ضحية ورهينة لدى طيف واسع من الأولياء ممن قدّر بالنهاية أن "الهروب" من المدرسة العمومية إلى المدرسة الخاصة ضرورة. 

أولياء أيضًا جعلوا، من تحصيل أعلى الأعداد أولوية مطلقة على حساب أي مجهود تربوي، ولكن أيضًا على حساب التوازن النفسي لأبنائهم وحاجياتهم. 

السلوك الأخلاقي بين التلاميذ تراجع بشكل ملاحظ مقارنة بالعقود السابقة لأسباب عديدة مركّبة، كما تحوّلت الشوارع المحيطة بعديد المعاهد والمدارس إلى ساحة لممارسة الانحرافات ومنها انتشار المواد المخدرة في صفوف التلاميذ

إضافة لذلك، تراجع السلوك الأخلاقي بين التلاميذ وبالخصوص الانضباط بشكل ملاحظ مقارنة بالعقود السابقة وهو ما يعود لأسباب عديدة مركّبة، كما تحوّلت الشوارع المحيطة بعديد المعاهد والمدارس إلى ساحة لممارسة الانحرافات ومنها انتشار المواد المخدرة في صفوف التلاميذ، دونًا عن تبيّن تأثير وسائل الاتصال الحديثة على الأطفال بمضامينها خارج الرقابة. 

مشهد مريض برمّته جعل نداء ضرورة فتح نقاش عمومي حول المنظومة التعليمية يتصاعد طيلة السنوات الأخيرة، وقد تكاثرت نواقيس الخطر، وليست آخرها حادثة انتحار الأستاذ الجلولي.

حلقات مفقودة عديدة ولكن أهمّها هو قصور أي تواصل ناجع بين مختلف المتدخلين في العملية التربوية على نحو جعل كل فئة تظهر أنها تسبح لوحدها للدفاع عن مصالحها بعيدًا عن أي منظور مشترك. 

داخل المؤسسة التربوية تغيب آليات حقيقية للمراقبة والوساطة لمعاينة أي مشاكل والسعي لفضّها داخل الإطار التربوي، على الأقل بشكل استباقي قبل المرور للتشكي القضائي على سبيل المثال

داخل المؤسسة التربوية بذاتها، تغيب آليات حقيقية للمراقبة والوساطة لمعاينة أي مشاكل والسعي لفضّها داخل الإطار التربوي على الأقل بشكل استباقي قبل المرور للتشكي القضائي على سبيل المثال. سؤال جدّي يُسأل في حالة الأستاذ الجلولي إن ما كان قد وَجد أصواتًا صاغية داخل مؤسسته بين زملائه المربّين، وإن ما كانت مؤسسته على بيّنة لما تعرّض له وأيضًا لآثاره على نفسيته، دون الحديث عن مسؤولية أولياء التلاميذ.

قرار فتح بحث قضائي بخصوص ما تعرّض له الأستاذ قبل وفاته لا يجب أن يغطّي عن لزوم فتح نقاش واسع داخل المؤسسة التربوية التي شهدت الحادثة وتباعًا داخل مختلف المؤسسات بوجه عامّ لرصد أي انحرافات ومعالجتها بالطريقة المثلى قبل فوات الأوان. 

الفرصة دائمًا لا تزال سانحة للتدارك، لكنّ المطلوب هو الوعي بخطورة المشهد لأن الحوادث التي تتداولها وسائل الإعلام ليست إلا فيضًا من واقع تزداد مؤشرات رداءته وخطورته على المستقبل

رصدٌ يجب أن يشمل أيضًا متابعة الوضعية الصحية والنفسية للتلاميذ والأساتذة على حدٍّ سواء بالنظر لتأثيرها على سير العملية التربوية. حادثة الانتحار تعرّي اليوم وبشكل مفزع عن واقع مستفحل داخل الوسط المدرسي الذي يعدّ ركيزة جوهرية داخل المجتمع في التربية قبل التعليم. الفرصة دائمًا لا تزال سانحة للتدارك، لكنّ المطلوب هو الوعي بخطورة المشهد لأن الحوادث التي تتداولها وسائل الإعلام ليست إلا فيضًا من واقع تزداد مؤشرات رداءته وخطورته على المستقبل.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"