"الهوية الممزّقة".. تجارب أمهات تونسيات في تربية أبنائهن بالمهجر
23 يونيو 2025
في عالم متغير تتقاطع فيه الثقافات والقيم، يواجه أبناء المهاجرين التونسيين في الغرب تحديات عميقة تمس جوهر هويتهم. كيف يحفظون دينهم وتراثهم وسط بيئات تختلف في قناعاتها وعاداتها؟ كيف يتعاملون مع التغيرات الاجتماعية الحديثة التي قد تتناقض مع قيم أسرهم؟ وهل يمكن أن يجدوا توازناً بين العيش في مجتمع جديد والحفاظ على هويتهم الأصلية؟
في هذا التقرير، يستعرض "الترا تونس" شهادات لأمهات مهاجرات تعشن تجارب تربية الأبناء في بيئات مختلفة، ويرصد التحديات اليومية التي تواجهنها في الحفاظ على القيم الدينية والثقافية. كما يقدم تحليلاً لظاهرة "الهوية الممزقة" التي يعاني منها الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، مع استعراض وجهات نظر الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي حول الأبعاد السياسية والثقافية لهذه الظاهرة.
أمهات تونسيات في المهجر تحدثن لـ"الترا تونس" عن تجارب تربية الأبناء في بيئات مختلفة، والتحديات اليومية التي تواجهنها في الحفاظ على القيم المجتمعية والثقافية
نور الهدى العبيدي: "أكبر مخاوفي أن ينسى أبنائي دينهم وهويّتهم"
تحدثت نور الهدى العبيدي، مهاجرة تونسية تعيش في فرنسا منذ 2018، عن أصعب التحديات التي تواجهها في تربية أبنائها في بيئة ثقافية ودينية مختلفة عن جذورها.
تقول نور الهدى لـ"الترا تونس" إنّ "أصعب ما تواجهه هو موضوع الدين والمعتقدات والعادات والتقاليد. في البداية، لم تكن تقلق كثيراً عندما كان أبناؤها صغاراً، لأنهم لم يختبروا بعد صراعات الهوية الدينية. ولكن مع كبرهم، وبدء النقاشات بينهم وبين أقرانهم حول الأديان المختلفة، بدأت تظهر لديهم أسئلة وتشتت طبيعي بين "شكون دينه أصح؟" و"شكون خير؟"، خاصة عندما وجدوا أطفالاً لا يؤمنون بأي دين أو ملة. هنا برز التحدي الأكبر: كيف تقنع صغيرك بأن يحترم عقيدته وسط هذه التعددية والاختيارات الحرة؟".
إضافة إلى ذلك، تواجه نور الهدى صعوبات في التعامل مع المواضيع الاجتماعية الحديثة التي تختلف تماماً عن قيمها، مثل تقبل الشذوذ الجنسي الذي يُعتبر موضوعاً عادياً في المدارس الفرنسية، وهو ما يتعارض مع معتقداتها الدينية والأخلاقية. وكمثال، تضطر الأم إلى شرح أهمية الحفاظ على الهوية الدينية والاجتماعية لأبنائها، ومحاولة خلق جو خاص للاحتفال بالأعياد الإسلامية داخل البيت، لتعويض التباين مع الجو العام في المجتمع الفرنسي.
مهاجرة تونسية في فرنسا (نور الهدى العبيدي) لـ"الترا تونس: هناك صعوبة في المحافظة على الهوية التونسية أمام التشتت الثقافي في المهجر، فأبنائي يعيشون واقعاً مزدوجاً بين العائلة والتقاليد في البيت، وبين مجتمع خارجي مختلف في المدرسة
كما تعبر نور الهدى عن قلقها من اختلاف مفاهيم العلاقة بين الرجل والمرأة في فرنسا، خصوصاً من ناحية التقبّل الاجتماعي "للتقبيل العلني"، وهو أمر كانت تعتبره "عيب" في مجتمعها الأصلي، بالإضافة إلى مخاوفها المتزايدة من تقبل أبنائها لمفاهيم مثل العلاقات بين شخصين من نفس الجنس أو العلاقات غير الشرعية، وفقها.
وتلفت العبيدي إلى صعوبة المحافظة على الهوية التونسية في مواجهة هذا التشتت الثقافي، خاصة وأن أبناءها يعيشون واقعاً مزدوجاً بين العائلة والتقاليد في البيت، وبين مجتمع خارجي مختلف في المدرسة. ورغم ذلك، تحرص على تعزيز قيم العائلة والهوية لدى أطفالها، معتبرة أن الارتباط بالأسرة هو حجر الزاوية في تربية أبنائها.
في ختام شهادتها، تعبر نور الهدى عن خوفها الأكبر من أن ينسى أبناؤها دينهم وهويتهم، بالإضافة إلى مخاوفها من التفتح الكبير والمفاجئ الذي يعيشه الأطفال في فرنسا، ما قد يبعدهم عن قيمهم وأصولهم، وفقها.
لكنها تؤكد في الوقت ذاته تمسكها بالأسرة والهوية وتطلّعها إلى العودة للعيش وسط عائلتها وأصدقائها في تونس، وفق تعبيرها.

"لا تونسيون تمامًا.. ولا ألمانيون بشكل كامل"
بعد إحدى عشرة سنة من الهجرة، تقول "ليلى"، وهي أم تونسية مقيمة بألمانيا، إن تربية الأبناء في المهجر ليست فقط مسألة تعليم ولغة، بل معركة مستمرة لحماية القيم والهوية. التحدي الأكبر بالنسبة لها لم يكن تعلُّم الألمانية أو التأقلم مع طقوس الحياة الأوروبية، بل إقناع أطفالها بعدم الانخراط في أعيادهم. وما زاد الأمر تعقيدًا، وفقها، هو أن "الكثير من العائلات المسلمة في ألمانيا، بدافع الجهل أو الضعف، تسمح لأبنائها بالمشاركة، مما يصعّب عليها المهمّة."
هناك لحظات، تشعر فيها "ليلى"، بأنها غريبة تمامًا، حتى داخل الاجتماعات المدرسية: "عندما أسمع آراءهم، أشعر بأننا لا نتقاسم شيئًا سوى الشارع، لأن طريقة تفكيرهم مغايرة لنا تمامًا."
ورغم جهودها، فإنها لا تخفي خشيتها على أولادها، خصوصًا مع تقدمهم في السن: "أخاف من الفساد الأخلاقي والديني. وأخاف أكثر من شعورهم بأنهم لا ينتمون لأي طرف.. لا تونسيين تمامًا، ولا ألمانيين بشكل كامل."
أم تونسية مقيمة بألمانيا لـ"الترا تونس": تربية الأبناء في المهجر ليست فقط مسألة تعليم ولغة، بل معركة مستمرة لحماية القيم والهوية
فهي تلاحظ هذا التذبذب حين يسافرون إلى تونس: "يفرحون، يتكلمون تونسي، ويشعرون أنهم في وطنهم، لكن ما إن تمر أيام، حتى يبدأ الحنين إلى ألمانيا.. إلى النظام وطريقة العيش التي تعودوا عليها."
وعندما يُطرح عليها سؤال العودة إلى تونس، تتردد ليلى كثيرًا. فليست المسألة المادية ما يثنيها، بل أيضًا الازدواجية التي أصبحت تسكن في المجتمع التونسي ذاته، حيث يُطرح الدين في قوالب حداثية تُفقده معناه، وفق تعبيرها.
ملاك وسلاتي: "أصعب ما أواجهه هو شرح البعد الديني للأعياد"
تعيش ملاك الوسلاتي، أم لطفلين يبلغان من العمر 8 و6 سنوات، منذ ثلاث سنوات في ألمانيا، بعد أن أقامت ستة أعوام في سلطنة عمان. بين محيطين ثقافيين مختلفين كليًا عن جذورها التونسية، خاضت تجربة تربية أبنائها في بيئة لا تُشبهها لغويًا ولا دينيًا.
ورغم ما تحمله الهجرة من فرص، إلّا أنّ تجربتها لا تخلو من التحديّات وفق حديثها لـ"الترا تونس": "أصعب ما واجهته هو شرح البعد الديني للأعياد، والامتناع عن الأكل المحرم مثل الجيلاتين، أو حتى ترسيخ مبدأ مقاطعة المنتجات الصهيونية في بيئة لا تفهم هذه التفاصيل".
وعن الازدواجية الثقافية، لا ترى ملاك في الأمر خطرًا إذا تم ضبطه منذ البداية، حيث تؤكّد أنّهم يعيشون على النمط العربي الإسلامي سواء على مستوى اللغة أو ارتياد المسجد ولكنها لا تُنكر لحظات من التوجس حين تلاحظ أن أسلوب مزاح أبنائها أو طريقة تفكيرهم تتأثر بالمحيط في بعض الأحيان.
وتبقى اللغة أحد أبرز التحديات، فهي تشكّل حاجزًا في التواصل مع المحيط وتغذي شعورًا بالغربة حتى بعد سنوات، حيث تقول الوسلاتي: "نعم، شعرت أني غريبة، فالثقافة مختلفة كليًا حتى عن الفرنسية التي تعودنا عليها في تونس".
ومع دخول مرحلة المراهقة، تخشى ملاك من تأثير بعض الميولات والعادات غير الإسلامية المنتشرة في مجتمعات المهجر على أبنائها. ورغم ذلك، تؤكد أن أطفالها لا يعانون من أزمة هوية، بل يبدو أنهم يجدون توازنهم الخاص بين ما يعيشونه وما ينتمون إليه. وهو توازن لا يتأتى من فراغ، بل من دعم نسبي من البيئة: "المعلمات يشجعننا على الحديث باللغة الأم في البيت، كما أن الدولة تمنح يوم عطلة في أعياد المسلمين عند الطلب".
الباحث ماهر الزغلامي: أبناء المهاجرين يعانون من ظاهرة "الهويّة الممزّقة"
وفي هذا الإطار يسلط الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي الضوء على ظاهرة "الهوية الممزقة" التي يعاني منها أبناء المهاجرين العرب والمسلمين، حيث يؤكد أنّها تتجاوز التفسير السطحي القائم على ثنائية الصدام الثقافي والاندماج الصعب.
الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي يسلّط الضوء في حديثه مع "الترا تونس" على ظاهرة "الهوية الممزقة" التي يعاني منها أبناء المهاجرين العرب والمسلمين، ويؤكد أنّها "تتجاوز التفسير السطحي القائم على ثنائية الصدام الثقافي والاندماج الصعب"
ويضيف الزغلامي لـ"الترا تونس" أن هذه الهوية ليست مجرد قضية شخصية أو نفسية، بل هي انعكاس لتحولات سياسية وثقافية كبرى، يتصدّرها الشعور بالخيانة الرمزية الذي تلقّاه الجيل الشاب بعد انكشاف حدود الحريات في الغرب، لا سيما فيما يخص التعبير عن قضاياهم العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ويشرح الباحث أن هذا الجيل، الذي نشأ في ظل خطاب الحداثة الغربية، عاش لحظة انكسار مؤلمة مع مأساة غزة، حيث اصطدم بممارسات رقابية وتمييزية تقيد حقه في التعبير، بل وتجرمه أحياناً لمجرد تعاطفه أو احتجاجه على الظلم. هذا التناقض بين الشعارات المعلنة للحرية والواقع الممارس يولد قلقاً هوّياً عميقاً لدى الشباب، وفقه.

ويشير الزغلامي إلى أن الأزمة تتفاقم بتقاطعها مع صدمات ثقافية أخرى، كمواضيع المثلية والعبور الجنسي، التي أصبحت في المجتمعات الغربية شرطاً أخلاقياً وقيمياً للاندماج، وهو ما يضع أبناء المهاجرين بين صراع الالتزام بهويتهم الدينية والثقافية، والانخراط في منظومة قيمية غريبة عليهم.
وفي هذا السياق، يقول الباحث في علم الاجتماع: "لا يُنظر إلى التمسك بالدين كمجرد خيار روحي، بل كملاذ دفاعي يحمي الهوية، لكنه قد يؤدي إلى الانغلاق، مما لا يضمن توازناً نفسياً أو اجتماعياً".
وفي ختام حديثه يحذر الباحث من تحميل المجتمعات المضيفة وحدها مسؤولية هذه الأزمة: "تتعلّق المشكلة أيضًا بعجز عميق داخل النخب العربية (سواء في الداخل أو في المهجر) عن تقديم إجابات معرفية وفكرية عميقة على هذه التحولات، تبدو النخب الأكاديمية، والدينية، والثقافية غائبة أو عاجزة عن تأطير هذه التحديات ضمن مشروع حضاري بديل، يوفّق بين الأصالة والتعددية، بين الانتماء والاندماج، وبين الدفاع عن القيم دون الوقوع في الانغلاق".
ويضيف لـ"الترا تونس" أنّه في ظلّ غياب خطاب فكري متجدد قادر على إنتاج هوية تفاعلية لا انغلاقية، يظل الشباب المهاجرون ضائعين بين مرآتين مشروختين: مرآة الغرب التي تعكسهم دائمًا كـ"آخر" غير مكتمل، ومرآة الأصل التي لا تُرى إلا من خلال الحنين أو التبجيل العاطفي. وبين المرآتين، تتشظى الذات، وتُترك وحدها في مواجهة سؤال الهوية بلا أجوبة.

الكلمات المفتاحية

العمل المستقل في تونس.. حرية مهنية تواجه هشاشة قانونية وإدارية
شهدت السنوات الأخيرة في تونس توسعًا ملحوظًا في ظاهرة العمل المستقل أو ما يُعرف بـ"العمل الحر" (Freelance)، حيث اختار العديد من الشباب هذا النمط من الشغل بحثًا عن حرية مهنية واستقلال مادي خارج أطر الوظيفة التقليدية، إلا أن هذا التوجّه المستجد يثير إشكالات متعددة تتعلق بوضعية هؤلاء داخل المنظومة القانونية والإدارية والاجتماعية الوطنية

سرديات تُضيء مهنة النادل في تونس
في آلاف المقاهي المنتشرة على طول البلاد التونسية، هناك شريحة مهنية لا يُستهان بها تضم آلاف الندل.. ثمة شخصيات وهبتها الحياة ما لم توهبها المدارس، استثنائية وألمعية بحضورها الطاغي أثناء أدائها لعملها

الكفيف في تونس.. مسيرة مضنية بين عزلة رقمية وفجوة معرفية
"الترا تونس" نقل من خلال التقرير التالي تجارب تلاميذ وطلبة من ذوي الإعاقة البصرية في مسيرة التحصيل الدراسي

طقس تونس.. أمطار في عدة مناطق وانخفاض طفيف في درجات الحرارة
معهد الرصد الجوي: درجات الحرارة القصوى تتراوح بين 16 و21 درجة في الشمال والوسط، وتصل إلى 27 درجة في بقية المناطق

"مصدر انبعاث غازات مسرطنة".. وقفة احتجاجية في قليبية للمطالبة بغلق مصب
انتظمت يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025، أمام مقر معتمدية قليبية من ولاية نابل وقفة احتجاجية للمطالبة بالإسراع في غلق المصب العشوائي بوادي ليمام، وذلك بمبادرة من فرع قربة–قليبية للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد المحلي للشغل قليبية–حمام الغزاز، وبمشاركة عدد من المواطنات والمواطنين المتضررين من الوضع البيئي المتدهور بالمنطقة

كاتب عام اتحاد الشغل بصفاقس لـ"الترا تونس": متمسكون بالإضراب وبحق العمال في الزيادات
أكد الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، يوسف العوادني، لـ"الترا تونس"، يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025 تمسّك الاتحاد بتنفيذ الإضراب العام يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 في القطاع الخاص، احتجاجًا على تعطّل المفاوضات الاجتماعية الخاصة بالزيادة في أجور سنة 2025

تونس تتسلم 47 سيارة إسعاف من الاتحاد الأوروبي
أعلن الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عن تسليم 47 سيارة إسعاف كاملة التجهير إلى تونس في إطار برنامج "الصحة عزيزة"، الذي يهدف إلى دعم القطاع الصحي وتعزيز الوصول إلى الخدمات الصحية في الخطوط الأمامية وجودتها

