02-ديسمبر-2024
هجرة الكفاءات

(صورة توضيحية/Pexels) دراسة: 4 آلاف طبيب غادروا تونس خلال آخر سنوات وهجرة 3 آلاف مهندس سنويًا

 

تحوّلت المصادقة على مشروع قانون المالية من كلّ عام تحت قبة البرلمان التونسي، منذ ما بعد الثورة، إلى حدث جاذب لانتباه العموم بعد إمكانية متابعة النقاش العلني المباشر بين الحكومة من جهة وأعضاء البرلمان من جهة أخرى لتحديد معالم ما يمسّ حياتهم اليومية وخاصة ما يتعلّق بالضرائب.

مبادرة إلزام الكفاءات التونسية المهاجرة بدفع جزء من كلفة تكوينهم تكشف عن سعي لمعالجة تشريعية لملفّ هجرة الكفاءات بالاعتماد على مقاربة زجرية

  • جدل متعدد الأوجه

ويزداد تسليط الأضواء أحيانًا، خلال هذا الحدث على خلفية مقترحات نيابية سُرعان ما تتحوّل إلى مادة للجدل في وسائل التواصل الاجتماعي، بالنظر إلى مضمونها على غرار مبادرة بعض النواب، بمناسبة النقاش بشأن مشروع قانون المالية لعام 2025، والتي اقترحت التزام خريجي الجامعات التونسية في مجالات الطب والهندسة والتخصصات التقنية العالية، الذين يختارون العمل في الخارج خلال السنوات الخمس الأولى بعد التخرج، بتسديد 50 بالمائة من تكاليف دراستهم الجامعية التي أتموها للدولة التونسية، على أقساط سنوية، وفق جدول زمني يتم الاتفاق عليه بين الخريج ووزارة التعليم العالي.

لم تكن المبادرة مقترحة فقط من بعض النواب من غير ذي تأثير داخل البرلمان، بل دعمها رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة على نحو يعكس انتشار القناعة بمضمونها. وبغض النظر عن عدم علاقته بقانون المالية، الذي دائمًا ما يتحوّل لمناسبة لطرح مبادرات جدلية، فإن المقترح يكشف، بدايةً، عن وجود سعي لمعالجة تشريعية لملفّ هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، وهي معالجة تعتمد مقاربة زجرية على نحو يجعل الهجرة سببًا لعقوبة ضمنية وهي دفع تعويض عن نصف قيمة تكاليف الدراسة بتونس.

تتعارض المبادرة التشريعية مع مبدأ مجانية التعليم الذي يُعتبر أحد مكاسب الدولة الوطنية في تونس، دونًا عن تعارضها مع الحق الدستوري لحرية العمل 

وتتعارض هذه المبادرة بداية مع مبدأ مجانية التعليم، الذي يُعتبر أحد مكاسب الدولة الوطنية في تونس. دونًا عن تعارضها مع حق الفرد في حرية العمل ومكانه وهو حق دستوري، إذ أن اختيار الطبيب أو المهندس على سبيل المثال للعمل في الخارج لتحسين وضعه المادي، وأيضًا لضمان آفاق مهنية أفضل، هو حقّ مشروع غير قابل للتقييد.

كما أن المقترح يخرق مبدأ دستوريًا آخر، وهو المساواة بين التونسيين باعتبار أن "الهجرة مقابل المال" تنطبق فقط على خريجي الطب والهندسة والتخصصات التقنية العالية، دون بقية التخصصات الجامعية.

  • رفض من عمادتي المهندسين والأطباء

بادرت عمادتا المهندسين والأطباء برفض المبادرة بصفة قطعية، ودعت عمادة المهندسين بالخصوص لتقديم مبادرات لتحسين الأوضاع المادية للكفاءات للبقاء في تونس، مشيرة بالخصوص للمثال المغربي الذي أحدث صندوقًا لاستقطاب الكفاءات بالخارج. والمقترح، وكما هو منتظر، لم يقع تمريره في البرلمان، ولكن مازال يتحدث النواب عن مبادرة تشريعية بصدد الإعداد لتقديمها في المستقبل.

ظاهرة هجرة التونسيين من ذوي الكفاءة التعليمية والمهنية المرتفعة ليست مستجدّة، ولكنها شهدت كثافة في السنوات الأخيرة إذ يفيد المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (حكومي) أن أربعة آلاف طبيب غادروا تونس خلال آخر سنوات، مع تسجيل هجرة 3 آلاف مهندس بشكل سنوي.

جوبهت المبادرة التشريعية برفض عمادتي المهندسين والأطباء بصفة قطعية ودعوة لتقديم مبادرات تحسن الأوضاع المادية للكفاءات للبقاء في تونس

وتطرح "هجرة الأدمغة" عادة بالنسبة لجهة المغادرة معضلات في مقدّمتها عدم الاستفادة من الكفاءات المحليّة بعد سنوات من تدريسها، مما يضرّ بالحاجة إليها في السوق المحلية ويأتي عادة مثال نقص أطباء الاختصاص في المستشفيات العمومية. ولكن المسؤولية لا تُلقى على عاتق المهاجر، الذي يبتدأ دفاعه بحقه في تحسين وضعه المهني والمادي، ولكن أيضًا على السياسات العمومية بخصوص محدودية تشجيع بقاء الكفاءات في تونس والاستفادة منها.

بيد أن هجرة الكفاءات ليست في ذاتها سلبية على الأقل من زاوية مساهمتها، في السنوات الأخيرة، في ارتفاع تحويلات التونسيين المقيمين في الخارج، والتي بلغت ما يزيد عن 7 مليار دينار في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 لتتجاوز بذلك مداخيل السياحة وقطاعات تصديرية أخرى، وبالتالي أسهمت في الترفيع في مخزون العملة الصعبة واستقرار العملة المحلية. وتوجد أيضًا منافع ممكنة وهي إمكانية الاستفادة من تطوير الخريّج لمستواه المهني في الخارج، بحكم الآفاق المتوفرة هناك، ليتمّ إعادة استغلال هذه القيمة المضافة على المستوى المحلي وهو ما يفترض وضع برنامج خصوصي للغرض خاصة في قطاعات معيّنة.

  • دراسة وآليات لكبح هجرة الأدمغة

وأوضح معهد الدراسات الاستراتيجية (حكومي) في دراسة تعود لشهر جوان/يونيو 2024، أن العوامل الدافعة لهجرة المهندسين التونسيين إلى الخارج تتمثّل في الفوارق بين الأجور وبيئة العمل، والبحث عن حياة أفضل في جميع نواحيها وبما يشمل بالخصوص التفكر في مستقبل الأبناء، وهشاشة نظام الاستثمار المحلي، وسرعة التطورات التكنولوجية والحاجة لمواكبتها، وتأثير سياسات الجذب الأجنبية دونًا عن تصاعد الحاجة للموازنة بين الحياة العائلية والحياة المهنية.

دراسة: أربعة آلاف طبيب غادروا تونس خلال آخر سنوات، مع تسجيل هجرة 3 آلاف مهندس بشكل سنوي بحثًا عن عن حياة أفضل

وهذه الهجرة لها تأثيرات سلبية، من بينها تقلص الخبرة المحليّة، وتزايد الفوارق بين بلد تصدير المهاجرين ذوي الكفاءة ودول استقبالهم، وتواصل التبعية التكنولوجية وتراجع القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وتقترح الدراسة آليات لكبح هذا النوع من الهجرة من ذلك تحسين ظروف العمل، وتعزيز البنية التحتية، وتطوير السياسات والتحفيزات الجبائية، وتقترح أيضًا عدة محاور للاستفادة من هجرة المهندسين وتشجيع عودتهم إلى تونس على المدى المتوسط والبعيد، على غرار التحفيزات المالية ووضع برامج للاستقبال والإدماج وتعزيز الشراكات الاستراتيجية والدولية ومن ذلك وضع برامج تبادل للمهنيين وبين الجامعات.

وهذه الدراسة تمثّل ورقة يمكن البناء عليها لوضع سياسات عمومية أفقية بين مختلف الهياكل الحكومية وأيضًا المؤسسات الخاصة، تعليمية كانت أو مهنية، لمعالجة ناجعة لملف هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، وذلك بعيدًا عن المقترحات التشريعية التي لا يمكن تصنيفها إلا تحت خانة التهافت التشريعي فقط.

 

واتساب