03-يناير-2020

تنتقد النكت الدينية أحيانًا التناقض بين أقوال وأفعال بعض المتديّنين (صورة توضيحية/Getty)

 

يحضر الملفوظ الديني في مقامات متعدّدة مختلفة متنوّعة، منها التعبدي والاجتماعي والنقدي وغيرها من المجالات الفكرية والواقعية والتواصلية، صلة هذه المقامات بالدين لا تثير حرجًا إيمانيًا أو فقهيًا أو ذوقيًا مثلما تثيره العلاقة بين المقدسات والخطاب الفكاهي، يرجع هذا الحرج على الأرجح إلى سببين على الأقلّ الأوّل يتّصل بتباين المقاصد، فهذا حكمي وعظي إيماني، وذاك ترفيهي إمتاعي فني.

يرتبط السبب الأول بالفتاوى المتصّلة بالنكت الدينية، فجلّها كانت تنحو منحى التحريم والتكفير، وتستند إلى عدد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنبّه إلى خطورة الاستخفاف بالشعائر والرموز الدينية، ومن الحجج المعتمدة في ذلك قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ" (سورة التّوبة، الآية 65).

يتعارض سلوك الكثير من الأئمّة مع ما يصدرونه من فتاوى إذ تراهم في حياتهم اليوميّة أقرب إلى التفتّح والإقبال على ملذّات الدنيا وفي خطبهم تجدهم أميل إلى الزهد والتشدد والتمسك بظاهر النص

والسبب الثاني يتناغم مع الموقف الأفلاطونيّ، فقد قال هذا الفيلسوف اليونانيّ ما معناه أنّ "من يحاول الضحك ساخرًا بشيء حميدٍ إنّما يرمي إلى هدف آخر غير الخير" فالسخرية بالنسبة إليه لا تجوز إلا من الظواهر المنحطّة كالحُمق أي فساد العقل والرذيلة أي فساد الأخلاق، وقد فصّل القول في هذه النقطة شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع في كتابة "الفكاهة والضحك".

اقرأ/ي أيضًا: الـ"ميمز": صور تسخر من الواقع.. أنشرها ولك الأجر

هذا الاستنكار والتحريم يتصدّى له بعض المنتصرين للمزاح والتّهكم، ويستندون في ذلك إلى براهين وأمثلة لا تقلّ وجاهة، عدّد بعضها شهاب الدين الأبشيهي الأديب المصري في كتابه "المستطرف في كلّ فن مستظرف" منها قصة الرسول الأكرم مع عجوز قالت له "اُدعُ الله لي أن يدخلني الجنّة"، فقال لها "يا أمّ فلان إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز"، فولّت المرأة تبكي، فتبسّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقال أما سمعت قوله تعالى "إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا" (الواقعة، الآية 35).

دفْعًا للخلط ورفعًا للحرج ولمقصد منهجيّ لا بدّ أن نميّز بين ضربين من الفكاهة التي يحضر فيها المعجم الدينيّ، الأول فيه سخرية من المقدّسات بدافع الإنكار والتشكيك، وهو مشغل فكري يخرج عن اهتمامنا في هذا المقال، أمّ الضرب الثاني ففيه تُستعمل النكت والنوادر لنقد بعض التصوّرات الدينيّة لعدد من المتديّنين، وهو ما يعنينا في هذا الحيّز التحليلي.

فالمعرّي على سبيل المثال في رسالة الغفران لم يسخر من بعض المسائل المتّصلة بالعقيدة مثل الصّراط ويوم الحشر والجزاء والعقاب والجنة والنار والزبانية والحُور العين إنّما سخر من تصوّر العامّة لعدد من القضايا الإيمانيّة تصوّرًا تشوبه التناقضات والأخطاء والعُقد والسّخافات، فانتقد على سبيل المثال الظنّ السائد بأنّ الجنّة هي تعويض عن الحرمان المادّي والجسديّ من مسكن ومأكل و وجنس وغيرها من الحاجات الغريزيّة، في هذا السياق الدلالي  يمكن أن نفهم عددا من النوادر التونسية التي تُصنّف ضمن النكت الدينية، غير أنّها تنطوي على العديد من المواقف النّقديّة.

عفوا أيّها الإمام.. ابدأ بنفسك

يتعارض سلوك الكثير من الأئمّة مع ما يصدرونه من فتاوى إذ تراهم في حياتهم اليوميّة أقرب إلى التفتّح والإقبال على ملذّات الدنيا وفي خطبهم تجدهم أميل إلى الزهد والتشدد والتمسك بظاهر النص. هذا التّناقض تصدى له التونسيون بخطاب مباشر صريح فاضح هاتك للأسرار، كأن يكشفوا مثلا من خلال الصور والأخبار عن التباين بين دعوة هذا الشيخ دعوة صارمة حادّة إلى العفّة والتمسك بالحجاب، والحال أنّ زوجته وبناته يظهران في الأماكن العامة بلباس متّصف بمنتهى بالتحرر والتبرج.

لم يقتصر الإضحاك على الرموز الدينية مثل الأئمة والفقهاء إنّما شمل كذلك بعض الطقوس والعبادات كالصلاة والصوم والحج

فضحُ هذه التناقضات يصبح أكثر إثارة حينما يكون قائمًا على السّخرية والإضحاك، ومن الأمثلة الدالة على ذلك تلك النكتة العاميّة التي تروي حكاية امرأة بصدد تقديم درس ديني، وكانت تدعو الحاضرات في خشوع إلى طاعة الزوج وعدم الاعتراض عليه إن عزم على الزواج من ثانية أو ثالثة أو رابعة، ولمّا أنهت المرشدة حصّتها الوعظيّة اقتربت منها إحدى الطالبات، وقالت لها "أثابك الله يا أختاه، لقد كنتُ منذ مدّة خجلة متردّد، أُعلمك الآن راضية مطمئنّة أن زوجك قد تزوجني منذ أربع سنوات، وقد أخفينا عليك الأمر ظنًا أنّك سترفضين، أمّا وقد أفتيت بجواز ذلك، ها أنا أعلمك بما حصل"، نزل الخبر على المرشدة نزول الصاعقة، فأصابها الهلع وأغمي عليها، وحينما أفاقت أعلمتها تلك الطالبة بأنّ الخبر كاذب، وأنها لجأت إلى ذلك لتختبر صدقها وتفضح تناقضها.

 

 

أبانت هذه الملحة ومثيلاتها عن الصورة المهتزّة لبعض الأئمة ورجال الدين، ولئن اتجه التركيز في المثال المذكور على التناقض والنفاق، فقد أبانت أمثلة أخرى عن تحوّل الإفتاء إلى مصدر ارتزاق و"سلّة خبز" الغاية الماديّة فيه أولى وأوكد من المقصد التعبدي والأجر الديني.

زيتّضح هذا من خلال نكتة موضوعها التمسّك بإمامة المسجد حتّى إن تعارض ذلك مع بعض الثوابت الدينيّة، يُحكى أنّ إمامًا جديدًا سأل الإمام السابق لماذا تمّ الاستغناء عنه، فأجابه "لأنني أطيل كثيرًا" في خطبة الجمعة، فلمّا دخل الأمام الجديد على المصلين في أوّل جمعة له معهم قال في عُجالة: "دون أن أطيل عليكم المُشرك لا يدخل الجنة، ثم دعا إلى إقامة الصلاة"، فرح الحاضرون، ولمّا أتّم الصلاة قال لهم أتعرفون قصّة سيّدنا يوسف، قالوا نعم قال: "أنتم إذن لستم مُلزمين بالحضور الجمعة المقبلة".

 

 

"يا رب.. أنا من تونس وأنت أرحم الراحمين"

قام الإضحاك في ملحة المرشدة الدينية على تخييب التوقّع وإثارة الدهشة في حين انبنت السخرية في نكتة الإمام المتعجّل على المبالغة والتصوير الكاريكاتوريّ وغرابة الملفوظ، بيد أنّ الجامع بينهما هو التوجّه نحو رفع الحجب الرمزيّة ومراجعة المنزلة الاعتباريّة التي يحظى بها "رجال الدين ونساؤه"، يقول أفلاطون متحدّثًا عن وظائف التّهكّم "إنّ هناك بهجة سرّيّة توجد في قلوبنا عندما نرى الآخرين يسقطون خاصّة هؤلاء الذين نعتقد أنّهم أفضل منّا مكانة واحترامًا".

اقرأ/ي أيضًا: من أبطالها السبسي والغنوشي والشاهد.. الأزمة الاقتصادية في النكت التونسية

لم يقتصر الإضحاك على الرموز الدينيّة مثل الأئمة والفقهاء إنّما شمل كذلك بعض الطقوس والعبادات كالصلاة والصوم والحج، ومن الأمثلة التي تظافرت فيها المرجعيّتان الدينيّة والاجتماعيّة نكتة دعاء الحاجّ في مكّة، فحينما أراد مناجاة الله، تذكرّ همومًا لا تحصى يعزّ حصرها في عبارات وجيزة، ولأنّ هموم هذا الرجل سليلة المشاكل الاقتصاديّة وغلاء المعيشة والفوضى في تونس، خاطب ربّه قائلاً في منتهى الإيجاز "يا إلهي، أنا من تونس، وأنت أرحم الراحمين".

 

 

التقنية المعتمدة في هذه الملحة قائمة على التكثيف الدلاليّ والخروج عن المألوف وطرافة الوصف والتصوير وهي من الأساليب التي تثير الدهشة فالضحك، بيد أنّ هذه الملحة الدينيّة رغم ما تتّصف به من إيجاز تبدو متقاطعة في معانيها وإيحاءاتها مع النكتة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

الجنّة تعويض عن الحرمان

يتعدّى مجال الملح التونسيّة عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فتحضر صورة الجنّة في سياق الكشف عن سذاجة بعض التصوّرات وسخافة أصحابها، منها قصّة الرجل المسنّ الذي دخل في غيبوبة، فحمله أبناؤه إلى روسيا للتداوي، فلمّا أفاق وجد نفسه في حديقة المستشفى وبجانبه ممرّضات حسناوات، ورأي ابنه مسعود فقال له "ما الذي جاء بك إلى الجنّة بلا صلاة ولا عبادة؟".

 

 

وتأكيدا للتصور الذي يعد الجنة جزاء لتعويض الحرمان الدنيوي جاء في إحدى النكت أنّ فتاة تأخر زواجها، فأظهرت قلقًا وتبرّمًا، فدعتها جدّتها إلى التحلّي بالصبر، وقالت لها في الجنة بإمكانك تخيّر أفضل الرجال، ألقت الفتاة بنفسها من الطابق الثالث، فأغمي عليها، ونجت من الموت، ولمّا أفاقت من الغيبوبة وجدت الكثير قد أحاطوا بها، فقالت "لا تتعجّلوا اتركوني أختار من أشاء".

 

 

يتّضح من خلال النماذج المذكورة أنّ النكتة الدينيّة لا تختلف كثيرًا عن النكت السياسيّة والاجتماعيّة والجنسيّة فنيًا ودلاليًا، أمّا فنيًا فالجامع بينها هو اعتماد تقنيات سخرية المفارقة والموقف وتخييب التوقّع (المفاجأة) والمبالغة والغرابة والتصوير الكاريكاتوري، أمّا دلاليًا فإنّ النكتة الدينيّة تشترك مع سائر أنواع الملح في الثورة الناعمة على المحظورات والمقدّسات وجلّ الطابوهات، فهي أكثر جرأة من الخطاب النقدي المباشر في التصدّي للأفكار والرموز والشخصيات والتصوّرات التي ترقى إلى منزلة الثوابت.

لم نجد في النماذج التي وقفنا عندها ما يمسّ الذات الإلهيّة أو العقيدة، إذ اقتصر النقد على كشف تناقض الكثير من المتدينين ولهفة الطامعين

من جهة أخرى، يحقّ بعد النظر والتقليب في النكت الدينية التونسية تحديدًا تأكيد فرضيّة ونفي أخرى، الأولى تتمثل في الإقرار بأنّ هذه النوادر ظلّت عفويّة تلقائيّة لم ترق إلى مرحلة التقعيد والصناعة كميًا ونوعيًا، فهي خطاب لا تقف وراءه جهة مخصوصة أو أجهزة أو قاعة عمليّات، وهو ما ينطبق على النكت السياسية.

الفرضية التي تبيّن بطلانها هي تهمة التطاول على المقدّسات، فلم نجد في النماذج التي وقفنا عندها ما يمسّ الذات الإلهيّة أو العقيدة، إذ اقتصر النقد على كشف أخطاء الحمقى وتناقض الكثير من المتدينين ولهفة الطامعين وفراغ المترفّعين والمتعالين، هذا ما جعل النكت الدينية موضوع استحسان ذوقي عند غالبيّة التونسيين يتناقلونها في باب الإمتاع الخالي من الإيذاء والتشفي والعنصرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة

ماذا تعرف عن معجم العنف والتحقير والشتائم في اللهجة التونسيّة؟