29-نوفمبر-2024
المسرح التونسي

المسرح التونسي مطالب بجملة من المراجعات التشريعية والجمالية حتى يستعيد روحه المعرفية المفقودة (صفحة أيام قرطاج المسرحية/ فيسبوك)

مقال رأي 

 

تصدير:

"إن المبدع يبحث لنفسه دائما عن رفاق ينقشون قيمًا جديدة على ألواح جديدة"

-فريدريك نيتشه-


إلى حدّ قريب كان المسرح التونسي يسير حثيثًا وملتزمًا التزامًا أخلاقيًا بمنظومة التأسيس الأولى التي وضحت معالمها وتمتّنت وتجلّت إثر خطاب يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1962 الذي خصصه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كاملًا  لفن المسرح، والذي اختزل كل هواجس وتطلعات المسرحيين والمثقفين التونسيين في ذلك الوقت. 

وقد أكد فيه أنّ "المسرح هو وسيلة من وسائل تثقيف الشعب ومظهر من مظاهر تقدم الأمة وعنوان تمدنها، وهو فن يجب ألّا يُترك لمجرد الموهبة والهواية والاجتهاد الفردي، بل يتطلب التعليم والتهذيب والدرس. وقد أنشئت من أجله الكليات لتدريب ذوي المواهب وإفادتهم بما سبقهم من تجارب ووجب الاحتذاء بذلك، وهو أيضًا فضاء للتعايش السليم بين المواطنين". 

إلى حدّ قريب كان المسرح التونسي يسير حثيثًا وملتزمًا التزامًا أخلاقيًا بمنظومة التأسيس الأولى التي وضحت معالمها وتمتّنت وتجلّت إثر خطاب بورقيبة في 7 نوفمبر 1962 الذي خصصه كاملًا  لفن المسرح والذي اختزل كل هواجس وتطلعات المسرحيين

وهكذا وبعد هذا الخطاب السياسي المباشر اختار المسرح التونسي بمختلف مكوناته السير تحت سماء الدولة والركون إلى فيء دعمها المجزي وكانت البداية الحقيقة بالمدارس، ففي سنة 1963 انطلق المسرح المدرسي ببعث النوادي بالمعاهد الثانوية وتتويج الأعمال المتميزة عبر مسابقات، وفي نفس السنة بعثت الجامعة التونسية لمسرح الهواة.

أما سنة 1964، فقد كانت عنوانًا لتوسيع دائرة التأسيس حيث انبعثت أول فرقة جهوية للمسرح بمدينة صفاقس وأدارها الفنان المسرحي الراحل جميل الجودي. كما حوّلت وزارة الثقافة التونسية دار سيباستيان بمدينة الحمامات إلى المركز الثقافي الدولي بالحمامات، وجعلت أغلب أنشطته مهتمة بالفعل المسرحي مثل بعث مسابقة في الكتابة المسرحية وتحويل النصوص الفائزة إلى أعمال تنجز في المركز وتعرض ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي الصيفي.

وفي سنة 1966، بعث مهرجان قربة لمسرح الهواة. وسنة 1967 عهد إلى الفنان المسرحي الراحل المنصف السويسي بتأسيس الفرقة القارة للمسرح بالكاف.

مرحلة تأسيس المسرح التونسي أزاحت كل الشوائب ومهدت بدورها لمرحلة أخرى أكثر قوة وفاعلية تجلت أساسًا في بعث تظاهرة أيام قرطاج المسرحية سنة 1983 يقع عبرها طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والدفاع عن القيم الكونية

 وفي نفس الوقت، انطلق المسرح الجامعي في تأسيس نواديه المسرحية التي كانت فضاء للنقاش والتفكير والتجريب المسرحي. ومن رموزه التاريخية نذكر كلًا من عبد الرؤوف الباسطي ومحمد إدريس وفرج شوشان وسمير العيادي والفاضل الجزيري وفرحات يامون و محمد الأرناؤوط. وقد احتضنت دار الثقافة ابن خلدون جزءًا من أنشطتهم.

كل ذلك أثمر حركية مسرحية غير معهودة بل وطاغية على المشهد الثقافي مقارنة بقطاعات إبداعية أخرى، لقد كان لهذه الحركية الإسناد السياسي والدعم المادي وجملة من التشريعات المستمرة وسارية المفعول إلى حد اليوم والتي جعلت من المسرح التونسي رائدًا عربيًا وإقليميًا، كما استفاد منه المجتمع تنويرًا وترفيهًا وتثقيفًا عبر وسائل جمالية غير معهودة.

مرحلة التأسيس تلك أزاحت كل الشوائب والزوائد ومهدت بدورها لمرحلة أخرى أكثر قوة وفاعلية تجلت أساسًا في بعث تظاهرة أيام قرطاج المسرحية سنة 1983 التي تشبهت بشقيقتها أيام قرطاج السينمائية التي انطلقت سنة 1966 وذلك في مستوى تبني نفس الخيارات الفكرية وطرح كل القضايا الاجتماعية والسياسية والدفاع عن القيم الكونية والوقوف إلى جانب إنسانية الإنسان أينما كان. 

الدفق المسرحي التونسي المبني على مشاريع سياسية وجمالية ضمن سياق تاريخي، لم تتم صيانته ومراجعته حتى يتطور فيبقى، بل عرف جملة من القطائع الإبستمولوجية انجرّ عنها انفراط عقد أفنى الآباء المؤسسون كل العمر في نظمه

وفي نفس تلك السنة تأسس المسرح الوطني التونسي الذي قدّم إضاءات هامة حفظها له التاريخ الثقافي التونسي. كما صنعت مرحلة التأسيس أيقونات مسرحية تونسية ومسارح مرموقة (المسرح الجديد، التياترو، الحمراء، فو، الأرض..).

هذا الدفق المسرحي التونسي المبني على مشاريع سياسية وجمالية ضمن سياق تاريخي اقتضى كل ذلك، لم تتم صيانته ومراجعته حتى يتطور فيبقى، بل عرف جملة من القطائع الإبستمولوجية انجرّ عنها انفراط عقد أفنى الآباء المؤسسون كل العمر في نظمه إيمانًا منهم بالفن وصناعة ذوق المجتمع عبر الإبداع وتغيير العقول في كل الاتجاهات. 

فمنذ تسعينيات القرن الماضي ومع دخول تونس في مراحل الاقتصاد المعولم والانفتاح على فكرة السوق والتخلي عن قيم الدولة الاجتماعية الراعية لكل شيء بما في ذلك الثقافة نفسها، تغيرت ملامح منظومة المسرح التونسي فتأسست الشركات الخاصة التي  تقتات أساسًا من الدعم المادي الذي تقدمه وزارة الشؤون الثقافية للمسرح من دون رقابة واضحة على المال العمومي فيأتي المنجز الإبداعي ضعيفًا ومزيفًا عدا الحقيقيين وهم قلة قليلة في زحمة صائدي الدعم.

منذ تسعينيات القرن الماضي تغيرت ملامح المسرح التونسي فتأسست الشركات الخاصة التي  تقتات أساسًا من الدعم المادي الذي تقدمه وزارة الثقافة للمسرح دون رقابة واضحة على المال العمومي فيأتي المنجز الإبداعي ضعيفًا ومزيفًا عدا الحقيقيين وهم قلة قليلة

كما تراجع المسرح المدرسي بشكل لافت فضعف عدد النوادي بالمؤسسات التربوية وقل التأطير المسرحي رغم وجود أساتذة مادة التربية المسرحية بالمرحلة الإعدادية دون غيرها في ظل تصحر ثقافي رهيب تعيشه المدرسة التونسية منذ أكثر من عقدين من الزمن.

كما تراجع المسرح الجامعي فيما يشبه الموت الرمزي وهو الذي كان الخزان الذي يغذي الحياة المسرحية التونسية، حيث تخلت وزارة التعليم العالي ومن ورائها دواوين الخدمات الجامعية عن المسرح الجامعي بالرغم من وجود النصوص القانونية والرصيد المادي لهذا المشغل الإبداعي الهام. 

كما أصبح المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي تحتضنه سنويًا مدينة المنستير (تأسس سنة 1992)  فاترًا وبحضور تونسي باهت وقد عرفت بعض دوراته التأجيل تلو التأجيل. كما قلت الكتابة حول المسرح عمومًا والأعمال المسرحية على نحو خاص.  

أثر تراجع المسرح المدرسي والجامعي وقلّة الكتابة حول المسرح بشكل من الأشكال على الحركة المسرحية التونسية وأطفأ البعض من ضيائها كما ضعف الخطاب المسرحي فلم نعد نتبين الأسئلة الإبداعية التي يراد طرحها في السنوات الأخيرة

هذا الانفراط أثر بشكل من الأشكال على الحركة المسرحية التونسية وأطفأ البعض من ضيائها والجذوات التي  أشعت في مراحل التأسيس جعلت للثقافة التونسية صدى في العالم العربي وما جاوره من ثقافات أخرى، كما ضعف الخطاب المسرحي فلم نعد نتبين الأسئلة الإبداعية التي يراد طرحها في السنوات الأخيرة.

المسرح التونسي مطالب الآن وهنا بجملة من المراجعات التشريعية والجمالية حتى يستعيد فتنه وروحه المعرفية المفقودة.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"