07-مارس-2018

مظاهرة في تونس العاصمة للمطالبة بالمساواة (صورة أرشيفية/أمين الأندلسي/وكالة الأناضول)

بدايةً، تعني المساواة في علاقة بالمرأة والرجل كلّ ما من شأنه أن ينزع أي اختلاف بين الجنسين، وفي علاقة بالحقوق تعني أن يتمتّع كلّ من الجنسين بذات الحقوق، أمّا في علاقة بالميراث فتعني تقسيم الميراث بالمساواة بين الجنسين بعد تصفية التركة من مصاريف تجهيز الميت وديونها، وأداء الوصية سواء كانت واجبة أو اختيارية.

وقد تمّ إدراج هذه المسألة قانونًا في المعاهدات الدولية السّاعية لفرض المساواة المطلقة بين الرّجل والمرأة، وانتشرت من بعدها نزعة لإجبار الدول على المصادقة على هذه المعاهدات والاتفاقيات والالتزام بأحكامها. لكن لا يمكن تناول هذا الأمر بهذه البساطة، لمجرّد الضّغط الدّولي أو نزعة من أقلية لها نظرة معادية للمصدر المادّي للأحوال الشخصية، والمتمثّل في القرآن  الذي يمثّل النظام القانوني الخاصّ بمادة المواريث في مجلة الأحوال الشخصية التونسية، التي نقلت حرفيّا أحكام القرآن في هذه المادّة القانونية.

بين رأي يسعى للمساواة، وآخر يسعى للحفاظ على الموروث الدّيني المقدس، تتدخّل السياسة وتتغلغل لكسب الأصوات

بين رأي يسعى للمساواة، وآخر يسعى للحفاظ على الموروث الدّيني المقدس، تتدخّل السّياسة وتتغلغل لكسب الأصوات. وهنا مربط الفرس الذي أوجب علينا كباحثين التعمّق فيه من النّاحية القانونية، وكذلك من النّاحية السياسية لتبسيط المسألة باعتبارها أعمق مما يتخيّل الجميع وذلك من أجل استنتاج أراء ومواقف مدعّمة بحلول تنقذ المشرّع الوطني من أزمة مفتعلة. إذ لا يمكن التعمّق في خفايا الموضوع إلا عبر البحث عن علاقة الفكرة من منطلق قانوني بالسّياسة ومن ثم اقتراح حلول بديلة لأزمة الواقع.

اقرأ/ي أيضًا: مساواة في الميراث قريبًا في تونس؟

في علاقة المساواة في الميراث من منطلق قانوني بالسياسة

 تقوم فكرة المساواة المطلقة على أسس وأهداف مسيّسة ومنها المساواة في الميراث، فيلاحظ أن منطلق الفكرة ظاهريًا هو اجتماعي لكنّ في الخفي هو سياسي بامتياز ويجري استعماله لدواعي سياسية.

حيث بالعودة إلى منطلق فكرة المساواة في الميراث، هي جزء من استراتيجية دولية كاملة تسعى لفرض المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. ونجد ملامح السّياسة ظاهرة عبر محاولة طمس كلّ من شأنه أن يكون خصوصية مميّزة للأمة العربية والإسلامية من حيث النظام الاجتماعي وحتى الثقافي. حيث تنفرد أحكام علم المواريث في الشريعة الإسلامية بهذا التميّز أو الخصوصية عن الشرائع الدينية الأخرى. ونجد عناية كبرى في التشريع الإسلامي ومنه أحكام الميراث في مجلة الأحوال الشخصية بالمرأة، ونجد تمييزًا إيجابيًا لصالحها في عديد المواضع المتعلّقة بالمنابات التي تستحقهّا في الميراث، حيث يمكن للمرأة أن ترث النصف وحتى الثلثين بل تجعل أحكام الميراث في القانون التونسي المرأة صاحبة فرض يحتسب منابها قبل الرّجل. واعتبر الأستاذ محمود داوود يعقوب، محام وأستاذ جامعي تونسي، أنه تقديم لتنظيم القسمة لا تقديم لتفضيل المرأة، لكنّني أرى بأنّه وإن كان تنظيمًا للقسمة، هو تفضيل لها باعتبارها المنتفعة الأولى من هذا التنظيم أساسًا.

إنّ كل هذا التفضيل للمرأة هو تبجيل لها، أمّا عند النظر لأحكام الميراث في الأديان السماوية الأخرى يلحظ جليّا من أول وهلة الظلم الذي يتعرضن له النّساء من حرمان كلّي تقريبًا من الميراث بل وعدم أخذها بعين الاعتبار. واعتبارًا بأن الله عز وجلّ اعتبر أنّ الدين عنده هو الإسلام المُوجهه للمؤمنين وغير المؤمنين، يمكن اعتبار أحكام الميراث قابلة للتطبيق على المسلم وغير المسلم إلّا أنّ الحاجز القانوني هو الذي يمكن أن يمنع ذلك.

حيث تسعى هذه الخصوصية المميزة للشريعة الإسلامية في مادة الميراث إلى تحقيق العدالة في القسمة أخذًا بعين الاعتبار لظروف جميع الأطراف، وخصوصية كل وضعية، حيث تختلف المنابات باختلاف درجة قرب الوارث من المورّث بالاعتماد على عدّة معايير علمية.

تسعى هذه الخصوصية المميزة للشريعة الإسلامية في مادة الميراث إلى تحقيق العدالة في القسمة أخذًا بعين الاعتبار لظروف جميع الأطراف

وبالعودة إلى النزعة الهادفة إلى فرض المساواة في الميراث، يتبيّن اختلال الأهداف بين الرؤى، أي بين المساواة والعدالة. فقانونًا، لا يمكن أن تتحقّق العدالة بالمساواة، ثم أنّ العدالة هي أكثر ليونة وقابلية لتحقيق الغاية المنشودة، وهي الحفاظ على حقوق المرأة. ففي صورة المساواة المطلقة، تُنزع كلّ خصوصية، ولا تحترم أي ظروف خاصّة ولا تأخذ بعين الاعتبار أي مسألة تسعى للغاية المذكورة. إضافة لذلك، إنّ عبارة المساواة هي عبارة جامدة لا يمكن أن تحقق العدالة بين جميع الأطراف، ممّا يجعل المساواة حدّا وسلاحًا أول من يُظلم به هو المرأة. حيث على سبيل المثال، يمكن أن يتوفى والد الزوجة ويترك ميراثًا يُقدّر بالمليارات، وأخذت الزوجة منابها بالمساواة مع إخواتها. هذا التقسيم اقتصر على أول درجة من الورثة وهم أبناء المتوفى دونما أن يمتدّ إلى بقية الدرجات، وهو ظلم المرأة بذات السّلاح الذي سعى البعض جاهدًا عبره للانتصار لها. حيث وفق الشّريعة الإسلامية، يؤخذ بحجب النقصان حيث يبقى للمرأة وللرجل الإمكانية لأخذ المنابات المناسبة عبر تقدير يراعي جميع الورثة الموجودين بحجّة الوفاة. هذا السلاح المتّجه مباشرة لظلم المرأة تجنّبه القرآن فحقّق العدالة الإلهية عبر أحكام المواريث.

اقرأ/ي أيضًا: إلغاء المهر، حرية اختيار اللقب والمساواة في الميراث في تونس.. جدل يتصاعد

واعتبارًا للظّروف السياسية المحيطة، تلحظ الحرب الأيديولوجية ضدّ كل ما هو ديني له أساس إسلامي، وهنا تتدخّل السّياسة في طرح مسألة المساواة كوسيلة لتجاوز أحكام القرآن. لكن المساواة يمكن أن تتحوّل لسلاح ضدّ المرأة بحرمانها من الميراث إذا كانت أقل درجة قرب من المورّث. بذلك، فإن المنطلق الظاهر هو اجتماعي ولكن يتبيّن جليّا أنّه سياسي بالأساس. والهدف الأكثر عمقًا هو طمس كل ملامح الدّين في المجتمع حتى يصبح الفرد خجولًا بدينه ومعتقداته الدينية، وهو الهدف الذي يسعى دعاة المساواة المطلقة إلى فرضه، وذلك لعلمهم بأنّ الدّين الإسلامي بالأساس هو أوّل ما يمكن أن يصدّ خططهم السياسية.

أمّا عن الاستغلال السياسي للمسألة، فقد انتشرت هذه الأفكار في المدّة الأخيرة لحماسة البعض، واندفاعهم تجاه أفكار ظاهريًا هي وردية، لكن باطنيًّا هي سوداء قاتمة تهدف للابتعاد عن الدّين. فوجدت هذه الأفكار الأرضية الملائمة للعيش والأشخاص المناسبين لتبنّيها، بل إنّها تمثل ورقة سياسية رابحة في الانتخابات. ولنا تجارب عديدة مع الأوراق الرّابحة من هذا القبيل مثل مقترح تنقيح قانون 52 المتعلّق بالمخدرات خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، وهو ما مكّن من جلب اهتمام الشباب، كما مثّل رصيدًا انتخابيًا هامًّا للباجي قائد السبسي.

ولذلك أعيد طرح موضوع حسّاس دائمًا ما يسيل الكثير من الحبر وذلك في فترة تشهد فيها تونس تحضيرات على قدم وساق للانتخابات البلدية، وهي الانتخابات التي قد تمكّن الأحزاب من التغلغل في جميع مفاصل البلاد، حيث تُعدّ هذه الانتخابات الرّهان الأوّل للأحزاب المشاركة فيها. وعليه، فإنّ طرح مثل هذا الموضوع في هكذا فترة، يجعل الشخص يتساءل صدقًا، هل يُلدغ المؤمن من الجدر مرّتين!؟

اقرأ/ي أيضًا: 5 أدلة.. 2017 سنة المرأة في تونس

في أزمة تطبيق أحكام الميراث والبدائل المطروحة

عمليّا، يشهد المجتمع تطبيقًا مخالفًا وجذريّا لأحكام الميراث بين الشّريعة والقانون، وهي النّقطة التي استغلّها أنصار فكرة المساواة لتدعيم رأيهم، ولكن مع تقدّم التّحليل والبحث، يمكن للعديد الاقتناع بأن الإشكال ليس في النّص وإنّما في عقلية المجتمع.

حيث تشتدّ أزمة تطبيق أحكام الميراث نتيجة عدم الاعتراف عمليًّا بحقّ المرأة في الميراث في بعض المناطق المحدودة، وفي عائلات يظلّ عددها نسبيّا قليلًا، رغم أن الله عزّ وجلّ فرض للمرأة هذا الحقّ فرضًا. ولذلك يحتاج هذا التّطبيق السّيء المبني على أفكار غير سليمة إلى تعديل ونقاش، عبر محاولة بناء عقلية قابلة للاعتراف بهذا الحق للمرأة، إلّا أنّ بناء عقلية كاملة يحتاج إلى امتداد زمني طويل نسبيّا. وهذه المسألة يمكن أن تمثّل حاجزًا أمام المرأة عمليّا وذلك لعدم اعتبار أحكام الميراث قانونًا من النّظام العامّ، أي أنّه لا يمكن الاتفاق على خلافها، حيث يُمنع الورثة من حرمان أي شخص من حقه ولو قبل ذلك.

إنّ هذا التّصنيف القانوني المقترح يمنع بطريقة ضمنية القسمة الرّضائية للميراث لكن يحقّق بطريقة مباشرة العدالة التي سعى النص القرآني إلى تطبيقها، إلا أنه يمكن الإبقاء على الطبيعة القانونية لأحكام الميراث كما هي عليه الآن عبر إمكان الاتفاق على خلافها والعمل على القسمة الرضائية لكن بتسليط عقوبة جزائية تتمثل في خطية بنسبة معينّة حسب قيمة التركة على الورثة الذين يمنعون المرأة من حقها في الميراث وتبقى الخطية الجزائية عقوبة رادعة للممارسات المخالفة للقانون كما هي للشريعة الإسلامية.

وفي صورة الإصرار على حرمان المرأة من حقّها رغم تسليط الخطية، يمكن الترفيع في مقدارها من 25 في المائة الى نصف التركة مثلاّ، ممّا يجبر الورثة على عدم السّعي إلى حرمان أي وارث من حقه سواء كان امرأة أو رجلًا، بل ويمكن تسليط العقوبة السجنية في صورة الإصرار للمرة الثالثة. حيث من أهداف العقوبة قانونًا، جبر الشّخص على عدم القيام بالفعل المجرّم، وتلك الوسيلة الأنجع مؤقتًا لكسب الوقت، ومن ثمّ الانطلاق في رحلة تغيير عقلية شعب عانى من التّجهيل في دينه وفي ثقافته إلى الأفضل حتمًا.

تشتدّ أزمة تطبيق أحكام الميراث نتيجة عدم الاعتراف عمليًّا بحقّ المرأة في الميراث في بعض المناطق المحدودة في تونس وفي عائلات قليلة

إنّ كل هذه المقترحات والبدائل نابعة من اشكالات الواقع، وهي تسعى لتحقيق العدالة المنشودة بالنّص القرآني والقانوني وذلك تجاوزًا لمنطق المساواة الجامد الذي لا يحترم خصوصية كلّ حالة على حدى. ولكن تبقى السياسة تحشر أنفها في جميع تفاصيل الحياة باستغلال أي مطيّة يقرّبها إلى الغاية المرجوّة، وذلك عبر منطق "الغاية تبرر الوسيلة"، إلا أنّه لا الغاية مشروعة ولا الوسيلة مناسبة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

موقف هادئ من المساواة في الميراث بين الجنسين

إلغاء منشور يمنع زواج التونسية بغير المسلم.. هل انتهى الجدل فعلًا؟