26-أبريل-2022
فيسبوك

أكلات تونسية هي في الأصل بربرية وأندلسية وتركية ويهودية.. (فيسبوك)

 

من البداهة أن يكون المطبخ مكاننا لطهي الطعام بكلّ ما يحويه من بهاراته ومعجناته وزيته وزيتونه وكلّ ما لذّ وطاب من اللحوم والخضار والغلال.. فمنه تخرج الأطباق لتفرح بها البطون، لكن نادرًا ما يتم البحث في الجانب التاريخي وفيما تبطنه هذه الأطباق من خفايا التحولات السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، فلكل شعب "هويته الغذائية" وفق المحافظ بمعهد التراث الدكتور صالح الفالحي لـ"الترا تونس".

الدكتور صالح الفالحي (محافظ بمعهد التراث) لـ"الترا تونس": الشكشوشة مصدرها كلمة "شك" باللهجة العامية، ويعني خلط، ولأن فيها عددًا من المكونات مختلطة، سُمّيت شكشوكة وهي أكلة تونسية

ويضيف محدّثنا أنّ المطابخ تتكون بالأساس من أطباق هي نتيجة لما يوجد في هذا البلد أو ذاك من منتوجات فلاحية، أما تسمياتها فهي مرتبطة أيضًا بذلك المجتمع ومدونته اللغوية، فالشكشوشة مثلًا مصدرها كلمة "شك" باللهجة العامية، ويعني خلط، ولأن فيها عددًا من المكونات مختلطة، سُمّيت شكشوكة وهي أكلة تونسية، وفقه.

وتقوم الأطباق التونسية الأصلية أساسًا على الحبوب من قمح وشعير.. ويشكّلون بها الخبز والثريد إلى جانب اعتمادهم على البقول الجافة وعلى مواد سكرية كالزبيب والتين المجفّف، وقد كان عامة الناس يستعملونها لأن الأثرياء وحدهم قادرون على اقتناء العسل، وكان الفقراء يعوّضونه بتلك المواد بحسب الدكتور صالح الفالحي.

وتعتبر "البسيسة" من أقدم الأطباق التونسية التي تعود للفترة الرومانية، وهي مصدر للبروتينات النباتية لما تحتويه من قمح وشعير وبقول جافة ومكونات عشبية وسكريات بطيئة الامتصاص. 

أما الكسكسي وهو الطبق التونسي الأشهر والمرتبط بكل الاحتفالات وحتى مواكب الدفن والعزاء فضلًا عن أنه الطبق الذي ارتبط بالصدقة وبالتقرب للأولياء الصالحين، فهو بربري الأصل ومستمد من سنابل تونس، ويُطبخ بلحم الخروف البربري المتميز بإليته الكبيرة.

طبق الكسكسي (Getty)

والكسكسي بـ"العلوش" (الضأن)، رمز لإكرام الضيف وهو الحاضر أيضًا في مواسم الحصاد والعولة. فالكسكسي بالبرزقان مثلًا هو طبق تقليدي بربري، وهو مزيج بين الحلاوة والملوحة اختصت به ولايات الشمال الغربي وخاصة ولاية الكاف، فهذا الطبق حضرّه النوميديون احتفالًا بإقامة دولتهم على أراضي ولاية الكاف شمال غربي تونس، وفق ما بيّنه الدكتور صالح الفالحي لـ"الترا تونس".

الدكتور صالح الفالحي (محافظ بمعهد التراث) لـ"الترا تونس": ما لا يعلمه كثيرون هو أن طبق الملوخية ليس تونسيًا بل هو فرعوني

وفي السنوات الأخيرة، تحول "البرزقان" إلى تظاهرة ثقافية يُعنى بها سكان الجهة، فتولت جمعيات صيانة المدينة تنظيم هذه التظاهرة وتأطيرها وإثرائها بالعروض واللقاءات. ويبقى الكسكسي التونسي مميزًا من زاوية تحضيره ومكوناته، وهو ما يجعله مختلفًا عن الكسكسي في ليبيا والمغرب والجزائر.

طبق الملوخية (فيسبوك)

ومن بين الأطباق التي ترمز للبركة والخير والتفاؤل، الملوخية، لكن ما لا يعلمه كثيرون هو أن هذا الطبق ليس تونسيًا بل هو فرعوني! إن الروايات التاريخية تبين أن الهكسوس حينما احتلوا مصر أرادوا التنكيل بمواطنيها فقاموا بإجبارهم على أكل نبتة "الخية" التي كانوا يخافونها لاعتقادهم أنها نبتة سامة لكن سرعان ما اكتشفوا انها لذيذة و"ملو" تعني تناولوا فأصبح يطلق عليها ملوخية.

 وانتقل هذا الطبق من بلد إلى آخر وأصبح أكلة الملوك العثمانيين الذين أطلقوا عليها اسم ملوكية ووصلت لتونس عن طريقهم.

الدكتور صالح الفالحي (محافظ بمعهد التراث) لـ"الترا تونس": "البريك" أصله تركي و"الكفتاجي" أتى به العثمانيون إلى تونس، أما المدفونة فهي طبق يهودي

 أما "النواصر" فتلك حكاية أخرى.. فهي أكلة أندلسية. يقول أحد مؤسسي الجمعية التونسية للتراث المشترك "ثقافات" صالح الفالحي، إنّ مؤسس الدولة الحفصية أبو زكريا عند قدومه من إشبيلية، أحضر معه مجموعة من الأندلسيين سكنوا بالحي المعروف اليوم بنهج الأندلس في بنزرت، ومن ضمنهم سيدة أرادت ابتكار أكله جديدة تجلب الرزق والحظ، فقامت بطرح العجين على شكل وريقات رفيعة، وقامت بقصها مربعات صغيرة من ثم سكبت عليها الزعفران فأصبحها لونها كالذهب كأنها كومة من الدنانير الذهبية المربعة، ومن هنا جاءت التسمية النواصر.

وتنسب إلى محمد الناصر الموحدي والذي قام بصك العملة مربعة الشكل.

الدكتور صالح الفالحي (محافظ بمعهد التراث) لـ"الترا تونس": أثّر الموريسكيون في المطبخ التونسي، فالـ"بريك الدنوني" هو نسبة إلى العائلة الأندلسية "دنون" الذين اشتهروا بإعداد هذا النوع من المعجنات

"لقد أثّر الموريسكيون في المطبخ التونسي، بعد أن قدم من الأندلس 80 ألف نسمة سنة 1609 حاملين معهم أطباقًا كثيرة من بينها أيضًا "بريك الدنوني" نسبة إلى العائلة الأندلسية "دنون" الذين اشتهروا بإعداد هذا النوع من المعجنات"، حسب الفالحي.

أما "البريك" فأصله تركي عكس ما يعتقده التونسيون، وهو طبق لا يغيب عن المائدة التونسية خلال شهر رمضان، وكذلك "الكفتاجي" الأكلة الشعبية التونسية المشهورة، فقد أتى بها العثمانيون إلى تونس. 

أكلة البريك (فيسبوك)

أما المدفونة فهي طبق يهودي كان يؤكل يوم السبت ومعروف أن اليهود لا يطبخون يومها، لذلك فهم يطبخونها قبل يوم وسميت مدفونة نسبة لأن اللحم يكون مخبئًا داخل الأكلة، وللمدفونة إحالة دينية عند اليهود بحسب محدثنا الدكتور فالحي.

الدكتور صالح الفالحي (محافظ بمعهد التراث) لـ"الترا تونس": تبنى التونسيون الأكلات اليهودية ومنها "الشمنكة" و"المدفونة" و"العْقُد"

وقد أثّر اليهود في المطبخ التونسي لتكون أطباقهم ليست مجرد أكلات فحسب، بل هي مثال للتعايش والتسامح بين الأديان، فقد تبنى التونسيون هذه الأكلات ومنها "الشمنكة" أيضًا وهي مرق بكرش الخروف أو البقر وكذلك "العْقُد".

وقد ساهم يهود إيطاليا في إدخال "المقرونة" و"الرشتة" لتونس وكذلك التوابل.

 ومن بين الأطباق التي يُعتقد أيضًا أنها تونسية هي "الشرمولة"، وهو طبق يُقدم في عيد الفطر المبارك في صفاقس والساحل وجربة وبنزرت، وتختلف طريقة إعداده من جهة إلى أخرى.

 يقول محافظ التراث الدكتور صالح الفالحي إن الروايات اختلفت حول أصولها فقد ربطها البعض بأنها إسبانية (salmuera)، وهي خليط من الماء والملح والتوابل من أجل الحفاظ على اللحوم والأسماك، فيما رجّحت روايات أخرى أن الشرمولة وصلت لصفاقس عبر بحّار تركي تحطمت سفينته واضطر أن يقوم بغلي الزبيب وأكل السمك المملح المجفف.

 ومع تعدد الأكلات والأطباق داخل المطبخ التونسي، فإن التونسيين سعوا دائمًا إلى تونسة الأكلات وإعدادها على طريقتهم، وحرصوا على أن تكون حاضرة على موائدهم من شمال البلاد إلى جنوبها محبّين لها مجتمعين حولها.

 إنّ الهوية الغذائية لتونس، لهي دليل على تعاقب الحضارات وتنوعها على أرضها، وهي تكشف أيضًا عن انفتاح هذا البلد وقابليّته لإثراء مكوناته والتأقلم مع ثقافات مغايرة.