المحو السياسي في تونس.. قصة "حي بير فضل" نموذجًا
1 يونيو 2025
تصدير: "إنّ تأويل المعاني لا يمكن أن يكون علميًا بل هو إدراكي معرفي بالمعنى العميق للكلمة.." (الفيلسوف الروسي ومنظّر الثقافة والفن الأوروبي ميخائيل باختين).
"المحو" لفظ غريب مسكون بأسراره وأدواته اللامرئية. جذر تتشقق منه كلمات من قبيل الامّحاء.. قد يمارسه الفرد تجاه نفسه أو تجاه مجموعة كنوع من العقاب النفسي، أو تمارسه مجموعة ثقافية أو دينية أو إثنية أو سياسية أو اقتصادية.. تجاه مجموعة أخرى أو تجاه فرد يحمل رمزية ما سواء أكان الفرد شخصية سياسية أو فكرية أو فنية أو إيديولوجية. وقد حاولت الفلسفة والعلوم الإنسانية والأديان والشعر والسينما والفنون جميعها المسك به والوقوف على عمق معانيه، لكنه ظل لفظًا غريبًا شريدًا في عوالم اللغة والمعنى.. يتغذّى من غموضه وقسوته واندساسه في معاني شتى.
ولعلّ مقاربات علم النفس بمختلف فروعه العلمية ومدارسه، كانت الأسلم وهي تفسر هذا الفعل النفسي ولخصته في كلمات بسيطة مفادها أنّ المحو هو طمس الأثر وانقشاع، أما الامّحاء فهو السير بلا ظل وانكفاء إلى حد الذوبان ودحر للذات أو الخصم إلى حد قتل كل الذكريات وكل القصص ودفنها في غياهب النسيان.
"المحو السياسي" والإيديولوجي عرف أوجه في تونس إبان ما يعرف لدى المؤرخين المعاصرين بـ"الأزمة اليوسفية" التي قسمت الحياة السياسية التونسية إلى نصفين متخاصمين إقصائيين
وقد استُعمل "المحو السياسي" في تونس بشكل مرعب ومخيف خلال "ملحمة الاستقلال" عن فرنسا والتي دامت عقودًا طويلة أواسط القرن العشرين عرف خلالها المجتمع التونسي أحداثًا سياسية وعسكرية واجتماعية هامة عرفت بسنوات الجمر أو النضال المر من أجل التحرر والاستقلال، ساهمت فيها النخب التونسية بمختلف حساسياتها وأنتجت فيما بعد "سردية بناء دولة الاستقلال وقيام الجمهورية" وهي السردية التي تحولت إلى غطاء للمحو والامّحاء السياسي في تونس.
"المحو السياسي" والإيديولوجي عرف أوجه في تونس إبان ما يعرف لدى المؤرخين المعاصرين بـ"الأزمة اليوسفية" التي قسمت الحياة السياسية التونسية إلى نصفين متخاصمين إقصائيين، كما قسّمت المجتمع التونسي إلى بورقيبيين (نسبة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس) ويوسفيين (نسبة إلى الزعيم صالح بن يوسف) ولازالت تداعيات ذاك التقسيم بارزة إلى اليوم في الخطاب السياسي التونسي.
ومن القصص المنسية المرتبطة بتلك الأزمة وكان المحو السياسي فيها واضحًا وجليًا "قصة حومة بير فضل" وهو حي تشكّل في سفوح جبل التوبة على مقربة من مقبرة الجلاز ومن مقام الولي الصوفي أبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية، وأيضًا على مقربة من الجهة الجنوبية من البرج الدفاعي "برج علي الرايس" الذي بناه وزير يوسف داي "الرايس علي ثابت" (والرايس هي رتبة عسكرية في سلاح البحرية) أوائل القرن السابع عشر وهو قائد عثماني شارك في تحرير تونس من الحكم الإسباني سنة 1574.

"حومة بير بن فضل" تُنسب إلى بئر مياه موجودة إلى اليوم في مدخل مقبرة الجلاز كانت تزوّد البرج الدفاعي والولي الصالح سيدي بلحسن الشاذلي، وتستعمل مياهها أيضًا في بناء القبور كما كانت نقطة تزوّد هامة من المياه بالنسبة إلى الأهالي خلال تلك الأزمنة.. و بئر بن فضل مازالت تنشط وتستعمل مياهها إلى اليوم.
وتشكل هذا الحي شيئًا فشيئًا أواخر النصف الأول من القرن العشرين خلال الأنشطة المكثفة لزعماء الحركة الوطنية التونسية وكانوا عناصر دعم وإسناد وتنظيم في المظاهرات والتحركات ضد المستعمر الفرنسي، وقد عرف الحي هجرة داخلية واضحة خلال فترة استقبال الزعيم الحبيب بورقيبة من المنفى الفرنسي وهو يحمل في يده وثيقة الاستقلال الداخلي في 1 جوان/يونيو 1955. وهي الشرارة الأولى لخلاف سياسي كبير داخل الحزب وقيادته، فكان أن انحاز أهالي حي بير فضل إلى رأي الزعيم صالح بن يوسف (كاتب عام الحزب الدستوري الجديد) الذي يرى أن الاستقلال يجب أن يكون مجملًا وكليًا.
من القصص التونسية المنسية التي كان فيها المحو السياسي واضحًا وجليًا، قصة "حومة بير فضل" وهو حي تشكّل في سفوح جبل التوبة على مقربة من مقبرة الجلاز ومن مقام الولي الصوفي أبي الحسن الشاذلي
وخلال محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس بورقيبة سنة 1962 وما شاب تلك المرحلة من تاريخ تونس من توتر وصل إلى الاقتتال بين الشقين والمحاكمات السريعة والإعدامات لرموز التيار اليوسفي، اتُهم أهالي بير فضل بمشاركتهم ودعمهم لعملية الاغتيال، فما كان من البورقيبيين وخصوصًا أبناء الحزب إلا أن استعملوا أجهزة الدولة في القضاء على هذا الحي وإزالته و"محوه" من الوجود.. فبدأ التضييق على سكانه ومطاردة رموزه والقبض عليهم والزج بهم في السجون.

ويذكر أنه مع نهاية الستينات وبداية السبعينات، اتخذت بلدية العاصمة قرارًا بإزالة حومة بير فضل كاملًا وتحويل سفوح جبل التوبة أسفل البرج وأسفل المقام إلى ما راج في تلك الفترة بـ"بلفدير ثانية" وشرعت الدولة في بناء توسعة حي الوردية وبناء أحياء اجتماعية جديدة على غرار لاكانيا والكبارية وفتح الله.. وخلال أيام إزالة وتجريف ما كانت تسميه الدولة بالأكواخ (القوربي) عرف المكان مواجهات دامية بين الحرس الوطني وأهالي حي بير فضل إلى حد تدخل الجيش.. وتم الترحيل قسرًا والقبض على مواطنين من الحي إثر حملات أمنية متتالية دامت لأسابيع. لكن مساكن الأحياء الجديدة لم يكن أغلبها من نصيب أبناء الحي القصديري المهجرين "بير فضل" بل نالها أنصار التيار البورقيبي.
اتُهم أهالي بير فضل بمشاركتهم ودعمهم لعملية محاولة اغتيال بورقيبة، فما كان من البورقيبيين وخصوصًا أبناء الحزب إلا أن استعملوا أجهزة الدولة في القضاء على هذا الحي وإزالته و"محوه" من الوجود
بعد أن هدأت عاصفة التهجير وحركة التمرد والاحتجاج وإزالة حي بير فضل كاملًا، زار بورقيبة المكان يوم "عيد الشجرة" وزرع شجرة من نوع السرول البرازيلي وحضر الزيارة الباهي الأدغم كاتب الدولة للرئاسة والدفاع الوطني والصادق المقدم رئيس مجلس الأمة وحسيب بن عمار والي تونس وأعضاء الديوان السياسي للحزب وضباط من الأمن والجيش. وألقى بورقيبة كلمة مطولة فيها جملة مفتاح وهي أنّ "هذا الحي كان أوكارًا للعصابات المفسدة.. وأنه تم تطهيره بالكامل.." في إشارة إلى سكان بير فضل الموالين للحركة اليوسفية. وتابعت الصحف تلك الزيارة الرئاسية وخصوصًا تنقله فيما بعد إلى الأحياء المجاورة وتسليمه لمفاتيح السكن الاجتماعي. ولعل المقال الصادر بجريدة الصباح تحت عنوان "المجاهد الأكبر يعطي الإشارة لتحويل 'برج علي الرايس' إلى بلفدير ثانية" يوضح تفاصيل الحدث في قسمه الظاهر.
أما الباطن من تلك الزيارة فهو المحو السياسي المطلق للغريم والمنافس والمختلف، فكان أن دفع سكان حومة بير فضل الثمن غاليًا فحرموا من كل شيء بما في ذلك حقهم في كتابة تاريخهم وإنصافهم الإنصاف المطلوب.
تاريخ تونس المعاصر مازال قيد الكتابة والبحث والتصويب.. فعلى المؤرخين والمهتمين في الجامعة التونسية وخصوصًا المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر ومراكز البحث.. أن تنصف حومة بير فضل التي زالت من الوجود، ولم تقم مقامه "بلفدير ثانية" إلى اليوم.
الكلمات المفتاحية

إطلاق الشبكة العربية لاستقلال القضاء.. مشاركة تونسية في سياق محنة القضاء
وقع الإعلان عن تأسيس "الشبكة العربية لاستقلال القضاء" التي تضمّ 15 جمعية من ستّة بلدان عربية تنشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان واستقلال القضاء والمحاماة، بعد مخاض تحضيري دام نحو سنتين.

منظمات تونسية تدعو لتدخل دبلوماسي لإطلاق سراح عناصر قافلة الصمود الموقوفين
منظمات وجمعيات ونقابات: ندعو سلطات الشرق الليبي لإطلاق سراح الشباب التونسي والليبي والجزائري من عناصر القافلة بما يضمن سلامتهم ولا يشوش على فعل القافلة وأهدافها النبيلة

قافلة الصمود لكسر حصار غزة.. انطلاق المسار داخل ليبيا
الهدف الرئيسي من إطلاق هذه القافلة البرية هو محاولة "كسر الحصار عن قطاع غزة"، وفق ما يؤكده المنظمون

وزارة التربية تتعهد باستكمال إدماج الأساتذة والمعلمين النواب سنة 2026
أعلن وزير التربية نور الدين النوري، يوم الاثنين 14 جويلية 2025، عن انطلاق الوزارة في التحضير لإدماج الدفعة الثانية من الأساتذة والمعلمين النواب، وذلك بداية من سنة 2026، مؤكدًا أن الملفات المعنية ستخضع للدراسة خلال الفترة القادمة لضمان التحاقهم بالوظيفة العمومية بصفة رسمية

بعد دعوات لمقاطعة حفل الشاب مامي.. مدير مهرجان الحمامات يرد
أثار إعلان مشاركة الفنان الجزائري الشاب مامي، ضمن فعاليات مهرجان الحمامات الدولي لسنة 2025 موجة من الانتقادات وفي المقابل، دافعت إدارة المهرجان عن خيارها

أنس جابر تتراجع إلى المرتبة 71 عالميًا بعد انسحابها من ويمبلدون
شهد التصنيف العالمي الجديد لرابطة محترفات التنس (WTA)، الصادر يوم الاثنين 14 جويلية 2025، تراجعًا جديدًا للاعبة التونسية أنس جابر، التي خسرت 12 مركزًا لتتراجع إلى المرتبة 71 عالميًا

الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس يرشّح فرانشيسكا ألبانيزي لجائزة نوبل للسلام
فرانشيسكا ألبانيزي هي محامية وخبيرة قانونية دولية إيطالية، تشغل منذ عام 2022 منصب المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة