20-ديسمبر-2018

قانون المالية لسنة 2019 تضمن فصلًا يبيح رفع السر المهني (مريم الناصري/الترا تونس)

يؤكد الفصل 29 من المرسوم المنظم لمهنة المحاماة على ضرورة أن يكون مكتب المحامي لائقًا ومن شأنه ضمان المحافظة على السر المهني، فيما يؤكد نصّ الفصل 31 أنه: "على المحامي المحافظة بصورة مطلقة على أي سر من أسرار منوبه التي أفضى بها إليه أو التي اطلع عليها بمناسبة مباشرته لمهنته".

ويشدّد الفصل 100 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية على السر المهني بنصّه: "المحامين والأطباء وغيرهم ممن تقتضي حالتهم اعتبارهم بصفة مؤتمنين على أسرار الغير، لا يجوز لهم إذا علموا بموجب هذه الصفة بواقعة أو معلومات أن يشهدوا بها ولو بعد زوال صفتهم، ما لم يطلب منهم ذلك من أسرها لهم وبشرط ألا يكون ذلك محجرا عليهم بأحكام القوانين الخاصة بهم".

لكن تتجاهل مشاريع قوانين المالية خلال السنوات الماضية هذه الأحكام القانونية، عبر التنصيص في كلّ مرة على رفع السرّ المهني، وهو ما يؤدي إلى تحرّك كلّ المهنيين المعنيين من أطباء ومحامين وخبراء محاسبين.

مسيرة للمحامين رفضًا لرفع السر المهني (مريم الناصري/الترا تونس)

ويتجدد الجدل اليوم بعد المصادقة على قانون المالية لسنة 2019، الذي يقرّ في فصله 34 رفع السر المهني. وينصّ الفصل تحديدًا على أنه: "يمكن لمصالح الجباية طلب المعلومات المتعلقة بالخدمات المسداة من قبل الأشخاص المحمول عليهم قانونًا الاعتصام بواجب المحافظة على السر المهني باستثناء الوثائق والمعلومات المتبادلة بين المعنيين بالأمر وحرفائهم في إطار تقديم استشارة قانونية أو قضية منشورة أو مزمع نشرها أمام القضاء وكذلك طبيعة الخدمة بالنسبة للمهن الطبية والصيدلية".

وطبقًا لأحكام الفصول من 16 إلى 17 مكرر من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية، يمكن لمصالح الجباية الحصول لدى الأشخاص والمؤسسات والمنظمات العامة والخاصة على المعلومات اللازمة لتنفيذ مهامها أو لمد الدول الأجنبية المرتبطة مع تونس باتفاقية تبادل معلومات والمساعدة الإدارية في المادة الجبائية بالمعلومات التي تطلبها أو يتعين تبليغها لها بمقتضى هذه الاتفاقية وذلك لدى جلّ المؤسسات بالقطاعين العام والخاص بما في ذلك مؤسسات التأمين.

 تتجاهل مشاريع قوانين المالية خلال السنوات الماضية الأحكام القانونية التي تفرض حماية السر المهني بالنسبة للمحامين والأطباء والمحاسبين

غير أنّه طبقًا لأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 16 المذكور أعلاه، يمكن للأشخاص الملزمين بواجب المحافظة على السر المهني الاعتصام بهذا الواجب إزاء مصالح الجباية، في صورة وجود أحكام قانونية صريحة تنص على هذا الواجب.

في المقابل، ورد في مشروع قانون المالية لسنة 2019 ما يلي ضمن قرارات لمكافحة التهرب الضريبي: "توضيح مجال السر المهني  الذي  يمكن  الاعتصام  به  إزاء حق الاطلاع الممنوح لمصالح الجباية في إطار دعم الشفافية في المجال الجبائي وإيفاء الدولة التونسية بالتزاماتها الدولية في مجال تبادل المعلومات لأغراض جبائية طبقا للاتفاقيات الدولية، ومعايير المنتدى الدولي للشفافية وتبادل المعلومات لأغراض جبائية وتفادي تصنيف تونس ضمن قائمة البلدان غير المتعاونة جبائيا، يقترح إقرار حق مصالح في طلب المعلومات المتعلقة بالخدمات المسداة من  قبل  الأشخاص  المحمول  عليهم  قانونا  الاعتصام  بواجب المحافظة على السر المهني. وإست ثناء من رفع السر المهني الوثائق والمعلومات المتبادلة بين المعنيين بالأمر وحرفائهم في إطار تقديم استشارة قانونية أو قضية منشورة أو مزمع نشرها أمام القضاء، وكذلك طبيعة الخدمة بالنسبة للمهن الطبية والصيدلية".

اقرأ/ي أيضًا: كم تكلّف امتيازات ومنح موظفي المؤسسات العمومية ميزانية الدولة؟

رفض واسع لرفع السر المهني

أثار الفصل 34 في قانون المالية لسنة 2019 احتجاج المحامين والأطباء والخبراء المحاسبين عن حدّ سواء، وذلك لتناقض الفصل مع القوانين المنظمة لمهنهم التي تفرض الحفاظ على السر المهني وحماية المعطيات الشخصية.

وقد سبق وأشار عضو مجلس هيئة الخبراء المحاسبين بالبلاد التونسية أنيس الوهابي، إلى أنّ رفع السر المهني يهدد حماية المعطيات الشخصية والمصالح الاقتصادية في عدّة مجالات مثل القطاع البنكي والمهن الاستشارية، وهو ما سيؤدي الى خلق فوضى في هذه الاختصاص، وفق قوله.

يمسّ رفع السر المهني من المعطيات الشخصية (مريم الناصري/الترا تونس)

وأضاف أنّ رفع السر البنكي سيؤدي إلى وضعيات تعامل تسودها الريبة، ذلك لأنّ بعض المهن وخاصة المهن الاستشارية تعتمد على مبدأ الثقة والتعاون بين المهني والحريف الذي يقدم أسراره طلبًا للنصح والتوجيه. وقال إنه لا يجب أن يظنّ البعض أنّ المهني يساعد بالضرورة حريفه على التهرب بل على تحسين أدائه وفقًا للقانون، وهي وسيلة لطمأنة المتعاملين بشأن خصوصياتهم ومصالحهم وضرورة لإرساء علاقات مهنية سليمة حسب تأكيده.

وتتحجج الحكومة بأنّ مشروع قانون المالية 2019 هو امتداد لسياسة الإصلاح الجبائي ودعم الشفافية المالية في تونس، للخروج من قائمة الدول غير المتعاونة جبائيًا. وتتبع تونس خطة إصلاحية تعتمد أساسًا على تنفيذ حزمة من الإجراءات الجبائية الجديدة، منها مقترح رفع السر المهني عن الشركات في حالة التدقيق الجبائي المعمق، لتدعيم الاستخلاص الضريبي للدولة وتدخل ضمن المعايير الدولية في المادة الجبائية.

لم يحدد الفصل 34 من قانون المالية أي إجراءات لتدخل الإدارة وطرق الاطلاع على المعطيات المصرفية أو البنكية وغيرها من المعطيات الشخصية

ولسائل أن يسأل لما تفرض الدول رفع السر المهني في إطار تبادل المعلومات لأغراض جبائية والحال أنّ التشريعات فيها تنصّ على ضرورة حماية السر المهني باستثناء ما يخص الأمن القومي وحالات جزائية حصرية؟

ولم يحدد، في الأثناء، الفصل 34 من قانون المالية أي إجراءات تدخل الإدارة وطرق الاطلاع على كل المعطيات المصرفية أو البنكية وغيرها من المعطيات الشخصية. كما لا يتضمن نص الفصل أي مقترح يوحي بضرورة إعلام المعني بالأمر أو تنبيهه إذ يكفي أن تطالب مصالح الجباية من المحامي معطيات عن أحد حرفائهم، ليطالب بخرق قانون السر المهني ومنح معطيات خاصة بحرفائه إلى مصالح الجباية، وهو ما يرفضه جلّ المحامين لمساس الفصل من الحقوق الأولية لحماية المعطيات الشخصية.

اقرأ/ي أيضًا: قضية البنك الفرنسي التونسي.. هل يكون ملف الفساد الأكبر كلفة في تاريخ تونس؟

المحامون: إضرابات واعتصامات

دعا عميد المحامين عامر المحرزي إلى التصدي إلى كلّ محاولات المس من السر المهني، والالتفاف حول الهياكل في اتخاذ جميع الأشكال النضالية. وقد نفذ المحامون تحركًا احتجاجيًا يوم الاثنين الماضي 10 ديسمبر/كانون الأول وتحركّا آخر الخميس 20 من الشهر الجاري مع إضراب حضوري بكافة المحاكم وحمل الشارة الحمراء، وذلك إلى جانب الإعلان عن انطلاق اعتصامات المحامين بداية من الجمعة بمقرات الفروع الجهوية للمحامين.

أعلنت الهيئة الوطنية للمحامين الاعتصام بفروعها الجهوية (مريم الناصري/الترا تونس)

كما دعا مجلس هيئة المحامين إلى تعليق نيابة المحامين في قضايا الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلّية. وتعليق مشاركة الزملاء في الهيئات الدستورية المعنيين والمنتخبين. وتعليق عضوية ممثلي الهيئة الوطنية للمحامين بالمجلس الوطني للجباية ولجان المصالحة المركزية والجهوية.

مجمع المحاسبين بتونس على الخط

من جهته، عبر مجمّع المحاسبين بالبلاد التونسية عن استغرابه من عدم تشريكه والأخذ بمقترحاته في صياغة مشروع قانون المالية لسنة 2019 وخاصة الفصل 34 المتعلق بمجال رفع السر المهني، مذكرًا بأنّ صياغة الفصل 34 من مشروع قانون المالية تتعارض مع القانون المنظم لمهنة المحاسبة فيما يتعلق بواجب احترام السر المهني ومع المعايير المهنية الدولية الضامنة لأخلاقيات المهنة واستقلاليتها. وفق ما ذكر في بيانه.

كما استغرب المجمع في ذات البيان "استثناء مهن دون أخرى فيما يخص رفع السر المهني. ما يناقض المبدأ الدستوري للمساواة أمام القانون وقواعد المنافسة الشريفة. وعبر مجمع المحاسبين بالبلاد التونسية عن رفضه المطلق لمبدأ رفع السر المهني المتعلق بالمهن المحاسبية لما ينجر عنه من أضرار جسيمة على المالية العمومية و على الاقتصاد الوطني برمته".

هيئة الخبراء المحاسبين ترفض أيضًا رفع السر المهني (مريم الناصري/الترا تونس)

وقد قرّرت هيئة الخبراء المحاسبين المشاركة في احتجاجات المحامين، كما قررت أيضًا تعليق تقديم تقارير مراقبي ومراجعي الحسابات المتعلّقة بحسابات الشّركات المدرجة ببورصة تونس، والمؤسّسات والمنشآت العموميّة ومؤسّسات القطاع المالي والبنكي إلى غاية البتّ في مآل الفصل المتعلّق برفع السرّ المهني.

كما أعلن بدوره اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية رفضه رفع السر المهني، وعبّر في وثيقة قدمها إلى لجنة المالية والتخطيط والتنمية بالبرلمان عن اعتراضه على تمكين مصالح الجباية من المعلومات المتعلقة بالخدمات المسداة من المهنيين المفروض عليهم حفظ السر المهني.

يُشار أن السرّ المهني يقضي بتمكين المصالح الجبائية بمعرفة الأسرار المهنية الخاصة بالشركات أو المؤسسات موضع البحث. فيما يقضي السرّ البنكي بتمكين إدارة المحاسبة العمومية في حال التدقيق الجبائي المعمق من النفاذ إلى السجلات البنكية والمالية للشركات موضع التدقيق، وهو ما تم تفعيله منذ سنوات كإجراء للحد من التهرب الضريبي.

تأكيد أن رفع السر المهني هو خط أحمر (مريم الناصري/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا:

الأساتذة في يوم غضب: كرامتنا ليست للبيع!

السكن في تونس.. حلم المواطن ومشكل الباعث العقاري