"القرآن في عيون الآخرين".. معرض يكشف سرقات حملة الملك الإسباني شارلكان على تونس

تصدير: "أنا برناردو ريبارولي أخذت هذا الكتاب من جامع الزيتونة بتونس في 26 جويلية/يوليو 1535" (اعتراف عن نهب مصحف مخطوط كان محبسًا على جامع الزيتونة وهو موجود الآن بمكتبة الفاتيكان الرسولية).

"الذاكرة المفقودة" قد يحيلنا ظاهر هذا المعنى اللفظي على كيمياء دلالية عاطفية تحملنا إلى مدارات الشعر والشعرية أو تقودنا نحو دروب الخيال والتخييل أو تحملنا إلى آفاق الفنون وآدابها ولا شيء غير ذلك، لكن هذه التركيب اللغوي -وفي تأويل آخر- هو تجاوز كل ذلك إلى معان أوسع وأعمق، إنها كلمات تزخر بأكثر مما يشي به ظاهرها، فهي تشقيق لغوي محمول على تأويلات أخرى ومسّ رفيق خفيف لعوالم اللغة وأسرارها، إنها رحم لدلالات جديدة، خاصة إذا ارتأينا يقينًا أنها ترجمة قصوى لـ"تاريخ مهرّب" أو سطو ثقافي مدروس وممنهج على حافة حرب خاطفة، فتتحول المادة الثقافية والموروث الحضاري إلى "غنيمة حرب". 

هذا ما حصل تمامًا إبان الغزو الإسباني لتونس بداية في النصف الأول من القرن السادس عشر نتيجة للتأزم السياسي الداخلي زمن الدولة الحفصية وتنامي رغبة الإمبراطورية العثمانية في ضم كامل شمال إفريقيا وجعله إيالات تابعة لها، وهو ما دفع بالسلطان مولاي الحسن الحفصي إلى الهرب إلى إسبانيا وطلب الدعم من ملكها شارل الخامس المعروف بـ"شارلكان"، الذي قاد حملة عسكرية كبرى سنة 1535 م لمواجهة العثمانيين بقيادة خير الدين، خوفًا من التوسع العثماني في الحوض الغربي للمتوسط. 

مخطوطات العهد الحفصي هي محل معرض يحتويه البهو الرئيسي لدار الكتب الوطنية التونسية عنوانه "القرآن في عيون الآخرين" (رمزي العياري/الترا تونس)

وكان شارلكان يعتبر نفسه الحامي للعقيدة المسيحية، فخرج متقدمًا جيشه بعد أن اتحد مع رهبنة القديس حنا الأورشليمي، لذلك اعتبرت حملته على تونس حملة صليبية وقد شارك فيها: إيطاليون وألمان ونابوليون وصيقليون وهولنديون بالإضافة إلى فرسان مالطا.. وضمّ أسطوله البحري قرابة 400 سفينة كان على متنها بين 26 ألف و30 ألف جندي، وتذكر الوثائق التاريخية أنّ الملك شارلكان أقلع من مدينة برشلونة الإسبانية يوم 31 ماي/أيار 1535 وكان أمام مدينة قرطاج وسواحل مدينة تونس يوم 16 جوان/يونيو 1535.

إثر انتصار الإسبان على العثمانيين في تونس، دخل السلطان الحسن الحفصي متوجًا من جديد على مدينة تونس، وكان في الأثناء قد أمضى على معاهدة غريبة عرفت بـ"معاهدة الخزي والعار" ومن شروطها نذكر: 

• السماح للإسبان بسكنى جميع الأراضي التونسية وإقامة طقوسهم الدينية دون أن يتعرض لهم أحد.
• تنازل السلطان الحفصي عن مدينة عنابة وبنزرت وحلق الوادي من أجل إقامة حاميات خاصة بهم.
• إطلاق سراح جميع الأسرى المسيحيين الموجودين في السجون التونسية.
• يدفع السلطان الحفصي سنويًا بعملة فلورنسا ما قدره اثني عشر ألف دوكة.
• تقديم السلطان الحفصي للملك شارلكان 12 حصانًا و12 مهرًا كل سنة قبل عيد سانتا. 

أما إذا تخلف السلطان عن أي شرط من شروط هذه المعاهدة يدفع 50 ألف دوكة، وفي المرة الثانية 100 ألف دوكة وفي المرة الثالثة تؤخذ منه البلاد كاملة. ويبقى أغرب شرط وهو الذي نفذ في البداية: السماح لأفراد الجيش الإسباني بنهب الأهالي وتقتيلهم لمدة ثلاثة أيام متتالية بعد الانتصار، وقد نتج عن هذا البند تذبيح أكثر من ثلث السكان وتشريد ثلث آخر، وبهذا تحققت مجزرة لم تعرفها تونس من قبل وقد شبّهها بعض المؤرخين بمجزرة نيرون الروماني في حق سكان قرطاج بعد حرقها ذات انتصار على حنبعل.

اعتبرت حملة شارلكان على تونس حملة صليبية، وقد تمّ السماح لأفراد الجيش الإسباني بنهب الأهالي وارتكاب مجزرة لم تعرفها تونس من قبل، وتعدد النهب الذي قام به الإسبان إثر انتصارهم

خلال تلك الأيام من النهب الذي قام به الإسبان إثر انتصارهم، وشمل كل نفيس وثمين.. كان أن تمت سرقة -من بين هذه النفائس التي لا تقدر بثمن- العديد من المخطوطات التي كانت موجودة في أكثر من مكان: جامع الزيتونة المعمور، المدارس الدينية، المكتبات، الزوايا، مقامات الأولياء الصالحين، قصور الأعيان والأثرياء..

وهذه المخطوطات التي تعدّ بالمئات، أغلبها من المصاحف وشروحات القرآن الكريم وكتب الفقه والأشعار.. وقد نُقلت كلها إلى إسبانيا ومنها إلى عموم البلاد الأوروبية واستقرت بالمكتبات التابعة للكنائس وبالمتاحف والجامعات.. وكانت محل دراسات أنثروبولوجية ودينية حتى يتسنى للمسيحيين مزيد فهم الدين الإسلامي ومن خلال ذلك عقل المجتمع الإسلامي، وقد استغل العديد من الحكام في ذلك الوقت تلك الدراسات لمآرب توسعية وحربية واستعمارية.

مخطوطات العهد الحفصي هي محل معرض يحتويه البهو الرئيسي لدار الكتب الوطنية التونسية عنوانه "القرآن في عيون الآخرين" ويمتد في الزمن من 15 فيفري/شباط إلى 30 أفريل/نيسان 2025 وهو ينتظم بالشراكة بين دار الكتب والمعهد الوطني للتراث ومعهد البحوث المغاربية المعاصرة ويعبر تتويجًا لبرنامج بحثي بتمويل من المجلس الأوروبي.

من بين النفائس التي تمت سرقتها، عدة مخطوطات كانت موجودة في جامع الزيتونة، المدارس الدينية، المكتبات، الزوايا.. وكانت تعدّ بالمئات، أغلبها من المصاحف وشروحات القرآن الكريم وكتب الفقه والأشعار.. (رمزي العياري/الترا تونس)

"الترا تونس" تنقّل مطلعًا على المعرض والتقى مدير دار الكتب الوطنية، خالد كشير، الذي أكد في البداية أنّ الاستعداد مع الشركاء لهذا المعرض كان منذ سنتين ومادته تتوزع على ثلاث قاعات: قاعة أولى تتضمن كنوز المكتبة الوطنية التونسية حيث يتم عرض أقدم المصاحف التونسية المخطوطة ومنها ما يعرض لأول مرة ويعود الأقدم إلى القرن الثالث للهجرة (التاسع ميلادي) وهو للخطاطة النساخة القيروانية "فضل" مولاة الأمير الأغلبي والذي تميز بزخارفه الهندسية والزهرية وهو يقدم شهادة مهمة على تطور الكتابة والفن الإسلامي في القرون الأولى للإسلام ومصحف "ابن غطوس" وهو من أشهر الخطاطين الأندلسيين وقد خطه على الرق سنة 1163 م. 

وأضاف الأستاذ كشير أن القاعة الوسطى تتضمن صورًا لحملة شارلكان على تونس والممجدة في ما يعرف بـ"نسيج فيرمايان" الذي أمر به شارلكان نفسه، وجانب منها يثبت عمليات النهب التي حصلت في تونس، ويصل طول هذا العمل الفني التوثيقي إلى 310 أمتار. وبيّن مدير دار الكتب الوطنية أن المصاحف والمخطوطات التونسية والتي يفوق عددها 100 مخطوط توزعت على كامل أوروبا على اعتبار أن عائلة "هامسبورغ" التي ينتمي إليها الملك الإسباني، كانت تحكم في نصف أوروبا، فهذه المخطوطات منها ما هو موجود في المكتبة الرسولية بالفاتيكان وبالمكتبة الوطنية الفرنسية ومتحف "كونسيثيستور يستشس" بفيينا بالنمسا وعدد من المتاحف الأوروبية الشهيرة.. وأوضح خالد كشير أن بعثة علمية أوروبية أنجزت بحثًا دقيقًا على 200 مخطوط تونسي، وأثبتت أنها موزعة على كامل أوروبا وذلك وفق خارطة معروضة في القاعة الثانية.

مدير دار الكتب الوطنية: صو لحملة شارلكان على تونس تثبت عمليات النهب التي حصلت، خاصة وأنّ بعثة علمية أوروبية أنجزت بحثًا دقيقًا على 200 مخطوط تونسي، وأثبتت أنها موزعة على كامل أوروبا

أما القاعة الثالثة لمعرض "القرآن في عيون الآخرين"، فهي تبرز عراقة الثقافة المكتوبة في البلاد التونسية من خلال عرض شاهدي قبر يعرضان لأول مرة ويتضمنان نصين محفورين بالخط الكوفي وذلك إلى جانب مجموعة من المحابر النحاسية وواحدة قدت من الجص على شكل مكعب وتعود إلى القرون الوسطى بها ريشة من البرنز وهي من مجموعة متحف القيروان، وقد ذكرها القاضي النعمان المتوفى في منتصف القرن العاشر ميلادي مشيرًا إلى أن قلم الحبر هو ابتكار قيرواني.

القاعة الرابعة ووفق مدير دار الكتب الوطنية التونسية، فخصصت لمحور المعرض وهو "القرآن في عيون الآخرين"، حيث نجد أقدم الترجمات للقرآن والدراسات الأجنبية التي كتبت حول النص المقدس الخاص بالمسلمين.

مدير دار الكتب الوطنية: الغاية من هذا المعرض هي توخي مقاربة غير تقليدية من خلال إبراز مدى تأثير القرآن في الفكر الأوروبي على مدى القرون الخمسة الأخيرة (رمزي العياري/الترا تونس)

وأوضح محدثنا أن الغاية من هذا المعرض هي توخي مقاربة غير تقليدية من خلال إبراز مدى تأثير القرآن في الفكر الأوروبي على مدى القرون الخمسة الأخيرة، كما يحث الزوار على إعادة النظر في العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي.

لقد تميز هذا المعرض بمقاربة وتمشٍ جمالي وبيداغوجي، استخدمت فيها إضاءة سينوغرافية خاصة واستعمالات للفيديو والخرائط والأدوات المتحفية تفاعلية، كما حمل رسالة الحوار بين الأديان والثقافات تحت أفق العيش المشترك والتراث الإنساني، وهو يعدّ أيضًا فرصة هامة لتونس ونخبها الجامعية والسياسية لطرح الأسئلة الحارقة والأكيدة المتعلقة بالاستلاءات التراثية والثقافية التي حصلت من قبل الأوروبيين والعثمانيين وغيرهم على مرّ العصور على تراث تونس والذي يملأ متاحفهم ومكتباتهم وجامعي التحف. والدخول في حوارات جادة تهم عودة الكنوز المسلوبة، ففي ذلك تصحيح للتاريخ وسيادة للبلاد مستحقة.