الفساد في الدراما التونسيّة

الفساد بوجهيه الأخلاقي والمالي ظاهرة ما انفكّت تعظم وتتّسع لتشمل جلّ الميادين والمجالات والساحات حتّى أكثرها خطورةً وأشرفها مقامًا وأرفعها قداسةً، فلا عجب أن ترى الفساد في المؤسّسة الأمنية وفي الفضاءات التربوية وحتّى في دور العبادة، فما بالك ببقية الأماكن والقطاعات الاقتصادية والسياحية والاجتماعية الأكثر انفتاحًا على الزيغ والانحراف. 

ساهمت في الكشف عن هذا الفساد المستشري صغيرًا كان أو كبيرًا عناصر عديدة منها الأحكام القضائية المنشورة في الصحف وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها التقارير التحليلية والإحصائيّات العلميّة الصادرة في الكتب والبحوث ذات المنحى الأكاديمي، ومما زاد مشغل الفساد حضورًا في الأذهان سريانه على ألسنة السياسيين خاصّة في السياقات الانتخابيّة، لكن هذه الخطابات الصلبة الجادّة تظلّ رغم زخمها أقلّ تأثيرًا في نفوس الجماهير وأذهانهم من الأعمال الفنيّة سينمائيّة كانت أو مسرحيّة أو دراميّة تلفزيّة.

لئن ارتكزت الدراما التونسية في التناول الفنّي النقدي للقضايا قبل 2011 على الفساد الاجتماعي والأخلاقي والإداري فقد اتسع بعد الثورة ليشمل ميادين أخرى كالفساد السياسي والأمني

يتأكدّ هذا من خلال تفاعل المشاهدين مع العديد من الأعمال التلفزيونيّة التي عالجت قضايا الفساد في تونس خاصّة بعد الثورة. ولئن ارتكز هذا المنحى الفنّي النقدي قبل 2011 على الفساد الاجتماعي والأخلاقي والإداري فقد اتسع بعد الثورة ليشمل ميادين أخرى كالفساد السياسي والأمني والصحي والتربوي والبيئي فضلًا عن فساد العقيدة المفضي إلى التشدّد والإرهاب.

• الفساد الأخلاقي.. إثارة بلا مخاطر

مواضيع الجنس والدين والسياسة تُصنّف في الثقافة العربيّة ضمن ما يسمّى "الثالوث المحرّم" أي القضايا التي تثير حرجًا للمفكّر فيها والمعبّر عنها، فإن سلم من المجتمع لن يسلم من "رجال الدين" وإن خلص منهما فسيكون فريسة السلطة القائمة.

غير أنّ الناظر في فترة ما قبل الثورة التونسيّة واجد خصوصيّة تجعل المجاهرة بما ينافي الحياء والتطاول على المقدّسات لا يشكّلان في الغالب خطرًا على مرتكبهما حتّى إن بلغ الأمر مرتبة التشكيك في ثبوتيّة القرآن على النحو الذي حصل في مقام جامعيّ ضمن درس أكاديميّ، بل إنّ عددًا من السلفيين كانوا وفق بعض الروايات يتعمّدون إظهار الفسق والمجون دفعًا لتهمة أخطر.  

مصدر الخطر الجسيم في تلك الفترة هو إظهار ما يوحي بالتشدّد الدينيّ أو الخوض في سيرة الرئيس وأسرته ونظامه الحزبيّ والأمنيّ التسلّطيّ. 

لذلك عدلت جلّ الأعمال الفنيّة خاصّة في أواخر عهد بن علي عمّا يزعج السلطة، ومالت بمقتضى الرقابة الذاتيّة إلى الخوض في الفساد الأخلاقي والانحرافات السلوكيّة الفرديّة من عنف وسرقة تحرّش وزنى وخيانة وإنجاب خارج الأطر الزوجيّة، تجلّى هذا خاصّة في مسلسلات أخرجها سامي الفهري والحبيب مسلماني وعلي منصور قبل بضع سنوات من الثورة مثل مكتوب (2008)  والليالي البيض (2007) وصيد الريم (2008)، في فترة تراءت فيها إرهاصات التحوّل السياسيّ والاجتماعي بداية من انعقاد هيئة 18 أكتوبر 2005 للحقوق والحريّات ومرورًا بأحداث الحوض المنجميّ عام 2008. 

اتجهت المسلسلات التونسية بعد 2011 إلى معالجة الجريمة المنظمة والفساد السياسي والأمني والإداري عكس ما كانت تتجه له قبل الثورة من إثارة ذات بعد غرائزي

لكن رغم ذلك ظلّت الدراما التونسيّة حبيسة القضايا التي تضمن إثارةً وتشويقًا ولا تخلّف لصاحبها مُساءلة وتضييقًا، هذا إن أحسنّا الظنّ، أمّا لو استأنسنا ببعض الآراء الساخطة على تلك الموجة الدراميّة التي كان سامي الفهري رائدها لرددنا قول البعض إنّ الإفراط في إثارة ذات المنحى الغرائزي من جنس وعنف قبل الثورة إنّما الغاية منه الإلهاء عن الفساد الحقيقي، أي الجريمة المنظمة والفساد السياسيّ والأمنيّ والإداريّ على النحو الذي ستتجّه إلى معالجته المسلسلات التونسيّة بعد 2011 بمنتهى الوضوح.

• الفساد السياسيّ والإعلاميّ والأمني..

انفتحت الأعمال الدراميّة بعد الثورة على فضح الفساد السياسي خاصّة من خلال مسلسل "ناعورة الهواء" للمخرج مديح بالعيد الذي جسّد فيه رؤوف بن عمر شخصيّة "رؤوف بن رحومة" السياسيّ الذي يتوخّى كلّ السبل في سبيل الفوز بالانتخابات، فيصل به الأمر إلى التواطؤ مع الجماعات الإرهابيّة ومع العصابات الإجراميّة المافيوزيّة المورّطة في خطف الأطفال والمتاجرة بالأعضاء وترويج المخدرات على نطاق واسع، وقد جسّد هذا الوجه القبيح للجريمة المنظمة ريم الرياحي (حنان الأحمر) وعلي بن نور (حمودة بن سالم) وزهيرة بن عمار (آمنة الأحمر) وفتحي الهداوي (حسونة).

ولأنّ رياض السمعلي كاتب القصّة والحوار والسيناريو كان على بيّنة من أنّ الفساد السياسيّ لا يمكن أن ينتعش إلا إذا احتمى بروافد قويّة ماليّة وإعلاميّة فتح النصّ على نوافذ أخرى، فكشف للمشاهد بأسلوب فنّي مشوّق دور الإعلام في تلميع صورة السياسيين الضالعين في الفساد.

وحتّى يضمن السياسيّ الفاسد نفوذه كان لزامًا عليه الاستفادة استخباراتيًّا من الأمنيّ خائن الأمانة، وقد جسّد هذا الدور في "ناعوة الهواء" الممثل محمد علي النهدي من خلال شخصيّة "رضا" الذي تعمّد إفشاء أسرار مهنيّة ساهمت في إفلات المتهمين من المطاردة ومن العقاب.

تراجع الحديث عن الفساد السياسي في العقد الثالث من هذا القرن، وتواصل التركيز على الفساد الإعلاميّ والفساد الأمني.

أمّا الفساد الإعلاميّ فقد تجسّد من خلال شخصيّة "روزا" التي أدتها الممثلة هالة عيّاد في مسلسل رقوج، إذ تعمّدت تلميح صورة محسن الورل/ عزيز الجبالي المتوّرط في جلّ ضروب الإجرام والفساد وأخرجته للمشاهدين في صورة الرجل المستقيم المتّصف بالكرم والحكمة وحسن التدبير، وقد كشفت في الجزء الأوّل من هذا العمل الدرامي  صورة الإعلامي الذي يمعن في الانبطاح لأصحاب النفوذ وما إن يحاول استعادة كرامته ونزاهته حتّى يكون عرضةً للابتزاز والتنكيل، فينتهي به الأمر إلى خسران مضاعف، خسران الشعب الذي فشل معه في رهان الصدق والنزاهة والشهادة على العصر، وخسران ولي النعمة الذي تزول نعمته بزوال حاجته إلى الإعلامي المطبّل أو المثقف المتزلّف.

أمّا الفساد الأمنيّ فقد توخّى فيه أصحاب الأعمال الدراميّة قاعدة التوازن بين الخير والشر والصلاح والفساد، ففي رقوج تجلّت لنا في البداية صورة رئيس المركز "سي الشريف" الخاضع لضغط لوبيات التهريب والفساد المالي والإداريّ  ثمّ حضرت صورة الأمنيين الشرفاء مثل شخصيّتي عدلي (عاصم بالتوهامي) وناصر (زياد العيادي). 

انفتحت الأعمال الدراميّة بعد الثورة على فضح الفساد السياسي وحتّى يضمن السياسيّ الفاسد نفوذه كان لزامًا عليه الاستفادة استخباراتيًّا من الأمنيّ خائن الأمانة

تحوّل هذا المنحى في نقد المؤسسة الأمنية سنة 2025 إلى نمط متواتر فقد تجسّدت ثنائيّة الفساد والصلاح من خلال رجلي الأمن في المسلسل الكوميدي "صاحبك راجل"، الأوّل نزيه شريف حريص على مصلحة الوطن (مهدي/ ياسين بن قمرة) والثاني مُرتَشٍ أناني، متفقر إلى الصدق والأمانة والمهنيّة والوطنيّة (عزوز/ كريم الغربي).

ولتكتمل صورة الفساد الشامل صوّرت لنا الدراما التونسيّة ما بلغته الإدارة من بيروقراطيّة وتحيّل وتزوير ومحسوبيّة وفقر معرفيّ وقيميّ، وقد جسّد كلّ هذه العيوب صابر الوسلاتي من خلال شخصيّة "الديناري" رئيس البلديّة في مسلسل رقوج، فكانت الإدارة بمثابة المهاد الذي يرعى الفساد ويحميه ويجب له المسوّغات القانونيّة، في ما يمكن نعته باستعمال القانون في ارتكاب جرائم الفساد، وقد ترجم "الديناري" ذلك قائلًا في أكثر من موضع بعبارة "كلّه بالقانون" التي استساغها المُشاهد فتحوّلت إلى ملفوظ  واسع الانتشار. 

• هل تقتضي المعارك الوطنيّة الكبرى المصالحة مع الفاسدين؟

الفاسد تحركه الأنانيّة ويدفعه الجشع، ذاك شأن "الورل" في رقّوج، يمارس كلّ ضروب الإيذاء والاعتداء على الآخرين صغارًا وكبارًا شيوخًا وأطفالًا ونساءً ورجالًا، لا يسلم منه القريب ولا البعيد حتّى زوجته وأصدقاؤه وأعوانه، يُحسن إدارة المعارك العموديّة فإذا كان في موقع قوّة دفع بالعنف والابتزاز إلى منتهاه وإن كان موضع ضعف أبدى كلّ صنوف الطاعة والمذلّة وقد تجلّت صورته الدونيّة هذه في علاقته بشخصيّة "الدكتور" صاحب النفوذ الباحث عن الكنز.

الورل وأمثاله مصيرهم الطبيعيّ في نظام يحكمه قانون الغاب هو القتل والتنكيل إن اقتضى الأمر، أمّا في النظام المدنيّ فلا تليق به إلا المحاكمة العادلة التي تفضي إلى عقوبات صارمة تعادل حجم الجرائم التي ارتكبها.

غير أنّ هذا اللون من الأشرار قد يثير حرجًا حينما يكون الوطن في مواجهة خطر داهم، إرهاب كان أو استعمار أو غزو، على النحو الذي تجسّد في الحلقة الأخيرة من "رقوج الكنز"، الأسئلة التي تراودنا في هذه اللحظة، هل يمكن الاستئناس بالفاسدين لمواجهة المخاطر الخارجيّة؟ هل تشفع لهم معرفتهم بالواقع وتعقيداته الجغرافيّة والاجتماعيّة والأمنيّة والاستخباراتيّة حتّى نرفعهم إلى مرتبة الشريك في الدفاع عن الوطن؟ هل تنطبق عليهم في هذه الحالة القاعدة السلوكيّة  من تاجر بحقوق المواطنين يمكن أن يبيع الوطن، أم أنّ وجوده هو وأبناؤه في نفس المركب مع البقيّة قد يعيد إليه رشده ويتحوّل إلى طاقة خير تساعد على تحقيق النصر والسيادة في وجه الغزاة؟ هل تصبح المصالحة مع المشتبه بهم والمجرمين ضروريّةً متى بدا لنا أنهم قادرون على يد المساعدة في ردّ العدوان الخارجي؟

هذه الأسئلة يجيب عنها مشهد صاخب مؤثّر في الحلقة الأخيرة من "رقوج الكنز" دار فيه الحوار التالي بين عدلي رئيس المركز والوْرَلْ الموقوف بسبب جرائمه: مكالمة هاتفيّة يرُدّ عليها رئيس المركز عدلي قائلًا: "شنيَّ الحس اللي بحذاكم؟ البلاد ماكله بعضها!"(= ما سرّ الضوضاء، البلاد دخلت في فوضى عارمة!). الورل من داخل غرفة الإيقاف: "نحب نخرج يا عدلي، أش قاعد يصير، نا رقوج نعرفها أكثر منك، خَرِّجني، نخرج، وبعد أعمل فِيَّ إلي تحب، مستحقني راك، نا عندي الرجال، والله لا نْخليكم، ولدي معاكم.. خرجني نْجيب رجالي ونعاون، بجاه ربي خليني نعاون".

الدراما التونسية أظهرت حرصًا على تجسيد مظاهر الفساد وإشكالياته.. لكن لا يمكن أن نصف ذلك بالجرأة لأنّ المبدع في تونس قد تعوّد منذ زمن على مراعاة أفق حريّة التعبير ومساحتها

استجاب رئيس المركز لرجاء "الورل" وفي المشهد الأخير بدا فيه الورل حاملًا سلاحًا ناريًّا متحفزًا في حماسة وهمّة متصدّيًا للغزاة منضمًّا إلى بني أهله وعشيرته الذين تتعالى من حناجرهم أصوات التحدّي والصمود، وتظهر في أعينهم أمارات الاستعداد للتضحية من أجل الموطن والوطن وفي سبيل الكنز، كنز الأرض والماء والسيادة. 

ما يمكن أن نستخلصه من خلال هذا العرض والتحليل أنّ الدراما التونسية قد أبانت عن حرص على تجسيد مظاهر الفساد وإشكالياته في مجتمعنا الراهن، ولئن أثنينا على المهارة الفنيّة في التأليف والبناء والتجسيد فإنّنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نصف ذاك التوجّه في المضامين بالجرأة لأنّ المبدع في تونس قد تعوّد منذ زمن على مراعاة أفق حريّة التعبير ومساحتها، فتراه في نزعته النقديّة محافظًا حذرًا في فترة متهوّرًا مندفعًا في فترة ثانية متوازنًا معتدلًا في أخرى.