02-مايو-2021

(صورة توضيحية/أ.ف.ب)

 

كانت جلسة مسائية رائقة في حانوت الجربي، قبل آذان المغرب بساعة واحدة، وحديث مشوق لا يُمل منه، ذكريات وتفاصيل ممتعة حول خصوصيته في مدينة تبعد عن أصوله مئات الكيلومترات، عن تميز هذا المواطن المحلي وحذره وتجارته الناجحة وسيطه العالي.

العطار الجربي في تونس، شخصية ثابتة صاحب نظرة ثاقبة، متشبثة بأصولها منفتحة على غيرها، وهو تاجر محنك متأصل في جذوره

العطار الجربي في تونس، شخصية ثابتة صاحب نظرة ثاقبة، متشبثة بأصولها منفتحة على غيرها، وهو تاجر محنك متأصل في جذوره. حياته التي قدر التاريخ والجغرافيا أن يسكنها الترحال بحثًا عن القوت، جعلته أكثر شخص معروف -ولما لا- محبوب في تونس.

إذ نادرًا ما تدخل مدينة تونسية مهما كانت جغرافيتها، لا يوجد فيها عطار جربي، يعرفه القاصي والداني، يَجلُّه الجميع ويحترمون عمله ورحابته، ويختارونه دون سواه لقضاء حوائجهم.

في المناسبات، يكون الوجهة الأولى لشراء اللوازم "الزِمنية" التي تفوح منها رائحة التوابل والبخور والعطور، تُزين بوابته القفاف وتحمل معها عبق الماضي من حلوى الأفراح إلى حناء العروس ومشطها. وتجد لديه الأساسيات أيضًا، من طماطم وزيت وزيتون وكل ما يدور وسط الرحى من عولة البيت التونسي كالبسيسة والدرع...

والعطّار أو العطّارة بشدّ الطاء (تضعيفها)، تختلف عن مهنة العطّار في دول المشرق، الذي يختص في تحضير العقاقير والمحاليل والمداواة بالأعشاب الطبيعية، إذ هي أشبه بالدكاكين فيها اللوازم الأساسية والتكميلية، تنتشر في الأحياء الشعبية والمدن، تُقاوم توسع المساحات والفضاءات العامة، لأنها أرفق ماديًّا على المواطن، أقرب مسافة وأكثر تواصلًا.

نادرًا ما تدخل مدينة تونسية مهما كانت جغرافيتها، لا يوجد فيها عطار جربي، يعرفه القاصي والداني، يَجلُّه الجميع ويحترمون عمله ورحابته

هنا، في مدينة جندوبة، الساعة السادسة مساءً، كأن الزمن توقف ليأخذنا ناجي الصدغياني، أو الجربي كما يحلو لأهل المدينة دعوته، في رحلة نلتقط فيها محطات هامة من تاريخ عائلته.

يجلس الكهل الخمسيني الذي يغلب بياض شعره على سواده، على مقعده، أمامه صندوق خشبي فيه غلة يومه (نقود)، يُشغل شريطًا لابتهالات تونسية، ويبدأ بالحديث مسترجعًا ذكرياته بلهفة وشوق، وتاريخ العائلة بوضوح وتسلسل منقطع النظير، بلكنته الأصيلة التي لم تبددها سنوات التوطين في جندوبة.

جولة في الأربعينيات من القرن الماضي، وتحديداً عام 1942، عن جده الذي انتقل إلى المدينة فجرًا، في مغامرة استمرت لثلاثة أجيال، جيل الحرب والاستعمار، جيل الاستقلال وما بعده، وجيل ثورة 2011.

مثلت جندوبة مركزًا للتجارة والتنقل لاعتبارات عديدة، منها خصوبة الأرض ورفعة المنتج، إضافة إلى الخط الحديدي - تونس سوق الأربعاء - الذي رخصت له حكومة الباي عام 1876، قبل أن يمتد إلى غار الدماء، فصارت المدينة وجهة مهمة للباعة والباحثين عن مورد رزق قار.

اقرأ/ي أيضًا:  متحف قلالة.. نافذة على الحياة في جربة

  • الهجرة الجربية

وفي الفترة ذاتها، عُرف عن الجربي بحثه عن المكان الأمثل ليشغل تجاراته، وذُكر في كتاب مؤنس الأحبة في أخبار جربة، أن "الجربي اشتهر في جميع فروع التجارة وبالأخص تجارة مواد المعاش فأصبحت كلمة (العطار) أي تاجر مواد المعاش مرتبطة به ليس في الجمهورية التونسية فحسب، بل حتى في الجزائر والمغرب والشرق العربي وأوروبا".

ووثقت دراسات تونسية الهجرة الجربية إلى الحاضرة باعتبارها ظاهرة قديمة، سيطر فيها المهاجرون على قطاع تجارة التفصيل. وتنتظم شبكات الاتجار في شركات عائلية تقوم على ثلاثة أطراف هي الممول والشريك والمساعد، حتى بلغ عدد تجار جربة عشية الحرب العالمية الثانية 2300 تاجرًا.

ذُكر في كتاب مؤنس الأحبة في أخبار جربة أن الجربي اشتهر في جميع فروع التجارة وبالأخص تجارة مواد المعاش فأصبحت كلمة (العطار) أي تاجر مواد المعاش مرتبطة به

وفي كتاب الحرف والحرفيون في مدينة تونس في القرنين ال18 و19، ذُكر أنه لهيمنتهم على النشاط التجاري في مدينة تونس، كان أحد أسواقها وهو سوق اللفة يُسمى سوق الجرابة، لاحتكارهم له.

ووُثق دور العائلات الجربية في المراجع العربية، منها "العائلة والثروة: البيوت التجارية المغربية في مصر العثمانية"، وفيه أنّ جزيرة جربة كانت أكثر المناطق التي تدفقت منها العائلات المغربية إلى مصر؛ إذ من بين 84 عائلة تونسية تم رصد نشاطها التجاري بوضوح يوجد 32 عائلة جربية، ما يؤكد قوتهم في المجال.

  • دوافع الهجرة وأسباب النجاح

ما الذي يجعل من المواطن الجربي، تاجرًا مشهورًا داخل تونس وخارجها، وقبلة التونسيين في مناسباتهم؟

سؤال طرحناه على الصدغياني، الذي وضح وجود سببين لشهرته ونجاحه في السوق، أما السبب الموضوعي فيعود، وفقه، إلى جغرافية الجزيرة التي يحيط بها البحر، ولا تملك منتوجًا كبيرًا يسمح لهم بممارسة الفلاحة أو بيع ما تنتجه الأرض، إذ أنّ غلالها وخضرها تكون في شكل "جناين"، فلكل عائلة رقعة صغيرة تستغلها لتوفير قوتها، وهي أرض للاكتفاء الذاتي فقط. ولضيق العيش وانحصاره، يخرج أب العائلة، ليعيل الأسرة ويفتح باب رزق آخر، وعادة ما يكون مسنودًا من قريب له نزح قبله، لأنه لا يُغامر دون ضمانات.

لا يعرف الصدغياني لماذا اختار جده جندوبة كوجهة، لكن المدينة وفق قوله، كانت تمتاز بوجود محطة قطار تُمثل مركز المدينة، على غرار المدينة العتيقة التي تكونت دكاكينها وأسواقها حول جامع الزيتونة، باعتباره المركز.

وكانت تُعرف جندوبة حينها بـ"سوق الأربعاء"، على اسم اليوم الذي تُفتح فيه أسواقها، فاستقطبت مختلف الملل والمهاجرين من مُدنهم، ومن أولى العائلات الجربية التي حطت فيها: عائلتي الصدغياني (العطارة وبيع الملابس) والباروني (أصحاب أشهر حمام في المدينة). 

أما الأسباب الذاتية، حسب ناجي، فتتعلق بشخصية الجربي، وقدرته على التعايش والتماهي داخل المجتمع، والانسجام مع السكان مهما اختلف عنهم، ويعود ذلك لتفوقه في التجارة ولحسن أخلاقه. إذ عُرف الجربي بنشاطه وأمانته وذكائه وقدرته على استثمار رأس المال، وسرعة إتقانه للغة حرفائه، شهرة لا ينافسه فيها أحد، وفق كتاب مؤنس الأحبة.

ولعل دور الجزيرة تاريخيًّا، ووجودها على واجهة بحرية مثلت مركزًا تجاريًّا ونقطة استراتيجية لمختلف القوى الاستعمارية التي حاولت السيطرة على دول شمال أفريقية، ساهمت في هذه التركيبة الاجتماعية للجربي والعقل التجاري الذي تميز به مقارنة بغيره.

العطار الجربي بجندوبة ناجي الصدغياني لـ"الترا تونس": التاجر منا يتميز بالإتقان والصبر والديمومة، خصوصية لديها أسبابها، أهمها المحافظة على الموروث والانغلاق المحمود الراجع إلى البيئة المحافظة

يضيف الصدغياني لـ"الترا تونس"، في السياق ذاته، أنّ التاجر منهم، يتميز بالإتقان والصبر والديمومة، خصوصية لديها أسبابها، أهمها المحافظة على الموروث والانغلاق المحمود، الراجع إلى البيئة الدينية المحافظة وتمسكهم بالدين.

وأكد أنّ الهوية الجربية من الهويات القليلة التي يُحتفظ بها ومتوارثة لأجيال، تجمع القيم الاجتماعية من تسامح وقبول للآخر وتعايش مع مختلف الثقافات والديانات الأخرى والموروث المشترك، وهي أشبه بتأشيرة يحملها معه أينما حل.

عُرف الجربي بأنه منغلق على نفسه ومنطوي على ذاته وعلى عالمه الداخلي الخاص، وفي ذلك يقول الصدغياني، إنّ الانغلاق ميزة إيجابية، تدخل في تركيبته الاجتماعية، وهو حذر ومعروف بقلة احتكاكه بالناس، لأنّ التجارة تُغنيه عن تبديد وقته في المقاهي والفضاءات العامة. 

كما أوضح أنّ اسمه مرتبط بمجموعة كاملة يمثلها في المدن التي يقطنها، لذلك يُحاول الحفاظ على المسافة مع الآخر من باب التقدير.

يتحدث ناجي لـ"الترا تونس"، ضاحكًا، عن بعض المواقف التي اعترضته خلال دخوله إلى مقهى ومشاهدته لمباراة كرة قدم، مثلًا، حيث يستغرب الناس وجوده بل يحسبون أنّ الدنيا ستنتهي.

  • آثار الاستعمار والصراعات الزعاماتية

يروي لنا ناجي الصدغياني إحدى فصول العنصرية تجاههم في المدينة، التي تزامنت مع الصراع البورقيبي اليوسفي، وربما كان هذا الصراع سببها المباشر، باعتبار أن صالح بن يوسف أصيل المدينة، وكان يتميز بخصوصية الجرابة ومحبوبًا من التونسيين. 

وبعد اغتياله كانت هناك حملة استئصالية ضدّ اليوسفيين طالت الجرابة، في مختلف أنحاء البلاد وبقيت آثارها حتى السبعينيات من القرن الماضي، وكان بعض سكان المدينة يرددون شعارات أمام دكاكينهم منها: "يا جربي حانوتك طاح، روح لبلادك وارتاح كول الخبز والتفاح".

بعد اغتيال بن يوسف كانت هناك حملة استئصالية ضدّ اليوسفيين طالت الجرابة، في مختلف أنحاء البلاد، وكان بعض سكان المدينة يرددون شعارات "يا جربي حانوتك طاح، روح لبلادك وارتاح كول الخبز والتفاح"

وذكر أنّ الشرارة الأولى لأحداث 9 أفريل عام 1938، بدأت من وادي مليز في جندوبة، يوم 4 من الشهر نفسه، وكانت أولى اجتماعات المناضلين من الحزب الدستوري التونسي أمام دكان عطار جربي يُدعى اسماعيل.

ووفق كتاب "الفقه الإباضي نشأته ومصادره"،  سيطر أهل جربة في عهد الاستعمار الفرنسي على التجارة في تونس وكانوا سدًا منيعًا دون التغلغل اليهودي في الاقتصاد التونسي، ممّا أحنق عليهم اليهود وأنصارهم من المستعمرين، لكن ذلك كان مبعث صمود وتحد لهم وحققوا نجاحًا أكبر.

الدخول إلى حانوت عطار جربي، ليس مُجرد وصف لحالة، أو بسطًا لقصة نجاح، بل هو مبحث عميق، له روابط تاريخية وجغرافية وعلاقات اجتماعية مرتبطة بمراحل مهمة من تاريخ البلاد. حين تدخله تغوص في ماضي تونس، وتخرج منه مشبعًا بالحكايات.



اقرأ/ي أيضًا:

حوار| منجي بورقو: ننتظر دعمًا سياسيًا لتصنيف جربة تراثًا إنسانيًا

معالم المذهب الإباضي في جربة.. من فرادة المشهد المعماري إلى فضاء العيش المشترك