رأي

الطّمأنينة أوّلًا!

5 أكتوبر 2025
محاكم علم تونس الشاذلي بن إبراهيم Getty NurPhoto
"في ظلّ المناخ الّذي تَغيب عنه الطّمأنينة، لم يعد الاختلاف يُدار بالحوار، بل بالشّيطنة.." (صورة توضيحية/الشاذلي بن إبراهيم/Getty/NurPhoto)
بسام بونني
بسام بوننيصحفي وكاتب تونسي

مقال رأي 

 

في مقال ساخر نشرته صحيفة "الوطن" قبل أكثر من 75 عامًا، نقرأ: "تواصوا بالجُبن والنّفاق وحافظوا على التّنافر والشّقاق فهي طريق الخلاص من الآفات (...) وتسابقوا للوشاية ببعضكم البعض وتدرّعوا بالكذب والرّذيلة". 

وكما حذّر، كارل ماركس، فإنّ "التّاريخ يعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة ومرّة على شكل مهزلة". وأميل، شخصيًّا، إلى ما ذهب إليه الكاتب العراقيّ، سنان أنطون، في روايته البديعة "وحدها شجرة الرّمّان" من أنّ "ما نراه الآن هو المهزلة". 

ففي تونس، لم تعد الأزمة، اليوم، أزمة ثقة في الدّولة فحسب، بل أزمة طمأنينة بين المواطن والدّولة وبين المواطنين أنفسهم. لم يعد المواطن يشعر بالأمان في رأيه وحقّه في الاختلاف وواجب التّعاطف والتّضامن مع من يراه مظلومًا، بل بات يخشى أن يُدان مجتمعيًّا قبل أن يُحاكَم قانونيًّا. 

خلنا أنّ المظلمة الّتي تعرّض لها حطّاب سلامة، الّتي قضت محكمة بحبسه أربع سنوات في قضيّة "التآمر" وهو الّذي كانت "جريمته" أنْ ركن سيّارته على مقربة من منزل كان "المتآمرون" يعقدون فيها اجتماعهم، أقسى – وتصحّ أقصى أيضًا – ما يمكن أن تتفتّق عنه قريحة العدالة، حتّى جاء إنزال حكم الإعدام على صابر شوشان على خلفيّة تدوينات على شبكة "فيسبوك" لتُبدّد تفاؤلنا المفرط ويُؤكّد أنّنا ماضون إلى الحَفر، بعد أن بلغنا القاع.

في تونس، لم تعد الأزمة، اليوم، أزمة ثقة في الدّولة فحسب، بل أزمة طمأنينة.. لم يعد المواطن يشعر بالأمان في رأيه وحقّه في الاختلاف وواجب التّعاطف والتّضامن مع من يراه مظلومًا، بل بات يخشى أن يُدان مجتمعيًّا قبل أن يُحاكَم قانونيًّا

وبمجرّد الكشف عن هذا الحكم غير المسبوق في تاريخ تونس، انطلقت موجة شماتة مزعجة حتّى إصابتك بالإحباط، تزامنت، بالمناسبة، مع تهليل البعض لقرصنة الكيان الصّهيونيّ لسفن تابعة لأسطول الصّمود الدّاعم لغزّة واتّهام ناشطين تونسيّين بـ"محاولة توريط البلاد في مشاكل لا علاقة لها بها".

اقرأ/ي أيضًا: حكم بالإعدام بسبب منشورات فيسبوكية يثير استغرابًا واستنكارًا في تونس

على شبكات التّواصل الاجتماعيّ، ثمّة حالة هلوسة واسعة أخرجت ضرورة الإحساس بالطّمأنينة من ترف أخلاقيّ إلى شرطٍ وجودّيٍ لاستمراريّة المجتمع. فالطّمأنينة ليست شعورًا عابرًا، بل مبدأ تأسيسيّ حيويّ. هي الإحساس بأنّك لست مهدّدًا لأيّ سبب من الأسباب وأنّك بالفعل فرد معترَف به ضمن مجموعة كبيرة هي المجتمع. وتقف الشّيطنة، هنا، بما تتضمّنه من أفعال الّتبرير والشّماتة والتّحريض والتّنمّر والتّمييز، سدًّا منيعًا، يجعل أيّ فرد يشعر، إلى جانب أزمة الدّولة المؤسّساتيّة، بانهيار الضّمانات – خاصّة النّفسيّة منها - الّتي تجعل من المجتمع فضاءً آمنًا.

منذ لحظة 25 جويلية/يوليو 2021، دخلت تونس مسارًا أحاديًّا ألغى تدريجيًّا الأجسام الوسيطة كافّة، من أحزاب وجمعيّات ونقابات وإعلام، بصرف النّظر عن توجّهاتها وعلى اختلاف تقييم أدائها، فلم يعد هناك من يُفاوض باسم المواطن ولا من يُراقب باسم المصلحة العامّة. بات الرّئيس هو الدّولة والدّولة هي الرّئيس، بينما تحوّل المواطن إلى فردٍ معزولٍ يخشى مواجهة سُلطة لا ترحم ومجتمع منقسم، تنخره عدائيّة مفزعة.

النّتيجة كانت عزوفًا سياسيًّا مخيفًا، ولعلّ نسب المشاركة في العمليّات الانتخابيّة الّتي أعقبت انقلاب قيس سعيّد، وهي الأدنى منذ الثّورة، تُؤكّد ذلك. لكنّ الأخطر هو الانزلاق نحو التّسليم بالوضع. ففي الموجة الأخيرة لـ"الباروميتر العربيّ"، الّذي تُشرف عليه جامعات أميركيّة مرموقة من بينها برينستون، قال 43 بالمائة من التّونسيّين المستطلَعة آراؤهم إنّهم يُفضّلون حكم الرّجل الواحد، مقابل 28 بالمائة في موجة 2021-2022. هذا التّحوّل لا يعكس فقط خيبة أمل من الدّيمقراطيّة، كنظام حكم، بل بحثًا عن طمأنينة بديلة، وإن كانت وهميّة، في صورة "القائد القويّ المنقذ" الّتي يسعى سعيّد وأنصاره إلى تكريسها. 

في ظلّ هذا المناخ الّذي تَغيب عنه الطّمأنينة، لم يعد الاختلاف يُدار بالحوار، بل بالشّيطنة. فمن يُعارض يُتّهم بالخيانة ومن يُدافع عن معتقل يُوصَم بالعمالة ومن يكتب رأيًا يُلاحَق قضائيًّا. هذا الانكماش في المجال العامّ لا يُنتج خوفًا فحسب، بل يُنتج عداءً بين المواطنين أنفسهم

ومن المفارقات أنّ نتائج الموجة الأخيرة لـ"الباروميتر العربيّ"، الّتي نُشرت الشّهر الماضي، كشفت أنّ 71 بالمائة من التّونسيّين عبّروا عن شعورهم بعدم الأمان الشّخصيّ، في الوقت الّذي ذكر فيه 64 بالمائة أنّهم قلقون من تأثير الوضع الاقتصاديّ على أسرهم، وهو ما يُثبِّت حقيقة أنّ الطّمأنينة لا تُبنى فقط على السّياسة، بل على القدرة على توفير شروط العيش الكريم، وهو ما يبدو بعيد المنال، في الوقت الرّاهن، بالنّظر إلى المؤشّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المقلقة. فبالرّغم من رفع وكالة "فيتش" تصنيف تونس الائتمانيّ من "CCC+" إلى "B-"، بنظرة مستقبليّة مستقرّة، لا تزال نسبة التّضخّم مرتفعة، عند مستوى 5.3 بالمائة وإن تراجعت بشكل طفيف، بينما لا يزال الدَّين العامّ عند 83 بالمائة من النّاتج المحلّيّ الإجماليّ، وسط توقّعات بمضيّ الحكومة في سياسة التّقشّف، مع بقاء الميزانيّة عُرضة للصّدمات الخارجيّة.

اقرأ/ي أيضًا: أرقام تنمو في بيئة سيئة.. مفارقة اقتصادية واجتماعية في تونس

وهذه الأرقام لا تعني فقط وجود أزمة متعاظمة على مستوى تدهور المقدرة الشّرائيّة بل تُغذّي حالة عدم يقين لدى المواطن، إذ بات يخشى السّقوط في العجز عن سداد حاجيّاته اليوميّة والشّهريّة، ناهيك عن مصير أبنائه في المستقبل. وقد كشفت بيانات المعهد الوطنيّ للإحصاء، الاثنين الماضي، أنّ 32.5 بالمائة من الشّباب لا يعملون ولا يتلقّون أيّ تعليم أو تدريب.

لم يخلق الرّئيس التّونسيّ حالة انعدام الطّمأنينة تلك، بل استثمر فيها، بخطاب يقوم أساسًا على تفسير مؤامراتيّ لكلّ الإخفاقات الّتي تُرى بالعين المُجرّدة، فيتّهم، تارة، أطرافًا لا يُسمّيها بعرقلة هذا المشروع أو ذاك، ويتهجّم، تارة أخرى، على قوى إقليميّة ودوليّة لا يُحدّدها بالتّدخّل في الشّأن التّونسيّ.

في ظلّ هذا المناخ الّذي تَغيب عنه الطّمأنينة، لم يعد الاختلاف، سياسيًّا كان أو حقوقيًّا أو قانونيًّا أو أخلاقيًّا أو ثقافيًّا أو حتّى رياضيًّا، يُدار بالحوار، بل بالشّيطنة. فمن يُعارض يُتّهم بالخيانة ومن يُدافع عن معتقل يُوصَم بالعمالة ومن يكتب رأيًا يُلاحَق قضائيًّا. هذا الانكماش في المجال العامّ لا يُنتج خوفًا فحسب، بل يُنتج عداءً بين المواطنين أنفسهم. 

الطّمأنينة المجتمعيّة تعني أن يثق المواطن في نيّات جاره وفي حقّ المختلف في التّعبير وفي أنّ القانون يحمي الجميع ولا يُستخدم ضدّ البعض. عكس ذلك يؤدّي إلى اختزال الدّولة في طرف واحد، دون غيره.

ما تحتاجه تونس، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أهمّ بكثير من الإصلاح السّياسيّ.. إذ لا يمكن استعادة الثّقة دون استعادة الطّمأنينة.. لكن، حتّى لا نُبالغ في رفع سقف التوقّعات، لا تبدو الشّروط الدّنيا متوفّرة، الآن وهنا. فالسّلطة الحاكمة تمضي في التّنكيل بمن تعتبرهم خصومًا

ما تحتاجه تونس، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، أهمّ بكثير من الإصلاح السّياسيّ. ما تحتاجه البلاد كضرورة عاجلة هي إعادة بناء للضّمير الجمعيّ، إذ لا يمكن استعادة الثّقة دون استعادة الطّمأنينة. فتماسك المجتمعات لا يُقاس بمدى شعور المواطن بالأمان. وتونس، إن أرادت أن تستعيد نفسها وعافيتها، فعليها أن تبدأ من هناك: من الطّمأنينة! 

لكن، حتّى لا نُبالغ في رفع سقف التوقّعات، لا تبدو الشّروط الدّنيا متوفّرة، الآن وهنا. فالسّلطة الحاكمة تمضي في التّنكيل بمن تعتبرهم خصومًا، متجاهلة ديناميكيّات الحكم الّتي تأسّست عليها الدّولة منذ الاستقلال، بما فيها السّلطة الأخلاقيّة للمجتمع كأساس للعيش المشترك، وإن كانت تتذبذب بين القوّة والضعف. لا اكتراث لعلويّة القانون، ولا رؤية واضحة للسّياسات العامّة، فيما يزداد المواطن اختناقًا، من الدّولة ومن "الآخر" الّذي يُفترض أن يكون سندًا له. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

الكلمات المفتاحية

التآمر فتحي بلعيد أ ف ب Getty

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟

لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم


أحمد صواب الشاذلي بن إبراهيم NurPhoto Getty

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!

"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"


أحمد صواب غيتي Nur photo

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة

"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."


التعليم في تونس القايدي.jpg

الإصلاح التربوي في تونس وعطالة الزمنيْن المدرسي والاجتماعي

ذهبت الدراسات إلى أن سوء التصرف في الزمن المدرسي يتسبب في استشراء العنف في الوسط المدرسي وهو فعلًا ما تعيشه المدرسة في تونس في السنوات الأخيرة

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي
اقتصاد

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي

البنك الدولي: يساعد المشروع على خفض تكاليف إمدادات الكهرباء بنسبة 23%، وتحسين نسبة استرداد تكاليف الشركة التونسية للكهرباء والغاز من 60 إلى 80%

أيام قرطاج المسرحية 2025.. عروض متنوعة ويحيى الفخراني في الافتتاح
ثقافة وفنون

أيام قرطاج المسرحية 2025.. يحيى الفخراني والفاضل الجعايبي في الافتتاح

تتضمن برمجة هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية، 12 عرضًا ضمن المسابقة الرسمية، و15 عرضًا في قسم "مسرح العالم"، و16 عرضًا تونسيًا، و6 عروض عربية وإفريقية


تعرف على قيمة الزكاة في الزيتون والتمر
مجتمع

تعرّف على نصاب زكاة الزيتون والتمر في تونس للعام الهجري 1447

أعلن ديوان الإفتاء في تونس، يوم الخميس 13 نوفمبر 2025 عن نصاب زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار للموسم الفلاحي الحالي 1447هـ ـ 2025 م، وذلك مواكبة لانطلاق موسم جني الثمار، وفق بلاغ له

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس
سیاسة

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس

عقدت الهيئة الوطنية للمحامين بتونس جلسة عامة إخبارية في دار المحامي، يوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 بدعوة من العميد بوبكر بالثابت، أكدت خلالها على ضرورة حضور جميع الجلسات والترافع لضمان حضور المتهمين شخصيًا في قاعات المحاكم، مع رفض المحاكمات عن بعد لما تفتقر إليه من شروط قانونية، وتعد انتهاكاً لمبدأ المحاكمة العادلة عبر حرمان المتهم من الدفاع دون مبرر قانوني

الأكثر قراءة

1
میدیا

زياد دبار: تعليق نشاط جمعية "نواة" سابقة خطيرة وهو قرار سياسي مغلف بقرار إداري


2
اقتصاد

حوار| مستشار جبائي: ضغط جبائي مرتفع وتشجيع الاستثمار غائب في مشروع قانون المالية 2026


3
سیاسة

هيئة الدفاع: فتح تحقيق إداري في الاعتداء على جوهر بن مبارك بعد نقله للمستشفى


4
سیاسة

أحزاب تونسية: إدانة للتنكيل الممنهج بالسجناء السياسيين ودعوة لإطلاق سراحهم


5
سیاسة

تأخير النظر مجددًا في القضية الاستعجالية لإيقاف نشاط الوحدات الملوثة بقابس