30-أبريل-2019

يقع تقييم الصحافة أولًا على الجهود المبذولة للوصول إلى الحقيقة (Getty)

 

إن تنامي مكانة المشاعر (الغضب، الكراهية، الحقد إلخ) في المجال السياسي وإستراتيجيات التلاعب بالأحداث وحملات التضليل والدعاية والاستقطاب الإيديولوجي والسياسي والاستثمار في تقنيات الاتصال الماكرة والمخادعة التي يستخدمها مختلف الفاعلين السياسيين في تونس، يجعل من الصحافة مؤسسة أمينة على حق التونسيين في المعرفة كمطلب مهني واجتماعي أساسي.

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. الهلع (3/1)

البحث عن الحقيقة هي الواجب الأول للصحفي

تتصدر قيمة الحقيقة المواثيق الأخلاقية وهي القيمة المشتركة للصحفيين مهما كانت انتماءاتهم لأن الصحافة واحدة وقيمها الأساسية كونية. لا توجد أخلاقيات عربية أو إسلامية أو مسيحية أو هندوسية للصحافة باستثناء مسائل عملية يمكن الاختلاف فيها على غرار معالجة الأحداث الإرهابية مثلًا، وتمثل الحقيقة، من بين هذه القيم الكونية التي وضعتها المهنة، قيمة كبرى.

يشير البند الأول لميثاق الاتحاد الدولي للصحفيين إلى أن "احترام الحقيقة وحق الجمهور في معرفة هذه الحقيقة هي مسؤولية الصحافي الأولى". أما ميثاق شرف نقابة الصحفيين التونسيين فينصّ في مبدئه الأول على أن "الصُحفي يلتزمُ بالسعي إلى الحقيقة وبالعمل على إبلاغها إلى الرأي العام في إطار حقه في النفاذ إلى المعلومة"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الميثاق الأخلاقي لجمعية الصحفيين المهنيين الأمريكيين الذي يؤكد أن الصحفي يبحث عن الحقيقة ويسعى إلى إبلاغها إلى الجمهور.

هكذا نتبيّن أن الصحافة، بما في ذلك الصحافة التونسية، تقيّم أولًا وقبل كل شيء على الجهود التي تبذلها للبحث عن الحقيقة، ولا يعني هذا أن الصحفي يصبح الأمين وحده على الحقيقة بل هي الغاية التي يسعى الصحفي إلى تحقيقها وفق المنهجية الصحفية المهنية. إن ما يجب أن نحاسب عليه الصحفي ليس بالضرورة وصوله إلى حقيقة ما نهائية في قضية ما، لكن الجهود التي بذلها بكل نزاهة للوصول إليها ومهنية المنهجية لتحقيق ذلك.

 ما يجب أن نحاسب عليه الصحفي ليس بالضرورة وصوله إلى حقيقة ما نهائية في قضية ما لكن الجهود التي بذلها بكل نزاهة للوصول إليها

لكن القارئ يمكن أن يتساءل هل هناك أصلًا "حقيقة صحفية"؟ وما هي إن وجدت؟  فهل هي حقيقة أزلية وكونية لا يرقى إليها الشك". في كتابهما "أسس الصحافة" (The Elements of Journalism)، يقدم المؤلفان بيل كوفاخ (Bill Kovach) وتوم روسنسيال (Tom Rosenstiel) إجابة طريفة للحقيقة الصحفية التي يدافعان عن وجودها ويعرفانها باعتبارها "حقيقة ذات طبيعة عملية ووظيفية مقارنة بالحقيقة الفلسفية والعلمية تسمح لنا بالتصرف في حياتنا اليومية... وهذه الحقائق العملية والوظيفية تستدعي منهجية مهنية لتجميع الوقائع والتحري فيها فيسعى الصحفيون إلى تقديم أخبار نزيهة وذات مصداقية تبقى في كل الأحوال موضوعًا لتحريات أخرى".

قد لا يستسيغ بعض الصحفيين هذا التوصيف للصحافة الذي ينزع عنها بعدها "الرومانسي" لأنه قد يجردهم مما يعتبرونه التزاماتهم السياسية أو الأيديولوجية أو حتى الوطنية ويحولهم إلى "روبوتات" محايدة لا طعم لها ولا نكهة. يوجد صحفيون يطمحون إلى مقارعة "أعداء الوطن والثورة والشعب" و"الدولة العميقة" و"القوى الرجعية" ومساندة "القوى التقدمية"، فكيف لهم أن يتخلّوا عن هذه المهام لصالح السعي إلى الحقيقة (أو الحقائق) المجردة؟ كيف يمكن للصحافة أن تختزل فقط في المنهجية؟ أليس هذا تبخيسًا للصحافة ونفيًا لأدوارها النضالية؟    

منظور جديد للحياد الصحفي

يتصدى الباحث الأمريكي ستيفين وارد في نص من أجمل ما كتب عن الصحافة إلى هذا الطرح معتبرًا أن الحقيقة هي "إيروس الصحافة" والشغف بها لا يحوّل الصحفي بالضرورة إلى كائن محايد لا موقف له بلا روح وبلا مشاعر غير مبال بالعالم وبالأحداث أي كائن بلا إحساس يتعامل مع الأحداث بشكل آلي. كما يرى المشككون في مقتضى الموضوعية وعدم الانحياز أن الصحافة الموضوعية والمحايدة هي صحافة. يرد ستيفين وارد على هذا الإدعاء الذي يجعل من الصحفي "كائنًا مخصيًا" (Eunuque) بأن الصحافة الموضوعية وغير المنحازة لا تعني بالمرة أن على الصحفي التخلي عن مشاعره وعن قدرته على الإحساس بالعالم، معتبرًا أن الصحافة الموضوعية والمحايدة هي على العكس من ذلك قائمة على شغف مخصوص هو الشغف بالحقيقة بل على حب الحقيقة.

إن الموضوعية ليست تقليصًا من إمكانيات الصحافة بقدر ما هي توسيعًا لمجالها

نحن هنا إذًا أمام مفارقة الحياد، كما يرى ستيفن وارد ذلك أن التخلي عن اتخاذ موقف هو في الواقع موقف بذاته لكنه موقف غير أعمى مستنير بما أن الصحافة غير المنحازة هي التزام الصحفي بخدمة مصلحة الجمهور في أن يعرف. لا يضمر الصحفي الشغوف بالحقيقة نهاية القصة قبل نهاية التحقيق لأن الصحافة غير المنحازة هي صحافة منفتحة تقتضي المساءلة النقدية وتنخرط في مسالك استكشافية مهما كانت نهاية التحقيق.

إن الموضوعية إذًا ليست تقليصًا من إمكانيات الصحافة بقدر ما هي توسيعًا لمجالها. يدعو ستيفن وارد الصحفيين إلى ترويض مشاعرهم وتربيتها بدل إقصاءها حتى تصبح الصحافة مزيجًا فريدًا من العقلانية والمشاعر والأحاسيس. هكذا وضعت المهنة آليات منهجية وإجرائية لتأمين سعي الصحفي إلى الحقيقة ومنها خاصة تلك المتعلقة بواجب التحري كما أشرنا إلى ذلك في مقالنا السابق.

إن هذا التصور للصحافة باعتبارها نشاطًا يتمثل في السعي إلى الحقيقة والبحث عنها ليست سوى تصورًا مثاليًا ومعياريًا للصحافة كما يجب أن تكون. ومن الصعب جدًا أن نجد تجسيدًا فعليًا وواقعيًا مكتملًا لها. في المقابل، فإن هذا الطابع المثالي والمعياري لا ينفي عن هذا التصور المجرد للصحافة قوتها الفعلية الكامنة في أنها تمثل مطمح الصحفيين بشكل عام يسعون دائمًا إلى تحقيقه بل هذا التصور هو مرجعية يسائل بها الصحفيون زملائهم وكذلك معيارًا يقيّم به المواطنون الصحفيون أنفسهم.

لماذا نحتاج إلى صحافة تونسية تسعى إلى الحقيقة؟

ككل الديمقراطيات، تقوم الديمقراطية التونسية الناشئة على مبدأ ضمني يتمثل في أن المجتمع متعدد ومنقسم بطبيعته، ليس إلى فريقين متعارضين ومتضادين كما حصل منذ النقاش حول الدستور رغم تراجع هذا التضاد منذ انتخابات 2014. إن الانقسام هنا يعنى أن المجتمع قائم على تنوع لا حصر له على أساس حرية الأفراد في الرأي والتعبير وليس على أسس طائفية أو دينية أو عرقية. لا يمكن للديمقراطية الأصيلة أن تمنع حالة الإتلاف والتنوع وإلاّ تحولت إلى نقيضها.

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. التحرّي (3/2)

وفي سياق تنامي الميديا الاجتماعية والاستقطاب الإيديولوجي والسياسي وإستراتيجيات التضليل والدعاية والهلع، يصبح الخطر الأكبر هو نهاية العالم المشترك الذي يجمع التونسيين وانعزالهم عن بعضهم البعض لأن التنوع لا يجب أن يتحول إلى انفصال وانقطاع. إن غاية إستراتيجية التلاعب بالأخبار والوقائع هي تدمير هذا العالم المشترك الذي نعيش فيها معًا: نشترك فيه في الوقائع ونختلف في تأويلها، أي بمعنى أخر كما تقول الفيلسوف حنا أرنت فإننا ننظر من أفاق مختلفة إلى الأشياء ذاتها.

إن هذا العالم المشترك الذي يجمعنا رغم أننا مختلفون ومتنوعون لا يمكن أن يقوم اليوم دون الصحافة لأنها تُعلمنا عما يحصل في عالمنا السياسي والاجتماعي وفي مناطق تونس المختلفة. فدون وساطة الصحافة الأمينة على الوقائع، نعيش منعزلين عن بعضنا البعض في عوالم منفصلة ومنكفئين على أنفسنا. 

ما الذي يعيق صحافة الحقيقة؟

توجد قضايا عديدة أساسية تناولتها الصحافة التونسية من منظور خبري بحت تنقل فيه الوقائع المباشرة الحينية دون التحقيق فيها بالشكل الكافي باستثناء المبادرات التي قامت مواقع الصحافة البديلة على غرار موقعي "إنكيفادا" و"نواة". نتحدث بالخصوص عن قضايا "جهاد النكاح"، ما يسمى "الجهاز السري" لحركة النهضة، والتعويضات لضحايا النظام السابق، وفاجعة الرابطة، والاعتداءات على المتظاهرين في عيد الشهداء عام 2012 إضافة لمسألة تمويلات الأحزاب وعشرات القضايا الأخرى سواء كانت كبيرة أو صغيرة.

لم تكشف في هذه القضايا الحقيقة بل رأينا فاعلين آخرين من قاموا بوظيفة الصحفيين على غرار المحامين في قضية "الجهاز السري" لحركة النهضة حتى أصبحنا نتحدث عن "محاماة استقصائية". وفي كثير من الأحيان أيضًا، يصبح القضاء المؤسسة المؤتمنة على الحقيقة في حين أن الصحافة أولى بذلك.

توجد قضايا عديدة أساسية تناولتها الصحافة التونسية من منظور خبري بحت تنقل فيه الوقائع المباشرة الحينية دون التحقيق فيها بالشكل الكافي باستثناء المبادرات التي قامت بها مواقع الصحافة البديلة 

إن المتابع لتعليقات التونسيين عن الصحافة يلاحظ بكل وضوح أن ما يعيبونه على الصحفيين هو الانحياز لهذا الطرف السياسي أو ذاك وتفريطهم أحيانًا في خدمة حق الجمهور في الحقيقة وفي أخبار موثوقة. في هذه الملفات العديدة، تصبح الحقيقة شأنًا سياسيًا وشخصيًا وحزبيًا وإيديولوجيًا مما يمكن أن يهدد العالم المشترك الذي يحتضن التونسيين جميعًا.

لكن ما الذي يمنع الصحافة التونسية من أن تجعل من الحقيقة قيمة عليا تهتدي بها ومعرفة تسعى إليها كما تؤكد على ذلك مواثيقها؟ يمكن حوصلة الإجابة في الآتي:

من جهة أولى السياق المهني الذي يشتغل فيه الصحفيون الذي لا يتيح التحرّي والتحقيق والاستقصاء فغالبية الصحفيين يعملون في ظروف مهنية صعبة تجبرهم على ممارسة صحافة ناقلة ذات طابع تسجيلي، لا يتمتعون بالوقت الضروري والإمكانات التنظيمية التي تقتضيها الصحافة الساعية إلى الحقيقة. لقد أصبحت الصحافة صناعة مكلفة بالنسبة للعديد المؤسسات التي انتهجت الكثير منها إستراتيجية الحد الأدنى: نشرات إخبارية مقتضبة أو التخلي عن نشرات الأخبار أصلًا (على غرار قناة التاسعة).

ومن جهة ثانية يأتي الحديث هم تمثلات الصحفيين لأدوارهم، إذ ينظر بعض الصحفيين إلى أنفسهم باعتبارهم ناقدين للسلطة السياسية وليس بالضرورة مراقبين لها. والفرق بين الدورين أن الصحفي الناقد للسلطة يكتفي بالرأي في حين أن رقابة السلطة السياسية تقتضي التحقيق في عالم السلطة وتعريته وكشف خفاياه، وثمة أيضًا من الصحفيين من ينظر إلى نفسه باعتباره صاحب رأي وقائدًا للرأي العام بل معلمًا له وغير معني بقيمة الصحافة العليا أي الحقيقة.

 السياق المهني الذي يشتغل فيه الصحفيون لا يتيح التحرّي والتحقيق والاستقصاء فغالبية الصحفيين يعملون في ظروف مهنية صعبة

لعل المفارقة التي يجب أن ننتبه إليها هو أن ما يمكن أن نسميها الرؤية الرومانسية للصحافة هي التي قد تعيق إيلاء الحقيقة المكانة العليا التي تقتضيها لأنها تعطل عند الصحفيين توظيف المنهجية الصارمة للتحري في الوقائع والتثبت منها وسردها بشكل موضوعي إيمانًا بحق الجمهور في معرفتها وإيمانًا كذلك بأن هذا الجمهور قادر اعتمادًا على هذه المعرفة الموضوعية التي يوفرها الصحفي.

إن الرؤية الرومانسية للصحافة تجعل من الصحفي كائنا شعوريًا ملتزمًا بقضايا ما منخرطًا في الدفاع عنها وهو ما يؤدي في كثير من الإحساس إلى التضحية بالمنهجية الصحفية لصالح إبداء الموقف. توظف هذه الرؤية الرومانسية للصحافة إلى شرعنة مواقف منحازة بل إنها أحيانًا كثيرة تساهم في تأجيج المشاعر وفي تعزيز الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي مما يؤدى إلى التضحية بالحقيقة رغم أنها قيمة الصحافة الأساسية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"

في أزمة الصحافة التونسية أو احتضارها..