21-سبتمبر-2019

يوم الأحد 15 سبتمبر 2019 لن يكون بكل المقاييس يومًا عاديًا في تاريخ تونس السياسي الراهن (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

يوم الأحد 15 سبتمبر/ أيلول 2019 لن يكون بكل المقاييس يومًا عاديًا في تاريخ تونس السياسي الراهن. فالنتائج التي أفرزتها يومها عملية الاقتراع في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها شكّلت صدمة قوية للمنظومة السياسية برمتها سلطة ومعارضة. لا شك في أنّ الديناميكية السياسية والانتخابية التي تسيّر تونس قبل هذا التاريخ لن تكون هي نفسها في المستقبل القريب على الأقل. لكن السؤال الأبرز الذي وجب طرحه الآن وهنا قبل استشراف ما سيحصل لاحقًا هو فهم حقيقة ما حصل وأسباب ذلك بعيدًا عن نظريات التخويف والشيطنة أو تبسيط الأشياء بناء على التسطيح الإعلامي والترذيل السياسوي السائد في كثير من التحاليل والمواقف؟

إنّ الاستنتاج الأبرز في نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها هو الهزيمة المدوية للدولة العميقة ومنظومتها السياسية

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد.. الرّاديكاليّة و"الرّوافض"

من المؤكد أنّه لا اختلاف في توصيف ما حدث بأنّه تسونامي انتخابي أو زلزال سياسي هزّ أركان منظومة الحكم على وجه الخصوص بل شمل أيضًا الطبقة السياسية برمتها نخبًا وأحزابًا ونساء ورجال أعمال ومنظمات وطنية شكلت جزءًا من "السيستام" فضلًا عن الرافد الإعلامي الذي ليس بمنأى عن هذه الديناميكية.

منذ أشهر كان هناك العديد من المؤشرات التي تفيد أنّ هناك شيء ما سيحصل كردّ فعل على فشل المنظومة السياسية التي حكمت البلاد بعد الثورة. فقد تعمقت الهوّة بين الحاكم والمحكوم وزاد منسوب انعدام الثقة في الأحزاب الحاكمة وفي مؤسسات الدولة كما تفشى الفساد السياسي الذي تحوّل إلى عنوان مرحلة تنامت فيها القطيعة والنقمة بين المركز والهامش، بين السياسيين الكلاسيكيين المتصدرين للمشهد وعموم المواطنين في تونس العميقة. وقد تبيّن ذلك خاصة إبان الانتخابات البلدية في ماي/ أيار 2018 حينما أفرزت النتائج صعود نجم القائمات المستقلة والمبادرات المواطنية مقابل بداية أفول الأحزاب إذا ما استثنينا حركة النهضة بشكل نسبي.

إنّ الاستنتاج الأبرز في نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها هو الهزيمة المدوية للدولة العميقة ومنظومتها السياسية التي خيّل للبعض أنّ الدرّ قد عاد إلى معدنه وأنّ عودها قد اشتدّ بعد لقاء باريس الشهير في صائفة 2013 ولاسيما غداة تحالف حركة النهضة مع نداء تونس بقيادة الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. عجزت هذه المنظومة عن مواكبة التحولات الاجتماعية التي شهدتها البلاد على امتداد 9 سنوات فقد كانت تظنّ أنّ مقاربتها في التعاطي مع أزمات الدولة وانتظارات المجتمع صالحة لكلّ زمان ومكان.

لقد كانت مرحلة التوافق المغشوش بين النهضة والنداء إسفينًا آخر دقّ في نعش المنظومة السياسية للدولة العميقة التي ثارت عليها تونس الأعماق ثورة ناعمة عبر صناديق الاقتراع. لم يفشل هذا التوافق بسبب التحالف في حدّ ذاته الذي يصفه البعض بالمضاد للطبيعة بل انهزم أيضًا لغياب المضمون القادر على إنقاذ البلاد من أزماتها المتعاقبة ولا أدل على ذلك الالتجاء لحوار قرطاج 1 ثمّ قرطاج 2 والعبث السياسي الذي عشنا على وقعه مدّة 5 سنوات داخل البرلمان وخارجه في رئاستي الحكومة والجمهورية.

قد لا نبالغ هنا حينما نتحدث عن استثناء ديمقراطي تونسي في المنطقة العربية والإسلامية

ما بني على باطل فهو باطل والطبيعة عادة ما تأبى الفراغ، هكذا هي أحكام السيرورة التاريخية. فالمنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ انتخابات 2014 انخرطت في صراعات عبثية أدت إلى انقسامها الذي تجلّى خاصة في ترشح رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي وجهًا لوجه. كما أنّ حركة النهضة لم تفلح في الوصول بمرشحها عبد الفتاح مورو إلى الدور الثاني رغم كلّ الآمال التي علقتها على هذه الترشح. لقد كان المدّ العقابي هادرًا أعلى من كلّ محاولات الاحتواء وكبح الجماح وهو ما يفسر فوز المرشح قيس سعيّد الذي أطاح بمنظومة كاملة بامكانيات مالية بسيطة وشبه منعدمة وبحملة انتخابية غير نمطية ستدرّس مستقبلًا في الجامعات في مجال الاتصال السياسي وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم والسياسية فهي تبدو للبعض معجزة اخترقت كلّ المفاهيم والنظريات العلمية القديمة والمألوفة.

أن يهزم رئيس حكومة شاب، وهو الذي مارس الحكم لمدّة 3 سنوات ووظّف العديد من إمكانيات الدولة ومقدرات الشعب لفائدة حملته الانتخابية وهو الذي كان يحظى بدعم كبار رجال الأعمال في البلاد بعضهم عن قناعة والبعض الآخر خوفًا من بطشه أو من منطلقات انتهازية براغماتية، ففي هذا دليل على نزاهة الانتخابات بدرجة كبيرة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا التلاعب بواسطة استطلاعات الرأي؟

قد لا نبالغ هنا حينما نتحدث عن استثناء ديمقراطي تونسي في المنطقة العربية والإسلامية لاسيما عندما نشير إلى أنّ نفس المرشح كان يحظى بحزام داعم قويّ ومؤثر في السابق ضمّ طيفًا واسعًا من النخب الجامعية والثقافية والرياضية وحتّى وسائل إعلام جعلت منه "أيقونة" كاذبة بنفس آليات التضليل والدعاية التي كانت تعمل في عهد عبد الوهاب عبد الله خلال الحقبة النوفمبرية.

من حقّ البعض أن يحترز على تصنيف فوز المرشح نبيل القروي ضمن نفس دائرة التصويت المعادي للمنظومة الحاكمة وهو ابن شرعي للسيستام منذ عهد الرئيس بن علي وليس بعد الثورة فحسب، مرورًا بالأدوار التي لعبها في بروز نداء تونس ووصول الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج. الإجابة ستكون حتمًا بالدعوة إلى البحث عن الآليات والمقاربة التي اشتغل بها القروي منذ 3 سنوات تاريخ انطلاق البرنامج التلفزي الخيري "خليل تونس"، فتبيان التمايز الذي نجح في خلقه عن بقية الطبقة السياسية شكلًا ومضمونًا وهو ما جعل أحزابًا مثل حركة النهضة وشخصيات مثل يوسف الشاهد تحاول الاقتداء به خلال الأشهر الأخيرة قبل الانتخابات عبر رفع شعار محاربة الفقر ونصرة المظلومين المهمشين والانحياز للطبقات الفقيرة والمسحوقة كأولوية وطنية، يمكن أن يفسر جزءًا من الأسباب التي جعلت مئات الآلاف من التونسيات والتونسيين يصوتون لصالح مرشح رئاسي يقبع في السجن وهو المتهم في قضايا تبييض أموال وتهرب ضريبي مستفيدًا في ذلك من الحرب التي شنت ضدّه من قبل المنظومة الحاكمة من خلال التصويت على تنقيح القانون الانتخابي لإقصائه والدفع نحو غلق قناة نسمة بتعلّة عدم قانونيتها وهي التي تمثل أحد أهم أسلحته في المعركة السياسية والانتخابية.

 لقد كان للشباب دور كبير خاصة في فوز المرشح قيس سعيّد الذي كان بمثابة الحصان الأسود للانتخابات

أليس حريًا بهؤلاء الذين يمعنون في شتم جمهور ناخبي نبيل القروي ووصفهم بأقذع النعوت من خلال اعتبارهم جهلة ورعاع وعوام وجب إلجامهم عن الكلام وربّما حتّى عن التصويت في الانتخابات إلى الإجابة عن الأسئلة التالي: من يتحمل مسؤولية نسبة 19 في المائة من الأميّة في تونس التي راهنت منذ دولة الاستقلال على التعليم والتنوير؟ من يتحملّ مسؤولية انخرام "مجتمع المقروضة" كما كان يسميه السياسي الفذّ والوزير الأول في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، الهادي نويرة بعد تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تمثل صمام أمام للسلم الاجتماعية حيث تشير الأرقام الرسمية اليوم إلى وجود حوالي 2 مليون فقير في تونس بعضهم يقبع في الفقر المدقع؟ هل يتحمل نبيل القروي الذي كان جزءًا من السيستام لوحده مسؤولية كلّ هذا أم أنّ المنظومة برمتها بيسارها ويمينها، بسلطتها وبمعارضتها هي التي أودت بالبلاد في هذا المطب؟ وبقطع النظر عن النوايا الخبيثة والمآرب الانتخابية التي استبطنها نبيل القروي ألا يحسب للرجل أنّه قد نجح في نفض الغبار عن فئات مهمشة تعيش تحت وطأة "الحقرة" والنسيان بحيث أعاد لها الأمل حتّى وإن كان ذلك يحتاج إلى عقلنة بعيدًا عن الشعبوية والتوظيف السمج؟ ألم تفشل الدولة بأجهزتها ومؤسساتها وأحزابها الحاكمة فيما نجح فيه نبيل القروي الذي قدّم نفسه على أنّه نقيض للسيستام وفي ذلك ضرب من ضروب المخاتلة؟

إنّ فهم أسباب العميقة الثانوية وراء الهزيمة المدوية للمنظومة السياسية الحاكمة في تونس، يتطلب أيضًا الوقوف عند عامل آخر على غاية من الأهمية وربّما كان محدّدًا في نتيجة الانتخابات وهو يتمثل أساسًا في التحوّل الذي طرأ على السوسيولوجيا الانتخابية مقارنة بانتخابات 2011 و2014. لقد كان للشباب دور كبير خاصة في فوز المرشح قيس سعيّد الذي كان بمثابة الحصان الأسود للانتخابات. هناك قرابة مليون ونصف ناخب جديد سجلوا في الفترة الماضية معظمهم من الفئات الشبابية التي تتراوح أعمارها بين 18 و35 سنة.

هذه الفئة يمكن أن نسميها بجيل الانتقال الديمقراطي الذي أعادت له الثورة الأمل في التغيير وفتح آفاق أرحب على المستقبل. نفس هذا الجيل الذي ساهم في المسار التحرري بين 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 و14 جانفي/ كانون الثاني 2011، بان بالكاشف أنّه غير مستعد للتخلي عن حريته والمكاسب التي حققتها الثورة خاصة على المستوى الديمقراطي. لقد بيّن هذا الشباب أنّه على درجة عالية من الوعي السياسي في معاقبته للمنظومة برمتها في ثورة هادئة دعت إليها منذ فترة الناشطة الحقوقية والكاتبة الصحفية المناضلة نزيهة رجيبة تحت مسمى" ثورة الصندوق" والتي من المفارقات أنّه قد تلقفها فيما بعد بعض المرشحين على غرار نبيل القروي مستعملًا إياها في خطابه السياسي.

جدير بالإشارة إلى أنّ حصيلة التحولات السياسية والاجتماعية التي حصلت في تونس على ضوء الانتخابات الرئاسية السابقة في أوانها ليست لها فرادة محلية فحسب بل هي مرتبطة بمتغيرات كبرى تجري اليوم في العالم في ظلّ تنامي صعود التيارات التي توصف بالشعبوية وأيضًا انهيار المنظومات الحزبية الكلاسيكية القائمة على ديمقراطية تمثيلية عمودية أثبتت محدوديتها وقصورها عن تغيير واقع الشعوب والأمم.

يجوز وصف المنظومة الحاكمة في وضعها الحالي بمقولة مغني الراب الشهير "كافون" في أغنيته المستقاة من نبض هوامش المجتمع "السيستام ڨبي ڨبي"

ومن الواضح أنّ هذا الشباب المنفتح على العالم بفضل نسبة تمدرسه العالية وحسن استغلاله لوسائل التواصل الاجتماعي وللتكنولوجيات الحديثة والمتحمس للتغيير وللقطع مع ممارسات سياسية أضرت بالبلاد والعباد قد كان خارج دائرة الاستشراف بالنسبة للمنظومة الحاكمة التي ظلّت حبيسة أوهام انجازات طوباوية وسجينة لحرب مواقع السلطة دون أن تراعي التحولات الاجتماعية ونبض الشارع التونسي.

لا غرو في القول بأنّ ليلة سقوط السيستام تمثل انعطافة تاريخية ستكون لها تداعيات على المستقبل القريب وهو ما يفسر الهيجان والتوتر المسعور الذي صاحب بعض ردود الفعل من قبل منظومة الحكم ورموزها وأدواتها التي يبدو أنّها لم تستوعب بعد الدرس. فعوض أن تنبري بشكل موضوعي عقلاني للبحث عن أسباب هذا التصويت العقابي المزلزل ومحاولة التكيف مع المعطيات الجديدة هاهي تختار سياسة الهروب إلى الأمام بنفس الآليات القديمة رغم أن نتيجة الانتخابات أكدت أنّ الحيلة في ترك الحيل.

إنّ الإمعان في التخويف من المستقبل المجهول تحت مطية شعار "النمط المجتمعي" وتجاهل ما حدث والتعنت في القيام بمراجعات ونقد ذاتي حقيقي سيقود حتمًا إلى زلزال آخر وشيك في الانتخابات التشريعية وما بعدها من تطورات ممكنة قد تفضي إلى تحويل الهزيمة الظرفية والمؤقتة للسيستام في هذه الجولة إلى خسارة نهائية تقطع مع حقبة كاملة من تاريخ البلاد.

في المحصلة، ونحن على أبواب انتخابات تشريعية ستكون محددة في مستقبل البلاد سياسيًا يجوز وصف المنظومة الحاكمة في وضعها الحالي بمقولة مغني الراب الشهير "كافون" في أغنيته المستقاة من نبض هوامش المجتمع "السيستام ڨبي ڨبي". فهي قد تكون نبوءة فنية سابقة لأوانها لكنها حتمًا نتيجة منطقية لحكم من ارتأى العمل بالقاعدة الفقهية "دعها حتّى تقع".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثوابت الدبلوماسية التونسية.. الخرافة الممجوجة

في الرئاسيات.. لا تأمن السّكوت ولا تصدقن "البلعوط"