إشاعة تنقيح مجلة الأحوال الشخصية في اتجاه السماح للرجل بعقد القران بزوجة ثانية في تونس هي من صنف الإشاعات التي تصعد للسطح بين الفينة والأخرى طيلة السنوات الماضية.
ويظهر أنها عادت للانتشار بصفة لافتة مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي مع زعم أن القانون الجديد المزعوم يشترط للزواج بثانية مرور خمس سنوات منذ الزواج بالأولى، في سعي لطبع منحى تفصيلي للإيحاء بالمصداقية. ويبدو أن هذه الإشاعة انتشرت بشكل واسع إلى درجة أنها تحوّلت إلى موضوع تعاليق صحفية في وسائل إعلام ورقية وسمعية، بل استدعت نفيًا من أعضاء بمجلس نواب الشعب.
عادت إشاعة السماح للرجل بعقد القران بزوجة ثانية في تونس للانتشار بصفة لافتة مؤخرًا مع زعم أن القانون الجديد المزعوم يشترط للزواج بثانية مرور 5 سنوات منذ الزواج بالأولى في سعي لطبع منحى تفصيلي للإيهام بالمصداقية
-
الزوجة الثانية في تونس.. لماذا انتشرت الإشاعة الآن؟
أسباب عديدة تفسّر، بداية، يسر انتشار الإشاعات بوجه عامّ في مقدّمتها حالة التهافت العامّة لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على إعادة نشر ما يظهر كـ"أخبار" بل والتعليق عليها دون إعمال أي وسيلة للتثبّت والتقصّي. فمثلًا حينما تتأسّس الإشاعة على إصدار قانون جديد، كما صورة الحال، لا يُنتظر من غالبية المتقبّلين التثبت في نشرية الرائد الرسمي أو الاطلاع على النشاط التشريعي بالموقع الإلكتروني للبرلمان.
ولكن انتشار الإشاعة لا يعتمد فقط على هكذا متقبّل فقط، بل يتحفّز من سياق محدّد ما، اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي بحسب طبيعة هذه الإشاعة، بما يمثّله من عنصر دافع لتداولها.
إشاعة وجود مشروع قانون لإباحة تعدّد الزوجات انتشرت مثلًا بعد الثورة في تونس وتحديدًا بعد صعود الإسلاميين وبالخصوص بعد انتشار التيار السلفي الذي عمدت بعض وجوهه لاستثارة التعدّد بوصفه حقّ.
كان السياق السياسي الجديد لجهة التوازنات وقتها بمثابة محفّز، وتحديدًا بما كانت تطرحه الإشاعة من إثارة حالة جدل لا تقف عند وسائل الإعلام، تقليدية كانت أو حديثة، بل تشمل المكونات السياسية والمدنية التي تتحوّل شيئًا فشيئًا تحت ضغط تحديد الموقف، إذ طالما تستفيد الإشاعات عمومًا من صمت الجهات المعنية بها.
من البيّن أن إشاعة التعدد انتشرت بالخصوص في منصة "تيكتوك" التي تحوّلت في تونس لواحدة من أكثر التطبيقات استعمالًا، مع سعي أولئك الحريصين على الترفيع في عدد مشاهداتهم إلى الاستفادة من أي "تريند"
وراهنًا، من البيّن أن إشاعة التعدد انتشرت بالخصوص في منصة "تيكتوك" التي تحوّلت في تونس لواحدة من أكثر التطبيقات استعمالًا، مع سعي أولئك الحريصين على الترفيع في عدد مشاهداتهم إلى الاستفادة من أي "تريند" لتحقيق غاية لا تحقّق فقط حاجة للشهرة الإلكترونية ولكن أيضًا تؤمن ربحًا ماديًا.
لكن من البيّن أيضًا أن الإشاعة استفادت من واقع المناخ العامّ خاصة بعد التتبعات القضائية الأخيرة المثارة ضد أصحاب المضامين الإلكترونية "غير الأخلاقية" والمُلحقة بصدور أحكام سجنية نافذة، بما عزّز القناعة حول سواد طابع محافظ في ممارسة السلطات، سياسية كانت أو قضائية.
وقد تبيّن أثر هذه التتبعات، التي شملت "مؤثرين" في "تيكتوك"، في إشاعة مخاوف لدى مستعملي هذه المنصة من أن يكونوا مشمولين بالتتبعات في صورة الخروج عن "الجادّة الأخلاقية". هذا المناخ يسّر تصديق العديد أن السلطة لا تمانع في كسر قيد تعدد الزوجات.
-
منع التعدّد في تونس بوصفه حالة إجماع
وواقعًا، بقدر ما تمثّله إشاعة إباحة تعدد الزوجات في تونس من مادة دسمة للجدل العمومي بين الحين والآخر، على الأقل في الفضاء الافتراضي، فإنها تظلّ غير قابلة للتحوّل إلى حقيقة، باعتبار أن منع التعدّد هو موضوع إجماع من المكونات المدنية والسياسية الفاعلة في البلاد منذ عقود، على نحو جعل هذا المنع بمثابة القاعدة الجامعة لاعتبارات عديدة انطلاقًا من ضعف انتشار ظاهرة التعدد داخل المجتمع التونسي أصلًا منذ ما قبل منعها القانوني عام 1956، دونًا عن تعمّق الفكر المساواتي بين الرجل والمرأة داخل المجتمع طيلة العقود اللاحقة لإصدار مجلة الأحوال الشخصية، وكلّ ذلك مع تعمّق القناعة داخل صفوف المحافظين بأن منع التعدّد ليس متعارضًا مع الأحكام الفقهية بالنظر لجواز منع رخصة ما لجلب مصلحة وردّ مفسدة.
بقدر ما تمثّله إشاعة إباحة تعدد الزوجات في تونس من مادة دسمة للجدل العمومي بين الحين والآخر، فإنها تظلّ غير قابلة للتحوّل إلى حقيقة باعتبار أن منع التعدّد هو موضوع إجماع من المكونات المدنية والسياسية الفاعلة في البلاد منذ عقود
وكان لافتًا قبل سنتين ما أثاره مسلسل تلفزيوني معروض في شهر "رمضان" تحدث عن زواج البطل بامرأة ثانية زواجًا عرفيًا، في سعي لتسليط الضوء على ظاهرة منتشرة، بحسب صنّاع المسلسل، الأمر الذي أثار معارضة منظمات نسوية فيما اعتبرته محاولة تطبيع مع عادات دخيلة عن المجتمع التونسي وبما يهدّد مكتسبات المرأة التونسية.
وبقدر ما يرتبط حديث تعدد الزوجات بأن يكون الزواج الثاني هو زواج عرفي، فإن هذا النوع من الزواج المخالف للصيغ القانونية شهد انتشارًا في بعض الأوساط السلفية في السنوات الماضية بحسب شهادات متعدّدة، ولكن يغيب أي معطى إحصائي حول انتشاره وإن ما كانت الصورة تتعلق بحالات معزولة أو بظاهرة فعلًا وإن كانت محصورة داخل فئة معيّنة.
-
تشديد على التجريم
وتحوّل الفصل 18 الذي ينص على منع تعدد الزوجات في مجلة الأحوال الشخصية إلى العنوان الجوهري للمجلّة التي يُنظر إليها أنها نموذج التحديث التشريعي في قانون الأسرة في الوطن العربي.
والفصل المذكور كان ينصّ في صيغته الأصلية عند صدور المجلة عام 1956 على منع تعدد الزوجات مع عقوبة كل من يتزوّج بثانية دون فك العصمة مع الأولى بالسجن لمدة سنة مع خطية قدرها 240 ألف فرنك أو بإحدى العقوبتين، لكن تبيّن لاحقًا إمكانية التحايل في تطبيقه ليتم تعديل الفصل في مناسبتين الأولى عام 1958 والثانية عام 1964.
تحوّل الفصل 18 الذي ينص على منع تعدد الزوجات في مجلة الأحوال الشخصية إلى العنوان الجوهري للمجلّة التي يُنظر إليها أنها نموذج التحديث التشريعي في قانون الأسرة في الوطن العربي
وشمل التنقيحان التجريم، ولو كان الزواج الثاني لم يبرم طبق القانون. ثم، ولما تظهر الصورة المعاكسة أيضًا ممكنة، أي أن يكون الزواج بالأولى مخالفًا للصيغ القانونية ثم يتزوج الشخص بثانية طبق القانون مع مواصلة معاشرة الأولى، فقد تم تجريم ذلك بدوره. فسواءً كان الزواج الأول أو الثاني طبق القانون من عدمه، فالتجريم محقق في الحالتين.
وتظهر الصبغة التجريمية المتصاعدة في تنقيح الفصل 18 بأن العقوبة المذكورة تشمل الشخص الذي يتعمّد إبرام عقد زواج مع الشخص الذي قام بالتعدّد، أي عمليًا أن التجريم يشمل الزوجة الثانية. كما ينصّ الفصل في فقرته الأخيرة على عدم تطبيق أحكام الفصل 53 من القانون الجزائي أي عدم إمكانية إعمال ظروف التخفيف بما يعكس التشدّد في العقوبة.