16-يناير-2019

الكوابيس التي كانت تراها ياسمين ليست إلا هلاكها المؤجّل

 

لا تخلو طفولتنا من قصص الرعب التي ترويها لنا الجدّات عن الجن والغول وخاطفات الأطفال والغابات المخيفة بأسلوب تنخطف معه أنفاسنا وتتسع على وقعه حدقات أعيننا. كبرنا وأصبحنا نشاهد أفلام الرعب العالمية، ربّما يبحث فيها بعضنا عن صدى حكايات الطفولة، ولكن هل نتمثّل ذواتنا في أفلام الرعب التي نشاهدها؟ هل نتوقّف عن البحث عن فيلم يخاطبنا باللهجة التي نفقهها؟ هل تهبنا السينما التونسية فيلم رعب يراود مكامن الخوف في داخلنا ويشدّنا إلى تفاصيله؟ هو سيل من الأسئلة تثيره صناعة أوّل فيلم رعب تونسي " دشرة".

في فيلم "دشرة" يحاول المخرج أن يجسّد المفارقة التي تسم عيش المجتمعات بين التحرر من ناحية ومن ناحية أخرى السحر والشعوذة

و"دشرة" فيلم رعب للمخرج التونسي الشاب عبد الحميد بوشناق، وهو ليس عملًا سينمائيًا فحسب بل هو كذلك مغامرة يخوضها عرّاب الفكرة الذي أبى إلا أن يصبح حلمه حقيقة اكتملت معالمها بإقبال الجمهور على العرض الأول للفيلم بقاعة الأوبرا بمدينة الثقافة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "سامحني" للراحلة نجوى سلامة: انتصار لقيم العفو ودفاع عن رومانسية الموت

هل يستوي الواقع بالغرابة؟

"هذا الفيلم مستوحى من أحداث واقعية"، مفردات سبقت الغوص في تفاصيل الفيلم، من شأنها أن تضفي مصداقية على عمل سينمائي تونسي لا سابق له، وإن كنت يومًا قد تساءلت " هل يستوي الواقع بالغرابة؟"، فـ"نعم" هي الإجابة التي تأتيك من أحداث فيلم "دشرة".

وفي الفيلم يحاول المخرج أن يجسّد المفارقة التي تسم عيش المجتمعات في أيّامنا فمن ناحية هناك التطوّر التكنولوجي والحضاري والتحرر ومن ناحية أخرى السحر والشعوذة المتجذّران في المخيال الشعبي، هما خطّان متوازيان قد يخرقان القاعدة ويتقاطعان عند حدود اليأس والجهل والبحث عن بديل زائف.

وأنت تشاهد الفيلم في بدايته يبدو كل شيء عاديًا وواقعيًا، حتّى تلك الكوابيس التي تراها ياسمين (ياسمين الديماسي) في الغفو والصحو لها تفسيرات علمية ونفسية، هم ثلاثة طلبة ياسمين ووليد (عزيز جبالي) وبلال (بلال سلاطنية)، يدرسون الصحافة، ومطالبون بإنجاز تحقيق حصري وخارج عن السائد والمألوف، ومع بزوغ فكرة التحقيق بدأت مؤشرات الغرابة تنهمر بشحّ في البداية قبل أن تسيل بلا توقّف.

الدشرة فضاء منغلق، تنتفي فيه صفة الفرد أمام الجماعة وتنبذ فيه كل محاولات الاختلاف أو الخروج عن السرب

وفكرة التحقيق بادر بها وليد بحديثه عن حالة امرأة  تدعى منجيّة (هالة عياد) تقيم في مستشفى للأمراض العقلية، عثر عليها الحرس الوطني في طريق وطنية مذبوحة لا يفصلها عن الموت إلا خطوات، لم تغر الفكرة ياسمين وبلال في البدء ولكن إصرار وليد على القصة وحديثه عن غرائب نسبت إلى المرأة كأكلها لأنف أحد العاملين في المستشفى ونعتها بالساحرة أقنعهما، وعقد الثلاثي العزم على الانطلاق في  تصوير التحقيق.

ومن مستشفى الأمراض العقلية الذي دخله الثلاثي بوساطة من وليد، أزفت ساعة انطلاق رحلة الرعب الحقّة، علمًا وأنّ رائحة الرعب انبعثت في الفيلم من خلال الرؤى التي تلاحق ياسمين وخاصة مشهد انقضاض جدّها بشير ( البحري الرحالي) الذي تعيش معه، عليها.

في "الدشرة" نساء لا يتكلّمن ولكنهن يجدن مضغ اللحم وحمل الأكياس الملطخة بالدماء

"دشرة".. دلالات المكان

تهجّم منجية على ياسمين لم يحل دون مواصلة الرفاق الثلاث رحلة البحث عن حقيقة الوضعية التي آلت إليها المرأة المحتجزة بمشفى الأمراض العقلية، وانطلقت رحلتهم نحو المجهول، زادهم خريطة أحضرها وليد وأشّرت عليها منجية حينما سألتها ياسمين عن المكان الذي وُجدت فيه مذبوحة.

ودون أن تُعلم جدّها بتفاصيل التحقيق، تمضي ياسمين نحو المجهول الذي يرافقها منذ سنوات، مجهول يعلمه جدّها ولكنّه لا يقوى على إخبارها به نزولًا عند رغبة "أمّها" ويكتفي بإجبارها على زيارة أحد الشيوخ لعل المرأة صاحبة الزي الأسود تكفّ عن مطاردتها.

وفي الطريق إلى المكان الذي رميت فيه منجية في حالة أقرب إلى الموت، اعترض الطلبة الثلاث شخصًا لم يستلطفوه عرض عليهم خدماته فأعرضوا عنهم وواصلوا طريقهم بحثًا عن" الدشرة"، والدشرة هي تجمع سكني عادة ما يضم نفس "العرش" له عاداته وتقاليده وأعرافه الخاصة به.

 في الدشرة نساء كثيرات ورجل واحد، نساء لا يتكلّمن ولكنهن يجدن مضغ اللحم وحمل الأكياس الملطخة بالدماء التي يحضرها صابر

اقرأ/ي أيضًا: قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة

والدشرة فضاء منغلق، تنتفي فيه صفة الفرد أمام الجماعة وتنبذ فيه كل محاولات الاختلاف أو الخروج عن السرب، وربّما أراد المخرج من خلال الدشرة بما هي فضاء مكاني التنبيه إلى خطورة الانعزال والانزواء وما قد ينجر عنهما من عواقب.

وقبل الوصول إلى الدشرة، أوغل الرفاق في غابة تبعث على الخوف والإثارة في ذات الآن من خلال استعمال المؤثرات الصوتية والبصرية التي تقحمك في تفاصيل الفيلم، وهم يتحسّسون سبيلهم شدّتهم حركات غريبة لطفلة تقتات على طائر، فتتوشّح شفاهها بدمه، تراهم فيصيبها الذعر وتركض بلا هوادة ويتبعونها ليبلغوا الدشرة ويعترضهم صابر ( هادي الماجري)، ذلك الرجل الذي لم يستلطفوه.

وفي الدشرة يحب الجميع اللحم، يأكلونه نيّئًا ويحدثون أصواتًا مزعجة تبعث على الغثيان، الأمعاء معلّقة في كل مكان، وكل النظرات متشابهة وحتى الحركات نفسها، في الدشرة نساء كثيرات ورجل واحد، نساء لا يتكلّمن ولكنهن يجدن مضغ اللحم وحمل الأكياس الملطخة بالدماء التي يحضرها صابر، في الدشرة نساء لا يتكلّمن إلا بإذن الرجال، ولكن إحداهن حاولت تنبيه ياسمين إلى المصير الذي ينتظرها فكان أن دفعها صابر بقوة دون أن يراعي حملها.

ثالوث الدراما والرعب والكوميديا

والعمل السينمائي امتزجت فيه الدراما والرعب والكوميديا بطريقة تشدّ المتفرّج طيلة 113 دقيقة دون أن يتسلّل إليه الملل، فالحبكة الدرامية تأسرك وتوغل بك في سلسلة من الأحداث اللامتوقعة وتقتلع منك الضحك في الوقت الذي تتسارع فيه دقات قلبك من صورة سينمائية مغرقة في الرعب.

وفي الدشرة، صار الواقعي ضربًا من الخيال وتوشّحت الأحداث بالغرابة منذ مأدبة العشاء التي أقامها صابر على شرف زيارة الرفاق الثلاث، وحركات الفتاة الصغيرة آكلة الطيور وسكناتها ومماطلة صابر إذ طلب منه بلال التوجه حيث تركوا السيارة، وثلة الملتحفين بالسواد الذين رأتهم ياسمين لتتسارع وتيرة الغرابة مع عثور ياسمين على مذكّرات دسّتها المرأة الحامل في جيب معطفها.

ربح طفلة موجودة منذ سنة 1920 لا تترك السنين أثرًا عليها 

ومع نفاذ صبره، قرّر بلال التوجّه إلى السيارة لوحده ويا ليته لم يفعل. ففي الغابة شهد صفقة تسليم جثث مضرّجة بالدماء، وسقطت عيناه على مقابر وعظام آدميين، ليعود إلى الدشرة مسرعًا طالبًا من رفيقيه مغادرة المكان فقابله وليد باستهزائه المعهود، في الأثناء كانت ياسمين تتطّلع على مذكّرات تبيّن فيما بعد أنّها لـ"منجية" وأن الكوابيس التي كانت تراها ليست إلا هلاكها المؤجّل، سحر أسود وشعوذة وذبح أطفال لاستخراج الكنوز وأكل الرضّع.

وفي الوقت الذي كانت ياسمين تقارع فيه قدرها، كان بشير (الذي تبيّن أنه ليس جدّ ياسمين) ينظف الخشبة التي يغسل عليها الأموات ليتقاطر الدم على جنباتها فيتيقّن أن حفيدته في خطر، يتسلّح ببعض التعويذات ويلحق بها إلى المكان الذي أخذها منه منذ سنة 1995.

ياسمين لم تنجح في الهروب وقادها وليد إلى هلاكها المؤجّل، حبكة درامية نجح المخرج في نسج تفاصيلها

وهي تحاول ترتيب الأفكار في مخيّلتها، وتحاول ان تستوعب ما كتب في مذكّرة منجية، الصحفية التي قدمت لإجراء تحقيق فحاصرتها حقائق لا متوقّعة أغرقتها في بوتقة الجنون، تصرخ امرأة أتاها المخاض وتتجه نحوها امرأة بزي أسود تحمل سكينًا في يدها ثم تخرج حاملة رضيعًا تمدّه إلى آكلة الطيور التي تحمله وتهرول به بعيد، وآكلة الطيور تدعى ربح وهي طفلة موجودة منذ سنة 1920 لا تترك السنين أثرًا عليها.

ومن هول الصدمة، ركضت ياسمين خلف ربح لتشاهد كائنًا يشبه الإنسان، وهو ليس كذلك، يأكل الرضيع حديث الولادة، وحينما تفطنت إليها ربح صارت تركض خلفها فراوغتها ياسمين لتجد نفسها في مكان يعج ببقايا الآدميين، سيقان وأياد وأمعاء وجذوع تطهى داخل قدور كبيرة، تهرول ياسمين منهارة لتحثّ بلال على مغادرة المكان ولكن القدر لم يمهلها الكثير حيث بقر أهل الدشرة بطن بلال وخربوه بالسكاكين قبل أن يحلّ بشير ويتلو فيهم بعض التعويذات ويهرول بياسمين بعيدًا عنهم، وفي طريق النجاة يعترضهم وليد الذي مازال فيه بقايا أنفاس وتأبى ياسمين أن تتركه في الغابة.

وفيما يحاول بشير حثّها على الهروب تفعل ويبقى هو للاعتناء بوليد، يحصل ما لم يخطر على بال المشاهدين. يوجّه له وليد ضربة قاتلة وينفض عنه الغبار ويمسح الدماء التي خضّبت وجهه ويلحق بياسمين، التي تناثر أمامها شريط الذاكرة وأيقنت أن رفيقها وليد لم يكن سوى طعمًا لاستدراجها إلى الدشرة.

ياسمين لم تنجح في الهروب وقادها وليد إلى هلاكها المؤجّل، حبكة درامية نجح المخرج عبد الحميد بوشناق في نسج تفاصيلها، حتّى أنّك لن تتوقع أثناء مشاهدة الفيلم أن شخصية وليد التي صنعت الضحك ستكون هي الشخصية الأكثر شرًا. كما أنّ ذلك المشهد الذي يصوّر صدمته وهو يشاهد الفيديو الذي لم يصوّره أي من ثلاثتهم تبعد عنه الشكوك تمامًا وهو مشهد ينمّ على قدرة عالية على شدّ المشاهد.

المخرج عبد الحميد بوشناق لـ"ألترا تونس": العمل السينمائي الجيد لا يتكلّف أموالًا كثيرة وإنّما السر يكمن في الشغف والإيمان به

السر في الإيمان والشغف

وفي حديثه عن تحقيق المعادلة بين الدراما والرعب والكوميديا، يقول مخرج الفيلم عبد الحميد بوشناق في تصريح لـ"ألترا تونس" إنّ هاجسه يكمن في عدم تسرّب الملل إلى المشاهد وهو ما يجعله يشاهد عديد الأفلام ويكتب كثيرًا  ليجعل المتفرّج لصيقًا بالفيلم. وردّ فعل المشاهدين الذين تعالت ضحكاتهم وتعالت أنفاسهم وشخصت وجوههم دليل على أنّ الفيلم نجح في خلق معادلة بسنّ الضحك والحبكة الدرامية والرعب، وفق قول بوشناق.

وعن إقدامه على إخراج أوّل فيلم رعب في تونس، يؤكّد بوشناق أنه غامر وقفز في الفضاء وهو لا يعلم إن كان سيرتطم بالأرض أو سينفتح له المنطاد ويحلّق، مضيفًا أنه رغم الإمكانيات المادية الضعيفة أنجز العمل وهو خير مثال على أنّ العمل السينمائي الجيد لا يتكلّف أموالًا كثيرة وإنّما السر يمكن في الشغف والإيمان به وفي اختيار التقنيين والممثلين الجيّدين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية "ذاكرة قصيرة".. حينما يكون الإنساني رهين السياسي

"الزيارة".. على خطوات الذاكرة