يبدو أن الألم والفقد والحزن والفجيعة.. من الضرورات الكيانية التي يقتات منها الإنسان كي يحيا وكي يتقدم وكي يغيّر وكي يتجدّد. فرصيد الألم ضروري وملحّ وتنشق له المشاعر فيمطرها، إنه قدر الحياة للتسلّح ضد الموت الذي يسكننا طبيعة وثقافة.. فلا خلود إلا خلود الفعل الإنساني الحر الذي يترجمه الفن والفكر والأدب.. فهي الذرى السامقة، العالية، المضيئة التي تبطش بالنسيان فتبيده وتبقينا وتقينا الشرور.
اكتفى مهرجان أيام قرطاج السينمائية هذه الدورة، تحت سماء ملبّدة بالحزن، بالحد الأدنى من مظاهر الاحتفال بعد الفقد الكبير لعلَمين تونسيين، هما فتحي الهداوي وفرج شوشان
منذ يومين، فقدنا رمزين وعلمين من أعلام الثقافة التونسية دفعة واحدة وفي يوم واحد، وهما الممثل المثقف فتحي الهداوي، والصحفي الثقافي ومنتج البرامج التلفزيونية الثقافية وأحد مؤسسي الحركة المسرحية الجديدة في تونس فرج شوشان. واحتفى التونسيون بهذا الألم وهذا الفقد العاتي وباتوا على حزن كبير، فضلًا عن أحزانهم القديمة.
لكن قبل ذلك بقليل، ومع حلول مساء السبت 14 ديسمبر/كانون الأول 2024 احتضنت مدينة الثقافة بالعاصمة تونس، فعاليات افتتاح تظاهرة أيام قرطاج السينمائية، تلك التظاهرة الأصيلة في المعنى والفن والتي ستتواصل إلى غاية يوم 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بعد احتجابها في السنة الفارطة بقرار سياسي رئاسي قدّر أن المهرجان حاد عن ثوابته الفنية والإبداعية وانزاح انزياحًا مدويًا إلى ثقافة السجاد الأحمر التي يطغى عليها زيف المال والتجارة، وما رافقه من استغلال وابتزاز وقبح على شبكات التواصل الاجتماعي.
المهرجان هذه المرة وتحت سماء ملبّدة بالحزن، اكتفى بالحد الأدنى من مظاهر الاحتفال بعد الفقد الكبير للعلَمين المذكورين، وبعد الهزات القاسية التي تحدث في الشرق الأوسط حيث تسافر أفئدتنا في لحظة على إيقاعات الألم وصداه النابت. وكان صارمًا في منح دعوات السجاد الأحمر. فلا مرور لغير السينمائيين والمثقفين والكتاب والضيوف المحتفى بهم دون غيرهم. فعاد للمهرجان بعض الملامح وهو الذي تأسس على قيمة ثابتة وهي الدفاع بثبات وأناة عن الحرية. حرية الإنسان أينما كان، وشق له طريقًا صعبة ووعرة جعلته قِبلة السينما المناضلة وصناع الجمال المدهش، المحيّر، المغيّر.
داخل قاعة الأوبرا بالمدينة، كان الافتتاح على نحو مغاير، حدث لأول مرة في تاريخ الأيام التي أسسها زمرة من السينمائيين التونسيين سنة 1966 يتقدمهم الراحل الطاهر شريعة، فقد جرت العادة أن يعلن وزير الثقافة أو ممثل ما عن انطلاق الحدث.. لكن هذه المرة كانت فلسطين هي التي تعطي الإشارة وفي ذلك تكريم وتبجيل للثقافة الفلسطينية ودعم رمزي استثنائي وبلا ضفاف، فقد استمعنا إلى الكلمات التالية:
"يوم حزين لفقد الممثل فتحي الهداوي..زمن حزين لأننا دخلنا عصر التفاهة.. مع كل هذا يبقى الحزن هو المحرك الأساسي للفن الحقيقي.. وأشكر تونس لأنها استضافتنا، وأشكر المهرجان لأنه استضاف المواهب السينمائية الحقيقية.. فأملنا الوحيد -الآن- هو الفن مع التفاهة الموجودة والعهر الموجود بالعالم.. ويبقى هذا المهرجان من أهم المهرجانات التي تستضيف المواهب السينمائية.. وباسم هيئة المهرجان أعلن رسميًا عن انطلاق الدورة الخامسة والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية".
كان المهرجان صارمًا في منح دعوات السجاد الأحمر.. فلا مرور لغير السينمائيين والمثقفين والكتاب والضيوف.. فعادت للمهرجان بعض الملامح التي تأسس عليها
إنها كلمات المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد رئيس لجنة تحكيم المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة لأيام قرطاج السينمائية في نسختها الخامسة والثلاثين وهو يعلن رسميًا عن انطلاق الفعاليات. كلمات بسيطة وعميقة تشي بخوالج الفنان السينمائي الفلسطيني وتأتي منسجمة مع عودة المهرجان العريق إلى ينابيعه الأولى وهي الدفاع عن حرية الشعوب وحقها الطبيعي في تقرير مصيرها والدفاع عن القضايا الإنسانية بأدوات السينما.
لقد اختارت الدورة 35 من أيام قرطاج السينمائية أن تسند فلسطين كما اعتادت منذ عقود، لكنها هذه المرة بجعلها فطرة هذه النسخة، وذلك من خلال عدة نقاط مضيئة أو "فوكيس" ضمن البرمجة وتتمثل في: إدراج 19 شريطًا سينمائيًا فلسطينيًا ضمن قسم التكريمات لمخرجين كانوا صوت فلسطين المدوي في كل العالم حسب موجات متلاحقة عرفتها السينما الفلسطينية طيلة القرن العشرين، منهم هاني جوهرية وميشال خليفي وغالب شعت ومحمود خليل ورشيد مشهراوي ومي مصري وعلي نصار وإيليا سليمان وإياد الداوود.. وقد برمجت إدارة المهرجان بث 14 شريطًا من جملة تلك الأعمال في شارع الحبيب بورقيبة وهو الشارع الرئيسي للعاصمة تونس ضمن قاعة مفتوحة لعموم الناس نصبت خصيصًا لتكريم السينما الفلسطينية وأيضًا لمزيد إطلاع الناس على ما تعرض له الشعب الفلسطيني من مظالم قاسية حدثت له في التاريخ الراهن.
اختارت الدورة 35 من أيام قرطاج السينمائية أن تسند فلسطين كما اعتادت منذ عقود، وبمختلف الطرق، من بينها إدراج 19 شريطًا سينمائيًا فلسطينيًا ضمن قسم التكريمات
كما ستحتضن القاعات 4 أفلام فلسطينية منها ما توج بتوانيت ذهبية في دورات سابقة من الأيام، بالإضافة إلى فسح المجال ضمن تكريم فلسطين لتقديم أفلام عن القضية الفلسطينية أنجزها سينمائيون من ثقافات أجنبية.
الدورة 35 من أيام قرطاج السينمائية ستقيم معرضًا وثائقيًا بين مكانين وهما شارع بورقيبة ومدينة الثقافة خاصًا بالصور الفوتوغرافية تحيي من خلاله المصورين الفوتوغرافيين الذين استشهدوا أثناء عملهم الصحفي أو الفني وهو ينقلون الحقيقة وينقلون الحيف والانكسار وبطش العدو الصهيوني وما يقوم به من إبادة للمدنيين الفلسطينيين العزل في غزة وعلى الحدود المتاخمة لفلسطين. هذا المعرض الوثائقي يدخل بنا عالم الواقف على حافة الموت ثم مات وترك لنا صورًا شجاعة دافئة ونابضة إلى الأبد وسيكون فرصة هامة للتونسيين كي يطلعوا على وجه المعاناة التي يتعرض لها أشقائهم الفلسطينيين.
كما اختارت أيام قرطاج السينمائية ضمن فعاليات حفل الافتتاح أن يكون فيلم السهرة البداية في علاقة بفلسطين حيث تمت برمجة شريط روائي قصير للمخرجة الفلسطينية مها حاج عنوانه "ما بعد" وهو من بطولة الممثل الفلسطيني الكبير محمد بكري وهو يصور بشاعرية قصوى ومكثفة الإيقاع النفسي المؤلم لزوجين فلسطينيين فقدا أبناءهما الخمسة في قصف إسرائيلي على منزلهم وخيّرا العزلة في منزل ريفي يحيط بهم حقل زيتون وتمضية كل الوقت في خلق رصيد من الذكريات الوهمية لكنها وجه من وجوه الحقيقة بمقياس الوالدين.
أما الشريط الثاني والذي عُرض هو الآخر في سهرة الافتتاح فقد كرّم المقاومة الفلسطينية بأسلوب توثيقي نادر وعنوانه "واهب الحرية" وهو لأحد رواد السينما الوثائقية العربية المخرج العراقي قيس الزبيدي الذي كان من المزمع تكريمه في حفل الافتتاح لكن الموت تلحّفه يوم 1 ديسمبر/كانون الأول 2024 وهو الذي كرس جزءًا كبيرًا من مسيرته من أجل القضية الفلسطينية.
الدورة 35 من أيام قرطاج السينمائية ستقيم معرضًا وثائقيًا خاصًا بالصور الفوتوغرافية تحيي من خلاله المصورين الفوتوغرافيين الذين استشهدوا أثناء عملهم الصحفي أو الفني
هذا الشريط أنجزه الزبيدي سنة 1987 وتم ترميمه مؤخرًا بفرنسا وعادت إليه الحياة بعد أعطاب فنية كادت تنهيه إلى الأبد. وهو يعد وثيقة تاريخية هامة حول المقاومة اللبنانية من مختلف الزوايا الطائفية والإيديولوجية من شمال لبنان إلى جنوبها التي تتحد في مواجهة العدو الصهيوني. وقد حاول السينمائي قيس الزبيدي من خلال هذا الشريط أن يكون وفيًا لتاريخية المقاومة اللبنانية بتقديمه لكل الأسماء والوجوه وتقديم الشهادات وتحديد الوقائع والأحداث والبحث عن الصور والوثائق المرئية المرتبطة بها.
في سياق آخر، برمجت أيام قرطاج السينمائية شريطًا سوريًا يحمل عنوان "سلمى" للمخرج جود سعيد وقد قوبلت هذه البرمجة باستنكار ثقافي من قبل نشطاء ومثقفين سوريين ووقعوا عريضة إلكترونية رُفعت لإدارة المهرجان اعتبروا من خلالها أن هذا المخرج "لا يمثل السينما السورية وهو من ممجدي النظام السوري السابق وليس أمينًا في تعاطيه مع الحقائق السورية بل هو مزيف لها ولا يعبر عن طموح الشعب السوري فيما تعلق بالحرية والديمقراطية.." وطالبوا إدارة المهرجان بسحب الشريط من البرنامج العام، لكن إدارة الأيام لم تتفاعل إلى حد الآن مع هذه العريضة.
تبقى تظاهرة أيام قرطاج السينمائية سماء سانحة للمبدعين من صناع السينما والمفكرين والكتاب والنقاد والمهتمين والمنتجين الذين يرون بأن السينما هي فن التفكير وتجويد الحياة، لا تحيد كل ما كان هناك حماة لثوابتها الفلسفية والأخلاقية.