08-يونيو-2020

اهتزاز فوري وقوي للتحالف الحكومي أمام المبادرات البرلمانية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

تعيش تونس في قلب عاصفة الملفات الخارجية ما يزيد في هشاشة استقرارها الداخلي. للديمقراطية ثمنها ومنها حرية المبادرة، ومثلما هو السوق الحر لا يمكن التحكم في المبادرات السياسية واندلاع مواجهات ومعارك غير محسوبة. تعاني تونس أيضًا لأسباب جيوسياسية بسبب موقعها وحجمها وطبيعة مجتمعها هشاشة أيضًا في خصوص الملفات الخارجية خاصة الأقرب، ولهذا كانت أولويات الدبلوماسية التونسية التركيز خصوصًا على جملة من الملفات عادة يهتم بها أعلى الهرم السياسي وليس الطاقم الديبلوماسي الإداري، مثل العلاقة مع الجارتين ليبيا والجزائر، وأيضًا العلاقة مع الغريم التاريخي ولكن أيضًا الأكثر التصاقًا اقتصاديًا وثقافيًا وحتى من حيث ثقل الجالية التونسية، أي الطرف الفرنسي.

تداعيات جلسة 3 جوان التي كان ظاهرها الملف الليبي، فجرت الجروح الداخلية، التاريخية منها والراهنة والأيديولوجية

وهكذا أمام ائتلاف هش ومرغم على التحالف وإلا تُعاد الانتخابات، مثلما هو الائتلاف الذي شكل حكومة الفخفاخ، نجد اهتزازًا فوريًا وقويًا أمام "المبادرات الحرة" خارج السيطرة الآتية من الأقاصي، من الوجهات الشعبوية، ومن هذا الجانب أو ذاك، الراغبة في تسجيل النقاط وليس تشكيل موقف جامع في قضايا خارجية أساسية.  وأصبح مسرح البرلمان المجال الأساسي لمنطقة الاضطرابات، خاصة أن حزام الحكومة هناك غير مودود فعليًا مع إصرار حركة النهضة على فصل المسارين البرلماني والحكومي.

اقرأ/ي أيضًا: ليلة البرلمان الطويلة.. هل أصبحت حكومة المستحيل؟

تداعيات جلسة 3 جوان التي كان ظاهرها الملف الليبي، فجرت الجروح الداخلية، التاريخية منها والراهنة والأيديولوجية. ففي سياق قرار كتلتين من الحكومة دعم لائحة عبير موسي مع بعض التنقيحات الشكلية وخوض معركة إلى الآخر مع رئيس المجلس بمداخلات نارية بعضها وصل إلى الاستفزاز الصريح، أي كتلتي الشعب و"تحيا تونس"، كانت التداعيات فورية حيث أدت الى اجتماع وزاري تخلله احتقان واضح وتبادل الاتهامات بين وزراء الأحزاب خاصة النهضة والشعب، وعبر فيه رئيس الحكومة بوضوح عن رفض أي توسيع، أمام تجدد دعوات النهضة لذلك. وانتهى الأمر إلى إلغاء حفل توقيع وثيقة "عهد الاستقرار والتضامن" خاصة أن أهم نقطة أي "التضامن البرلماني" أصبحت مثار شكوك واضحة، واعتبار بعض أطراف التحالف أن "التنسيق" البرلماني أدق وأكثر نفعًا من "التضامن" خاصة إن ذلك يمكن أن يقيد تمامًا مجال تحرك وحرية الكتل.

النهضة على مستوى شوراها وخاصة على مستوى الكتل المتنافسة في الصراع الداخلي لتحديد مسار الحركة قبل المؤتمر وتوزيع المهام القيادية خاصة حول خطة الأمانة العامة، قررت الاستثمار في الاحتقان النهضوي من جلسة 3 جوان، واعتبارها مؤشرًا "خطيرًا" على "توحد المنظومة" وأن "الحل" يكمن في "عزل قلب تونس عن عبير موسي". ومن ثمة توجيه الاحتقان إلى حركة الشعب في الوقت الذي لعبت فيه "قلب تونس" دورًا رئيسيًا في تعديل لائحة الدستوري الحر وجمع حوالي 96 نائبًا. الهدف أصبح الضغط منذ يوم الجمعة لإقامة مجلس شورى "مفصلية" بعد أسبوع يطرح سؤالًا واحًدا للتصويت: إما التوسيع (نحو قلب تونس خاصة) أو الانسحاب؟

قرر المكتب السياسي لحركة النهضة فسح المجال للوساطات المختلفة قبل الذهاب في أجندة "شورى مفصلية" 

نهاية الأسبوع كانت حافلة بالمناورات في كل الاتجاهات. فقد قرر المكتب السياسي لحركة النهضة فسح المجال للوساطات المختلفة قبل الذهاب في أجندة "شورى مفصلية" (تحيل على "شورى الانسحاب" التي حاولت إسقاط مسار تشكيل حكومة الفخفاخ قبل أيام من انقضاء تشكيلها). وقبل رئيس حركة النهضة بعقد لقاء تلفزي سجله يوم الأحد في قناة نبيل القروي "نسمة" (في ذات اليوم تم بث حوار مع القروي في حنبعل كان مبرمجًا سابقًا)، والأرجح أنه حافظ فيه على نبرة منخفضة (يتم بث الحوار الليلة) حيث أن شيخ النهضة يعلم قبل غيره أن "شورى مفصلية" ستضعه في الزاوية وتسحب منه أي مجال للمناورة، وستضعه أمام خيار جدي للانسحاب من الحكومة خاصة أمام إصرار رئيس الحكومة على عدم التوسعة الآن، وهو (أي الانسحاب من الحكومة) بمثابة الخط الأحمر لراشد الغنوشي، والذي أبدى مؤشرات إيجابية منذ بداية شهر ماي لرئيس الحكومة حول دعمه ودعم الائتلاف الحكومي.

اقرأ/ي أيضًا: مطالبة فرنسا بالاعتذار.. حقّ واستحقاق

لكن مما زاد الامر تعقيدًا وتشتيتًا للتركيز هو أن مسالة أخرى خارجية أتت بسرعة لتحتل مكان الملف الليبي وشغلت أذهان رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان. لائحة ائتلاف الكرامة التي تم برمجة نقاشها في المجلس يوم 9 جوان والتي تطلب اعتذارًا فرنسيًا عن عهدي الاستعمار والاستبداد. الرئيس التونسي تلقى مكالمة مطولة من الرئيس الفرنسي تخللها هذا الموضوع، والسفير الفرنسي اتصل برئيسي الحكومة والبرلمان، وتكلم الأخيران في ذلك أيضًا، كأنه لا توجد أزمة محتملة في الائتلاف الحكومي. بمعنى آخر كأن الحاجة لتنسيق الموقف من لائحة 9 جوان سيجب الهوة التي تمت في 3 جوان.

مرة أخرى هناك خطيئة أصلية في الائتلاف الحكومي تزيد هشاشته أمام الهشاشة الجيوسياسية لتونس، وهي فصل الائتلاف الحكومي عن البرلماني. ووراء هذه الخطيئة الأصلية مركزة، تكتيكات ومسارات النهضة في مسألة الحفاظ على رئاسة البرلمان لرئيس الحركة. إعادة توزيع الأوراق بعيدًا عن الصراعات الداخلية في النهضة أصبح مسالة ملحة. إعادة الوضع إلى طبيعته أي أن يكون الائتلاف الحكومي الواقع ائتلافًا برلمانيًا يضمن التنسيق في مشاريع الحكومة التشريعية، مع ترك مجال مناورة بسيط لأراء الأحزاب التي لا يمكن فرض العشق عليها، خاصة بين الغريمين الاسلامي والقومي، دون المس باستقرار البرلمان بما في ذلك ترؤس النهضة للبرلمان. ولما لا التفكير في توسيع التحالف البرلماني إلى توزيع نواب الرئيس فيه (نائبي الرئيس في المعارضة) بما يعزز التحالف البرلماني.

 هناك خطيئة أصلية في الائتلاف الحكومي تزيد هشاشته أمام الهشاشة الجيوسياسية لتونس، وهي فصل الائتلاف الحكومي عن البرلماني

أي مغامرات خارج هذا المربع أي فرض التوسعة عبر الشورى مثلًا لن تحقق مبتغاها حيث أن أوراق رفض التوسعة واضحة وتم تجريب التهديد باستخدامها في الأسبوع الأخير لتشكيل الحكومة. ولن يحقق ذلك إلا مزيد الاضطراب السياسي الذي لن يخدم إلا الأطراف الإقليمية والداخلية المعنية بضرب المسار الديمقراطي ذاته. وكانت جلسة 3 جوان والبث المشترك الاستثنائي للقنوات المرتبطة بالإمارات وحتى قنوات مصرية لحالة الشتائم والسجال الحربي مثالًا على شهوات أطراف إقليمية بما يجب أْن يحصل في تونس. فعلى الجميع تذكر ذلك جيدًا عند التفكير في التكتيكات الداخلية.

جاء الوقت ليركز الائتلاف الحكومي على ما ينفع الناس سواء إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الوضع الاقتصادي الكارثي والتأكيد على "العدالة في التضحيات" وترك المجال لمكافحة جدية للفساد تضمن حزامًا شعبيًا داعمًا للحكومة. ذلك هو التحصين الحقيقي للجميع، خاصة مسار الانتقال الديمقراطي، وأيضًا بقية التموقعات في الحكومة وعلى رئاسة البرلمان، وهو ما سيحبط أي شهوات إقليمية لضرب الديمقراطية والتنمية في تونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل أتاك حديث البكتيريا السياسية في تونس؟

هل كان الحبيب بورقيبة عنصريًا؟