25-فبراير-2020

تقديم رواية "الحديقة المحرّمة" في بيت الرواية في 30 جانفي 2020

 

"هام عبد النبي على وجهه في الأرض، شعر بأنّ كلّ السبل انقطعت أمامه، نزل في محطة قطار الضاحية الشمالية للعاصمة، فحملته خطواته الثقيلة نحو الشارع الكبير. مرّ أمام حانة "دار الصحفي". توقف لحظة لكنّه لم يشأ أن يصعد إلى الطابق الثاني، فالوقت لا يزال مبكرًا. كره أيضًا رؤية وجوه تعوّد عليها... خشي عبد النبي أن يرمقه أحد زملائه بنظرة تشف أو شفقة، أو أن يسأله أحدهم عن الأسباب التي اضطرّته للاستقالة ورمي المنديل الأبيض لأوّل مرّة في حياته".

هكذا استهلّ مؤلف رواية "الحديقة المحرّمة"، معز زيود، فصل "الأستاذ والمومس"، ليكشف منذ السطر الأول اسم بطل الرواية، منطلقًا بمشهد يبدو انهزاميًا جدًا، أو يبدو وكأنّ البطل يعيش حالة انكسار. لوهلة تشعر وأنت تقرأ ذلك الفصل الذي يتحدّث فيه عن عبد النبي وتجربته مع المومس، أنك بدأت تتحسس أو تفهم فعلًا سبب تسمية الرواية بـ"الحديقة المحرّمة"، أو يخطر ببالك أنّها رواية تتحدّث عن جملة من المحرّمات أو المغامرات التي عاشها البطل في إطار المحرّم والمحظور. فصل يكشف فيه المؤلف كيف لتحرّش أستاذ بتلميذته أن يؤدي بها في نهاية الأمر إلى غرف أشهر ماخور في العاصمة، لتصبح مجرّد جسد ينهشه الباحثون عن الجنس.

اقرأ/ي أيضًا: النخبة التونسية تكسر جدار المنع.. وتحتفي بالكاتب الأرجنتيني ألبارتو مانغويل

بعض الأحداث في "الحديقة المحرمة" استوحاها الكاتب من حقائق ووقائع حصلت في تونس ما بعد الثورة

تقديم رواية "الحديقة المحرّمة" تمّ في بيت الرواية في 30 جانفي/ كانون الثاني 2020، لمعز زيود المتحصل على الأستاذية في الصحافة وعلوم الإخبار، والذي انطلقت مسيرته المهنية سنة 1993 كصحفي في عدّة صحف ومجلاّت. ثمّ درّس في معهد الصحافة وعلوم الإخبار والجامعة المركزيّة للآداب والفنون وعلوم الاتصال.

خلال عرض الرواية، تحدّث المؤلف بحذر شديد أحيانًا، وبأسلوب مشوق أحيانًا أخرى. الحاضرون صحفيون درّسوا معه، وآخرون درسوا لديه في معهد الصحافة، إلى جانب بعض الكتاب وطلبة المسرح. قال المؤلف إنّه "كتب بعض القصص القصيرة دون أن يفكر في نشرها"، ولكنّها باتت اليوم مرتبة في فصول "الحديقة المحرّمة"، التي تم نشرها في لبنان ثمّ في تونس ضمن منشورات "دار ميسكيلياني" للنشر والتوزيع.

 

 

بعض الأحداث فيها استوحاها من حقائق ووقائع حصلت في تونس ما بعد الثورة، بطلها أستاذ جامعي وصحفي، لم يختر الأماكن والشوارع لمجرّد تحديد أطر مكانية لأحداث القصّة، ولم تكن الأزمنة فيها مجرّد تاريخ للأحداث، وحتى اختيار أسماء شخصيات القصة لم يكن اعتباطيًا، فكلّ تسمية مقصودة، ولكلّ اسم رمزيته في طبيعة الشخصية والدور الذي لعبته في الرواية. وتتراوح أحداث الرّواية بين الحبّ والجوسسة واللوبيات السياسية والتحرش داخل الجامعات.

رواية "الحديقة المحرمة" حين تنطلق في مطالعتها لا تتركها لعشق تلك التفاصيل.. تفاصيل الأماكن وبعض الأحداث التي تعاقبت في تونس ما بعد الثورة

الصحفي والأستاذ الذي عرفناه من خلال مقالاته في صحف ومجلات تونسية عدّة على غرار الأولى التونسية والمغرب والشارع المغاربي وحقائق وغيرها، يقدم لنا في باكورة تجاربه الروائية أحداثًا تحاكي وقائع وقصص عاشها أحد أساتذة معهد الصحافة. هي ليست بالسيرة الذاتية كما يقول مؤلّفها، لكنّها مخيال سردي يحاكي بعض الوقائع. من بداية الفصل "الأستاذ والمومس"، ثمّ فصل "نصف راتب"، و"واقعة النزيف"و"جينز التضامن" و"مرقص الخمارة"، تطالع قصة حبّ عبد النبي وعلاقته الشديدة بتلميذته ياسمين التي أقسم مرارًا على الفراق عنها نهائيًا. فتاته القروية المثقفة وشخصيتها الغريبة، وكلّ المواقف التي عاشها معها، فتاته التي تحمل فلسفة غريبة كأن ترتدي مثلًا جينز ثمنه 120 دينارًا، ممزقًا يحاكي صميم الموضة فقط للتضامن مع البائسين. كل نقاش يدور بينهما ينتهي بخلاف تتجاوزه هي بعجرفتها، ويعيشه هو بوقعه المؤلم.

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "السنترا".. سجينات يحكين آلامهن على خشبة المسرح

انتقل المؤلف إلى الحديث عن "غزوة الجريدة" في أحد فصول روايته. إذ حوصرت الجريدة التي يعمل فيها عبد النبي من قبل رافعي الرايات السوداء لنشرها مقالًا ورسمًا كاريكاتوريًا، وكأنّ "الجريدة قد شنّت حملة صليبية على الدّين الإسلامي"، ليعايش القارئ فترة ظهور الجماعات المتشددة دينيًا بعد الثورة وتهديدها لحرية التعبير، إلى جانب التطرق إلى بعض الأحداث الأخرى التي حصلت في تونس بعد الثورة، تدور أغلبها حول العمل الصحفي والصحفيين وبعض الأحداث السياسية في البلاد.

الرواية التي تنطلق في مطالعتها لا تتركها لعشق تلك التفاصيل، تفاصيل الأماكن وبعض الأحداث التي تعاقبت في تونس ما بعد الثورة، لا سيما أماكن تواجد الصحفيين بين الصحف و"دار الصحفي"، وشوارع العاصمة من شارع الحبيب بورقيبة و"لافيات" وغيرها من الأماكن التي تعني الكثير بالنسبة للصحفيين.

ينتقل المؤلف بالأحداث كلّ مرّة ليكشف جزءًا من حياة عبد النبي، ولا يتوانى في بعض الفصول عن العودة إلى قصّته مع ياسمين، وتفاصيل مكابرة عبد النبي للحفاظ على قصّة حبّه.

وفي لحظة بوح، يقرر عبد النبي الحديث عن زواجه. زوجته سارة التي اكتشف تخابرها مع الموساد الإسرائيلي أو المخابرات الفرنسية وسبب انفصاله عنها، ليتحوّل إلى باب كبير يتعلّق بالتخابر مع جهات أجنبية والجوسسة وكيف كاد أن يتورط في إجرام يهدّد الأمن القومي دون أن يعلم بأنّه مراقب من الأجهزة الأمنية.  

الجوسسة جعلته ينفصل عن زوجته، ولنفس السبب ينفصل عن حبيبته ياسمين التي ربطتها علاقة بشاب فرنسي قدم إلى تونس في مهمة استخباراتية كذلك دون أن تعلم بأنّها ضحية. ولكن تفاصيل الكشف عن جوسسة الفرنسي لم يستقصيها عبد النبي من مكاتب الداخلية مثلما فعل مع تفاصيل قصّة زوجته سارة، بل بأسلوبه الخاص ليكتشف تورط الشاب في تصوير تجاربه الجنسية مع كل فتاة تونسية تربطه معها علاقة عابرة.

تتواصل تجارب عبد النبي في الحب بعد انفصاله عن حبيبته ياسمين. ولا تخرج مغامراته عن حب الأستاذ لإحدى تلميذاته مجددًا. وكيف يحيا هو بذلك الحب دون أن يلقى من الطرف المقابل ما يكنه هو داخل قلبه. يعيش قصة حبه بكل أحاسيسه فالحب حسب عبد النبي "رغبتنا المقدسة، إن لم يكن موجودًا فهو يجسد رغبتنا الحارقة في إيجاد ما هو غير موجود. وإن لم نتحسسه في الواقع فلن نتردد في رسمه في خيالنا. الحب باق وقائم لا يزول ما دمنا نؤمن بأنه قد يصادفنا ذات لحظة". ولكن تنتهي قصصه بالفشل ليكتشف أنّه يعيش حبّه بكلّ ما تكنّه نفسه من إحساس بنبل ذلك الشعور مقابل تعامل الطرف المقابر من أحاسيسه بمزاجية.

أشجار حديقة عبد النبي لم تغب عن فصول رواية "الحديقة المحرمة"

أشجار حديقته لم تغب عن فصول الرواية، فعبد النبي كان في كل فصل يسرد قصته مع شجرة في حديقة بيته. حفنة من تراب قبر أمه أنبتت شجرة الزيتون، وشجرة التوت وزهرة اللوتس والياسمين وحتى نبتة الصبار يسقيها بعرقه وينبش التراب بأصابعه، وكفيه حتى يغطي السواد أظافره. في حديقته ينسى الصحافة والسياسة والتدريس. لكلّ شجرة تسمية وكل شجرة تذكره بشخص مر في حياته. وحدها شجرة الزيتون ملاذه للتظلل بظلها كلّما لفحه لهيب الوجع، يشكوها همًا سببته حبيبة، أو ألم خيبة جديدة.

الجانب الأكبر من الكتابة عن هذه التجارب التي وأنت تطالع ما نتج عنها، لا تدري كم تعرّض بطلها للوجع، لكن يكفي أن تعلم أنّ أشجار حديقته سميت بأسماء كلّ حبيباته، ووحدها حديقته تحمل سرّه، ينقل تسميات الأشجار بصور يرسمها من خلال اللغة فيتفوق على معنى الحكاية العادي أو الوصف العادي لإحساسه، ليصف كلّ امرأة بشجرة أنبتها في حديقته التي باتت محرّمة عليه. كما هي رواية تحاكي أحداث واقعية، لتختتم التجربة عبر النهايات التي تأتي حاسمة في معناها الإنساني، على الرغم من الوجع الكبير الذي ختم به المؤلف روايته. لم تغب ياسمين عن تلك النهاية، ولم ينه الرواية دون وصف وجع فراق عبد النبي عنها، ووجع وفاة زوجته سارة، ورحيل كلّ من عاش معها قصّة حب عابرة. وحدها ابنته وشجرة الزيتون التي نثر على عروقها حفنة من تراب قبر أمه الذي دسه يومًا في جيب سترته، من بقيا في حديقته المحرّمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية "سكون" لنعمان حمدة.. عندما يتحوّل التّسآل إلى ضمّيدة

صوت فلسطين الحرّة.. حينما يُلقي الثلاثي جبران قلوبهم على الركح