19-ديسمبر-2024
سوريا الثورة السورية

احتفالات السوريين إثر إسقاط نظام بشار الأسد (رويترز)

مقال رأي 

 

هناك ثلاثة مستويات من النظر للحدث السوري في المشهد التونسي: سياسي على مستوى التمثل العام لمختلف الأطراف، التأثير الجيوسياسي، حقيقة "الإرهاب والمراجعات". 

في مستوى التمثّل العام، يدور نقاش مفتوح على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة منصة فيسبوك، والقليل من الإعلام التقليدي، وينقسم هذا التمثل حسب التموقعات السياسية والإيديولوجية. ما يجري عمليًا "تونسة" للحدث السوري سواءً من زاوية التموقع "ضد/مع" أو من زاوية محاولة الاستيراد ومحاولة الصد، أو من زاوية "الإرشاد" و"الانتفاع من دروس التجربة التونسية". 

على مستوى المشهد السياسي والمدني، نجد تطابقًا بين تباين الآراء وخطوط التّماس في الخريطة السياسية والإيديولوجية. نجد مواقف تركز على "التهنئة" واعتبار أنّ ما حصل "ثورة"، خاصة في مستوى الطيف الإسلامي أو الذي يقترب منه، كما نجد في الضفة الأخرى من يعتبر أنّ ما حدث مجرد "مؤامرة" ولا يتم الحديث بتاتًا عن جرائم نظام بشار الأسد ويركز على بعض الأخبار الكاذبة المتداولة.

هنا وهناك نجد محاولات إسقاط واستنساخ لا علاقة لها بتعقيدات الواقع، كما نجد محاولة تجاهل كاملة على أساس ما يحدث لا يمكن أن نرى فيه قط وبتاتًا أيضًا دروسًا للتجربة التونسية.

الإسقاط في الاتجاهين، حيث من يشتهي أن يرى تكرارًا فيما يحدث في سوريا في تونس ويعتقد أنّ ثورة على الأبواب وأنّ "الربيع العربي يتجدد"، ومن يعتقد أنّ جحافل لتنظيمات تشبه "هيئة تحرير الشام" على الحدود أو في الداخل تنتظر ساعة الصفر وتعلن من الآن أنّ "الخونة" ينتظرون خلف الحدود. 

على مستوى المشهد السياسي والمدني التونسي، نجد مواقف تركز على "التهنئة" واعتبار أنّ ما حصل "ثورة" أو من يعتبر أنّ ما حدث مجرد "مؤامرة" ولا يتم الحديث بتاتًا عن جرائم نظام بشار الأسد

 الطرف الأول إما يرحب بالتعليق على الحدث من زاويته أو يدعو من يعارضه لترك السوريين وشأنهم وعدم إعطائهم دروسًا، أو إلى توصيف من يخالفهم التركيز على الفرحة بأنهم مساندين لبشار الأسد. والطرف الثاني يوغل في تخوين من ينتقد نظام الأسد

كان الحدث السوري مجرد مناسبة أخرى لانتقام أو شماتة هذا الطرف من ذاك، لإعادة استكشاف "خنادق" و"متاريس" الانقسام التونسي المعتاد، إما مع أو ضد. ونادرًا ما كان مناسبةً لمحاولة فهم هادئة لمشهد مركب ربما يتقاطع ولا يتقاطع مع السياق التونسي أو أيضًا مناسبة لبعض الاعتبار والتفكر. بما يذكرنا برتابة وجمود المشهد الحالي، وليس بديناميكيته. وأنّ حدثًا خارجيًا مذهلًا وضخمًا مثل الحدث السوري لا يستفز ملكة التفكير النقدي والمركب، إلا من رحم ربك. 

هل من الصعب أن نرى معطيين في نفس الوقت؛ أن نظامًا متوحشًا مع شعبه لا يمكن إلا أن ينتهي إلى الاستناد إلى قوى خارجية وأن يتهاوى إلى حالة فرار مخزية، وأيضًا، في نفس الوقت، أنّ سوريا محكومة جغرافيًا بقدر جيوسياسي من سايكس بيكو إلى الآن يجعلها بالضرورة، أبى شعبها أم قبِل، موضوع تقاسم وغنيمة حرب بين قوى إقليمية أساسية تتدخل فيها طولًا وعرضًا، خاصة في السياق الراهن "استتباعات الطوفان" التي بصدد تشكيل خريطة جديدة ذات مدى إقليمي ودولي.

ومن ثمة، إن المسألتين الديمقراطية والوطنية، مسألتي الاستبداد الداخلي والاستبداد (الهيمنة) الخارجي، هنا خاصة وأكثر ربما من أيّ مكان آخر، مشتبكان بشكل معقد وعميق لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. 

كان الحدث السوري مجرد مناسبة أخرى لانتقام أو شماتة هذا الطرف من ذاك، لإعادة استكشاف "خنادق" و"متاريس" الانقسام التونسي المعتاد، إما مع أو ضد ونادرًا ما كان مناسبةً لمحاولة فهم هادئة لمشهد مركب ربما يتقاطع ولا يتقاطع مع السياق التونسي

يبقى أننا نحتاج أن نحاول فهم استتباعات ما يحصل على سياقنا. من الصعب أن نطرد معطى أساسيًا، بعيدًا عن مقولة "تجديد الربيع العربي" التي تعكس فكرًا رغائبيًا (wishful thinking) سطحيًا ويستبطن تكرار التاريخ بمعزل عن كدماته والمخيال المجروح والذي يمقت خاصة كلمة "الربيع" ودلالاتها، وهو أنّ الحدث السوري سيدفع الرأي العام العربي بما في ذلك التونسي لاستحضار تفاهة النظام الاستبدادي الرسمي العربي. 

إنّ المشهدية المرعبة لصيدنايا إنما تستحضر أيضًا المشهدية المتخيلة والكامنة للمنظومة السجنية العربية، بمعزل عن تبايناتها واختلافات درجة التوحش فيها، إذ أنّ التمثل السياسي وتأثير المشهد لا يتعلق بالمعطيات بل بالمشاعر. انهيار صنمية القائد الواحد الوحيد المهيمن بالضرورة ستكون ماثلة أينما يوجد واقع الصنمية. وهنا طبعًا لا يمكن أن نغفل عن أنّ جزءًا أساسيًا من المنصة الدعائية العربية إنّما بصدد حفر قبرها عندما تركز على هذه المشهدية ولا تنتقم من نظام بشار فقط. 

كما أنّ ما يحدث سيعنينا بالضرورة في الإقليم المغاربي. ترتيب شروط "الاستسلام العربي" الشامل، خاصة مبدأ التطبيع مقابل "الدولة الرمزية"، أي التطبيع بلا مقابل، سيشمل الآن الخط الأخير من النظام العربي الرسمي خاصة "قبلة الحرمين" والدولة النفطية الأكبر، التي ستحاول بالضرورة توظيف ثقلها الصلب والناعم في المجال العربي لمحاولة جر ما تبقى من الممتنعين على التطبيع.

لا يمكن إغفال المحاولة الممكنة في قادم الأشهر لجرّ الجزائر وتونس نحو "صفقة القرن"، وستكون الإدارة الأمريكية الجديدة شديدة الغرور بقيادة ترامب معنية بالمساهمة في تسليط الضغوط من أجل هذا الهدف. الإقليم المغاربي معني أيضًا وبالضرورة بمحاولات موسكو، ومؤشراتها بادية، لتعويض خسائرها في سوريا خاصة احتمال التخلي عن قاعدة طرطوس البحرية، نحو بنغازي أو أيّ ميناء ليبي آخر في المجال الذي تسيطر عليه قوات حفتر. احتمال توسع الرتق الروسي-التركي من سوريا إلى ليبيا أيضًا يمكن أن يترك أثره على الإقليم، خاصة أنّ الجزائر تركز على "تكتل ثلاثي" يضم على الأقل غرب ليبيا. 

لا يمكن إغفال المحاولة الممكنة لجرّ الجزائر وتونس نحو "صفقة القرن"، وستكون الإدارة الأمريكية الجديدة شديدة الغرور.. و الإقليم المغاربي معني أيضًا وبالضرورة بمحاولات موسكو ومؤشراتها بادية لتعويض خسائرها في سوريا

الموضوع الثالث طبعًا، وبلا شك، موضوع تبييض "الجهادية" عامة واحتمال عودتها إلى تونس خاصة. من الصعب حتى الآن أن نسمّي حالة الجولاني ومن ثمة "هيئة تحرير الشام" بأنها حالة "مراجعات" قابلة للتعميم، ما دامت لم تحسم بوضوح المسألة الديمقراطية، على مستوى الأفعال وليس الخطاب فقط. حتى الخطاب لا يزال مراوغًا يركز على مصطلحات الحرية ويتجنب مصطلحات الديمقراطية. وعمليًا نحن بوضوح إزاء استجلاب حكومة إدلب، ذات التجربة الاستبدادية أصلًا، وهيمنتها بمعنى "فقه التغلب" على أجزاء واسعة من سوريا

الأهم تونسيًا ما هو مصير مساجين النصرة وداعش في سجون النظام السابق. الجولاني قال إنّ عدد المقاتلين الأجانب لديه "ليس كثيرًا جدًا"، يبقى أنه "كثير". وقال إنهم يستحقون المكافأة. قال أيضًا إنّه يمكن أن يمنح بعضهم الجنسية. هو بكل تأكيد سيحسم موقفه خاصة بناءً على "جزرة" الاعتراف الدولي، وسيكون هناك ضغط من كل الجهات لعدم إفلات هؤلاء، ومن غير الواضح كم هناك من التونسيين بينهم، من بقوا مع الجولاني ومن سيخرجون من السجون. لكن تركيا الماثلة إلى الشمال والتي ستحتاج مقاتلين في معركتها المتصاعدة مع القوات الكردية يمكن أيضًا أن تعيد رسكلة بعضهم. 

الأهم تونسيًا ما هو مصير مساجين النصرة وداعش في سجون النظام السابق

في الجهة المقابلة، هناك القابعون في سجون "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية ومخيم الهول. الأكراد سواءً بإرادة واضحة لاستعمال هؤلاء كورقة لضمان عدم رفع المظلة الأمريكية، أو بسبب انهيارهم الممكن أمام أيّ هجوم تركي، يمكن أن نشهد في هكذا سيناريوهات حالة انفلات عامة، خاصة أنّ داعش تنشط أصلًا في "البادية" بين الحسكة ودير الزور، وبكل تأكيد هناك عدد معتبر من التونسيين هناك. 

كل المؤشرات الموضوعية تحيل على "انتعاشة لداعش". خاصة إن أصرّ ترامب على التقليل من الوجود العسكري لقوات التحالف. إيران هذه المرة لن تشارك في دحر داعش في سوريا وستبقى في موقع المتفرج الشامت، بل يمكن ألّا تكون متحمسة أصلًا لذلك وهي متمترسة الآن في مواقعها في العراق بين ثنايا الحشد الشعبي. عودة هؤلاء عبر البوابة التركية أو الليبية سيناريو جدي ما في ذلك شك. أيضًا محاولتهم "عن بعد" وبشكل افتراضي إحياء الخلايا النائمة أو تجنيد خلايا جديدة، أيضًا احتمال جدي. 

الوضع صعب، ونذر تقلبات كبيرة في الأفق. في تونس، نحتاج "وحدة وطنية"، لكن فقط عندما تستوعب ديناميكية المشهد التونسي، باختلافاته وتبايناته، ما نلتقي حوله من ثوابت سيادية عليا، ونختلف بشكل سلمي ومؤسسي في الباقي، فقط تلك "الوحدة" هي القادرة على الاستدامة والنجاح في التصدي للعاصفة الجيوسياسية القادمة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"