27-مارس-2018

مظاهرة لسلفيين متشددين في تونس سنة 2012 (فتحي بلعيد/ أف ب)

مقال  رأي

 

"كيفاش تقرالو هذا.. يبدل في كلام ربي" (كيف تقرئين لهذا الشخص.. إنه يغيّر كلام الله) أو "ياخي عادي تكون صديقة مع ناس كيما هكة لا دين لا ملة" (كيف تصادقين مثل هؤلاء الأشخاص.. هؤلاء لا دين لهم ولا ملّة).. هذه بعض العبارات التي أسمعها عادة من أقرباء شاهدوا صورتي أو حواري مع المفكر يوسف الصديق أو المفكر المغربي سعيد ناشيد، أو بعض من أصدقائي عندما يدركون أن لي رفاقًا اختاروا أن يكونوا لا دينيين.

رغم أنني متأكدة من حسن نيّة هؤلاء الأقارب والأصدقاء عند انتقادهم لبعض خياراتي إلا أن خطابهم مرآة تعكس خطابًا رجعيًا رفض أن يتطوّر ويتقبّل المختلف خاصة إذا كان لهذا الأخير علاقة بالمقدّس بالنسبة لهم ولكن أيضًا للغالبية الكبرى من المجتمع التونسي.

ولئن كان كلامهم نابعًا من خوف كامن من المختلف أو على معتقداتهم ولا يتعدى أن يكون رأيًا شخصيًا يهمهم في الظاهر، إلا أن باطنه يعبّر عن خطاب التكفير الذي قسّم مجتمعات وهدّمها بل وتسبّب في مقتل عدة شخصيات تميّزت بفكرها المنتقد وكتاباتها وأعمالها التي رأى فيها البعض إساءة للدين. لعلّ من أبرز هؤلاء الكاتب الأردني ناهض حتر الذي قتل بثلاث رصاصات بعد نشره لرسم كاريكاتوري اعتبره متشددون "مسيئًا للذات الإلهية".

اقرأ/ي أيضًا: مانيفاستو حساء الخضار: الإرهاب لا يضحك !

أصبح التكفير عملية سهلة لا تستوجب منك سوى أن توجه أصابع اتهام الإساءة للإسلام لمن "تجرأ" وانتقد شخصية دينية أو فكرًا معينًا

رصاص التكفير طال أيضًا تونس وكان الشهيد شكري بلعيد أحد أبرز ضحاياه. ووقع كذلك تكفير فنانين والتهجم على معرض رسوم تشكيلية، راج أنه يحتوي رسومًا مسيئة للإسلام في قصر العبدلية سنة 2012، الأمر الذي جعل سلفيين تكفيريين آنذاك يشعلون عجلات مطاطية ويغلقون طرقات ويحاولون سرقة اللوحات التي قالوا إنها مسيئة. 

في تلك الفترة بعد الثورة التونسية، سيطر متشددون على جزء هام من الحياة العامة ونصبوا خيمات دعوية وقدموا "أعمالًا خيرية" ولكنهم أيضًا ساهموا في بروز موجة من التكفير ضدّ كلّ من قد يخالفهم الرأي أو كلّ من يعتبرونه يحمل فكرًا مخالفًا لما يؤمنون به. ولكن هذه الظاهرة لم تكن وليدة تلك الفترة صراحة، بل إنها تواجدت منذ عقود وكان وزير التربية الأسبق والناشط الحقوقي محمد الشرفي أحد من طالته سهام التكفير أواخر ثمانيات القرن الماضي.

أصبح التكفير عملية سهلة لا تستوجب منك سوى أن توجه أصابع اتهام الإساءة للإسلام لمن "تجرأ" وانتقد شخصية دينية أو فكرًا معينًا أو تقدّم بمقترح يعدّ من التابوهات أو دافع عن المساواة التامة بين الجنسين أو عن المثليين الجنسيين. تهمتك في هذه الحالة جاهزة وعلى المقاس.. أنت كافر/ة وتسيئين للذات الإلهية أو حتى للرسول.

ورغم أن ظاهرة التكفير تراجعت نسبيًا خلال السنوات الأخيرة في تونس إلا أنها لا تزال تطلّ برأسها من حين إلى آخر خصوصًا عندما تطرح قضية المساواة بين المرأة والرجل وحقوق الأقليات في تونس. سرعان ما تشتغل "الماكينة" لتطلق سيلًا من تهم التشويه والتكفير لكلّ من يدافع عن مثل هذه الحقوق والحريات، نذكر ما يحصل مع المفكر يوسف الصديق الذي تعرّض مؤخرًا لحملات تكفير وتشويه على خلفية دعوته للتفريق بين المصحف والقرآن. إضافة إلى تعرض الأستاذين آمال القرامي وأحمد الملولي وحتى أعضاء من الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات لحملات تكفيرية وتشويهية.

اقرأ/ي أيضًا: إلغاء المهر، حرية اختيار اللقب والمساواة في الميراث في تونس.. جدل يتصاعد

البعض من الذين قرّروا تعيين أنفسهم حراسًا على الدين يرفضون أي طرح يدعو للتفكير

فالبعض من الذين قرّروا تعيين أنفسهم حراسًا على الدين يرفضون أي طرح يدعو للتفكير والنقاش بالحجج والبراهين والمنطق خاصة إذا كان هذا النقاش سيطال كل ما يعتقدون أنه يمسّ بالإسلام. وهذا المقدّس بالنسبة لهؤلاء واسع في مفهومه قد يبدأ من الذات الإلهية ليصل إلى الأحاديث المتداولة على أنها نبوية مرورًا بشخصيات يرون أنها تمثل الدين الإسلامي.

وهنا نجد أن كلّ من يحاول أن يحث على التفكير والاطلاع على الأديان والحضارات المقارنة ومن يربو إصلاح منظومة دينية باتت خاضعة لتأويلات وضعها شيوخ على مقاسهم وخدمة لمآربهم وأحاطوها بهالة المحرّم حتى وقع البعض في فخ تقديس هذه التأويلات أكثر من تقديس الله.

ورغم أن حملات التكفير والتشويه والتحريض تكرّرت في أكثر من مناسبة إلا أن النخبة السياسية في تونس في معظمها لم تندّد بشكل كاف بهذه الحملات ولم تتخذ السلطات إجراءات ردعية لتحدّ من موجات التكفير والتحريض رغم خطورتها. ولهذا ربما مازال التكفير أمرًا يمارسه البعض باستخفاف واستهتار ضدّ من يخالفه الرأي. وهذه الممارسة قد تأتي من دعاة دين أحيانًا ومواطنين عاديين لا يمتلكون المؤهلات الدينية أحيانًا أخرى. والأمثلة هنا كثيرة ومتعدّدة وتصفح بعض الرسائل التي قد تصل مفكرين أو أشخاصًا عاديين مختلفين في اعتقاداتهم في مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد هذا التوجه التكفيري.

لم لا نقوم بمراجعة شاملة لأنفسنا لنعوّدها على تقبّل الآخر كما هو؟

توجه سيقودنا إلى مزيد من العزلة والظلامية والتشدد إذا لم نعمل على مواجهته وإزالة الحواجز التي تحول دون احترام من لا يشبهنا ولا يؤمن بالضرورة بما نؤمن به. التساؤل المطروح بقوة لماذا نخشى بشدة كل محاولات التفكير؟ لماذا نرفض الاستماع إليها حتى لو لم نقتنع بها؟ الاستماع إلى آراء مختلفة لن يضرّنا بأية حالة وهو في كل الحالات أفضل بكثير من اتهامه بالخروج عن دين أو ملّة وربما الدفع إلى مقتله.

هذا الإصلاح المنشود لمواجهة التكفير يحتاج إلى سنوات من العمل والفكر والنقاش ولكن لا بدّ أن نبدأ من مكان ما. وعملأ بمقولة "الأقربون أولى بالمعروف" لم لا تكون بداية الإصلاح بداية من أنفسنا.. لم لا نقوم بمراجعة شاملة لأنفسنا لنعوّدها على تقبّل الآخر كما هو والابتعاد عن تقييمه بناء على معتقداته الشخصية بل على طريقة تعامله مع المحيطين به وأخلاقه وإنسانيته.. ولنتوقف عن وسم آخرين بتهم وقوالب جاهزة كالكفر والخروج عن الملّة.

أخيرًا نحن لا نعدو أن نكون بشرًا ولا أعتقد أن أي شخص منا يمتلك ترخيصًا لتكفير هذا أو ذاك وتكوين قائمات بأشخاص سيدخلون الجنة وآخرون سيواجهون مصيرهم في نار جهنم. لا أحد منا يمتلك هذا الصلاحية وهذا التفويض.. وفي النهاية كلنا سواسية أمام الإنسانية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصوفية في تونس.. من يستثمر الصراع؟

بهائيو تونس.. بين تجاهل السلطة والتعايش المنقوص