06-يناير-2025
فن التطريز اليدوي التقليدي في تونس

(ماهر جعيدان/الترا تونس) فنانة تطريز لـ"الترا تونس": حرفة التطريز اليدوي تعاني من شح اليد العاملة وغلاء المواد الأولية

 

جلست فاطمة في إحدى زوايا البيت تفترش جلدًا ناعمًا وتضع وسادة دافئة وراء ظهرها وتمسك بين يديها طارة التطريز وتدخل بأناملها الرقيقة الإبرة في قطعة القماش الموصلة بالطارة وتصنع غرزة علوية مرصعة بالعدس المذهّب، يدبّ الدفئ في البيت كدبيب الحبّ في أكنّة القلب العاشق، إنها فاطمة ابنة الأربعة عشرة ربيعًا ظلّت تنعم بطفولتها في بيت أبيها، تزاول دراستها وتستهويها حرفة التطريز فتبدع في الرسم وتتوارث تقليدًا ضاربًا في الأصالة.

كان ذلك قبل نحو نصف قرن حين استرجعت فاطمة ذكريات طفولتها، في مدينتها الأصل المهدية (ساحل شرقي)، بعد أن أرسلتها والدتها إلى جارتها "الطرّازة" كي تتعلّم فن التطريز فتتوارث عنها حرفة تقليدية نبيلة تمتهنها بعض نساء المدينة ممّن وهبهن الله حسن الذوق وألهمهن صبرًا على هذا الفن اليدوي المطرّز بالإبداع.

فن التطريز حرفة نبيلة تمتهنها عديد النساء في تونس ممن يبدعن في الرسم ويتوارثن تقليدًا ضاربًا في الأصالة يحفظ الهوية والبصمة التونسية

لا تزال فاطمة بنظارة الطفولة حين التقاها "الترا تونس" في ورشتها بجهة شط مريم من ولاية سوسة (ساحل شرقي) حدّثتنا عن طفولتها وأسرّت لنا أن أول عمل لها في التطريز كان لباسًا تقليديًا "فرملة" طرّزتها للعبتها المفضلة "عروسة" كانت تلعب بها في سن العاشرة.

خلال لقاء "الترا تونس" بها كان منتظرًا أن يغلب على اللقاء البعد التقني في فن التطريز اليدوي المنتشر في جهة الساحل غير أن كمًّا من المعارف المطرّزة بالحكمة والذوق الرفيع كان في الموعد، إنها فاطمة التي تخرّج على يديها عشرات من نسوة المدينة بعد خبرة طويلة في مجال التطريز والابتكارات، تطريز حافظ على الموروث الحضاري وأضافت له لمسات حديثة، وكان دليلها في ذلك اتساق رائع في الألوان ونبل في التصميم على الملابس والأقمشة والستائر.

 

فن التطريز اليدوي التقليدي في تونس
فنانة التطريز فاطمة بوشناق لـ"الترا تونس": عند الكبر راودني الصّبا فأنشأت ورشة حرفية في التطريز (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

تحدّثت فاطمة بوشناق لـ"الترا تونس" لتقدّم نفسها، مذكّرة أنها أصيلة مدينة المهديّة عاصمة الفاطميين تلك المدينة التي عرفت بتقاليدها الراسخة في تطريز الملابس اليومية والمناسبتية التي تزين النساء وتمكنهن من ثروة العمر لقيمتها المادية الكبيرة.

لم تقتصر الحرفية فاطمة بوشناق على تطريز الملابس التقليدية بل طورت هذا الفن وجمعت بين التقليدي منه والمعاصر ودمجت فن التطريز المهدوي بالحماميّ والسوسيّ

درست فاطمة في المعاهد التونسية وعملت بسلك التعليم حتى بلغت سنّ التقاعد وعاودها الحنين إلى حرفة التطريز التي نشأت عليها في سن مبكرة قائلة لـ"الترا تونس": "عند الكبر راودني الصّبا"، فأنشأت ورشة حرفية في التطريز بمدينة شط مريم التي تقيم بها وعملت على تكوين العديد من نساء البلدة ومكّنتهن من معارفها في هذه الحرفة الدقيقة.

لم تقتصر فاطمة على تطريز الملابس التقليدية بل طورت هذا الفن وجمعت بين التقليدي منه والمعاصر ودمجت فن التطريز المهدوي بالحماميّ (نسبة إلى حمام سوسة) والسوسيّ (نسبة إلى سوسة) ولم تقتصر على الكوفية، والقمجّة، والعباية، والفوطة والبلوزة (كلها ألبسة تقليدية تونسية)، وإنما مرّت إلى تطريز القفطان والأقمشة والمنشفة الحمامية مع المحافظة على الطريقة القديمة في استعمال العدس والكونتيل والعقيق، ونظرًا لحرفيتها اللامتناهية فإنها تبدع في تطريز الأقمشة لحرفائها من بائعي الأقمشة الرفيعة الذين وجدوا عندها أفكارًا وتصميمات فنية فريدة.

وذكرت فاطمة لـ"الترا تونس"، أنها "عملت ولاقت النجاح وكلما تقدّمت وجدت من يدعمها ويدفعها إلى الأمام"، وأصرّت على أنه من بين أسرار نجاحها أنها تنتج تصميمات جديدة وفريدة في كل منتوج جديد وفق ما تمليه عليه ذائقتها الفنية حينها "زمن الفرحة أنتج شيئًا وزمن التوتر أنتج آخر" وكأنها تلحن مقطوعة موسيقية فتكون النوتة وفق المشاعر التي تعيشها.

حرفية في التطريز لـ"الترا تونس": سرّ نجاح التصميمات هو التأني في اختيار الأشكال وإبداع تناسقها ثم يتم اختبار مدى جماليتها عبر تطبيق نماذج فإما أن يكون مآلها النجاح أو إعادة الترتيب

بسطت فاطمة نماذج من أقمشة مطرّزة قامت بتصميمها والسهر على إنتاجها ولاحظ "الترا تونس" أقمشة متنوعة حريرية وشفافة وأردية ملوّنة زادها بهاء ذلك العدس الفضي والمذهب وتناسق العقيق الملوّن والتدرّج في الألوان واللمعان الذي يسرّ الأنظار.

 

فن التطريز اليدوي التقليدي في تونس
نماذج من أقمشة مطرّزة قامت فاطمة بوشناق بتصميمها والسهر على إنتاجها (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

تقول فاطمة إنها تستعمل نوعين من الإبر في التطريز إبر عادية وإبر "الكروشي" ويتحكم في زمن الإنتاج للقطعة الواحدة طريقة صنعها وتصميمها فقد يستغرق تطريز متر واحد أسبوعًا كاملاً من العمل، وتستعين بنساء كانت قد علّمتهن التطريز، مؤكّدة أنها تلقي التدريب مجانًا وهناك من يغادرن هذه التدريبات في حين تبقى عدد من النسوة للعمل معها وتمكنّهن من العمل بالمناولة من بيوتهنّ، قائلة: "هي تربح وأنا أربح".

حرفية في التطريز لـ"الترا تونس": أنصح بحفظ "الصنعة التقليدية" أو الحرفة التي تخلّد الموروث الحضاري التونسي لما يمثله من أهمية في حفظ البصمة والهوية التونسية

وعن سرّ التصميمات التي تنجزها فاطمة ذكرت في حديثها مع "الترا تونس"، أنها تكون متأنيّة في تصميم الأشكال التي تعتمدها وتعمل على اختبار مدى جماليتها عبر تطبيق نماذج فإما أن يكون مآلها النجاح أو إعادة الترتيب، ثم تعطيها للفتيات اللاتي يعملن معها لتطبيق التصميمات الموفّقة.

تنصح فاطمة بحفظ "الصنعة التقليدية" أو الحرفة التي تخلّد الموروث الحضاري التونسي لما يمثله من أهمية في حفظ البصمة والهوية التونسية في العالم، فإتقان صنعة في الصغر قد تجدها عند الكبر، والتطريز عبارة عن "مقياس ذهبي" في معصم المرأة عند الحاجة ستجدها حتمًا، خاصة عندما يقسو الزمن فتجد ما يعيلها، وفق تعبيرها.

 

فن التطريز اليدوي التقليدي في تونس
حرفيات في الورشة يعملن على تطريز قطع فريدة يدويًا (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وتقول فاطمة إن شابات اليوم لا يقبلن على تعلم هذه الصنائع لأنهن سريعات الضجر ومن بين من تعلّمن هذه الحرفة عنها، قليلات فقط منهن من ثابرت وواصلت لأن هذه المهنة تحتاج إلى الصبر الجميل والذوق الراقي، مؤكدة أن التأني والصبر هما مفتاح النجاح، كما أن الذوق يحافظ على ديمومة النجاح بإنتاج قطع فنية مطرّزة متجددة وملهمة فإذا لم تتناسق الألوان والأشكال سيتشتت البعد الإبداعي والفني.

فنانة التطريز فاطمة بوشناق لـ"الترا تونس": حرفة التطريز اليدوي التقليدية تعاني من عدة إشكاليات أبرزها غلاء أسعار المواد الأولية وتضاعف أثمانها في السنوات الأخيرة فضلاً عن شحّ اليد العاملة

وتطرقت فاطمة في حديثها مع "الترا تونس" إلى غلاء المواد الأولية واليد العاملة في صنعة التطريز اليدوي فقيمة العدس وتل الكونتيل والعقيق تضاعفت وبات ثمنها أكثر غلاء مما يرفّع من كلفة المتر الواحد المطرّز من 300 دينار إلى 400 دينار أو أكثر، كما أن شحّ اليد العاملة يساهم في ارتفاع الكلفة وهذه من أكبر الإشكالات التي تعاني منها هذه الحرفة.

في الساحل التونسي ينتشر هذا الفن اليدوي التقليدي الموروث عن الأجداد، فن مطواع تقيّد برسومات وتصاميم وألوان مقننة عبر الزمن والتزم بطرق تطريز عتيقة وهو جوهر الفن الأصيل في الحياكة والتطريز، غير أنه في العقدين الأخيرين بدأ يدب فيها التجديد في الشكل والمضامين مع المحافظة على حبل الوصل بين العتيق والحديث.

 

فن التطريز اليدوي التقليدي في تونس
طريقة التطريز على العالي منتشرة أكثر في الساحل والوطن القبلي (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

ومن خلال اطلاع "الترا تونس" على الملابس التقليدية التي ترتديها العروس فإن العدس والعقيق والكونتيل تبقى المكونات الرئيسية الذي يحافظ عليها أهل المهنة ولا يحيدون عنها، في حين تم الاستغناء تدريجيًا عن المعادن النفيسة كالتلّ الذهبي أو الفضي ذي الكلفة العالية.

ومن بين هذه المواد الأولية في التطريز على سبيل الذكر "الكونتيل" (كلمة ذات أصل لاتيني) وهو عبارة عن خيط رقيق من ذهب أو فضة وسطه فراغ وشكله كالقصبة يتم تركيبه على الأقمشة الفاخرة بطريقة الخرز ويعتبر رمزًا للملابس الفاخرة الرجالية والنسائية على حد سواء، وتحدثت عنه الباحثة خولة المجدوب في إحدى منشوراتها قائلة إن "طريقة التطريز المسماة "طريزة بالتل" هي من أقدم طرق التطريز التونسية وأكثرها تنوعًا وانتشارًا".

الباحثة خولة المجدوب: طريقة التطريز المسماة "طريزة بالتل" هي من أقدم طرق التطريز التونسية وأكثرها تنوعًا وانتشارًا والثراء في هذا المجال ناتج على قدرة المرأة التونسية المبدعة على تطويع هذا السلك

وتضيف الباحثة: "إذ تطرز وتزخرف بها عديد الأثواب اليومية كما المناسباتية نذكر منها المحرمة المرشوشة، والكوفية، والقمجة، والدخلة، والسورية قماش، والعبا، والفوطة والبلوزة، والكدرون وصولاً إلى الكسوة بالسروال كبوس الغارق والمرساوي. هذا الثراء هو ناتج على قدرة المرأة التونسية المبدعة على تطويع هذا السلك وخلق العديد من طرق التطريز به أشهرها البرمقلي، والزيق، والضفرة، ونكتة حمامات، ونكتة عمبر أو عمبرية. إضافةً إلى طريقة التطريز على العالي المنتشرة أكثر في الساحل والوطن القبلي".

وبخصوص أسرار الذهب والفضة في هذه الألبسة، ذكرت أم كلثوم القابسي وهي حرفية في الصناعات التقليدية في تصريح لـ"الترا تونس" أن تطريز الملابس يكون بخيوط رقيقة محلاة بالفضة يتم غزلها كما يغزل الصوف وتلتف به خيوط مماثلة ذهبية، وإضافة إلى هذه الخيوط، يضاف خيط الحرير اللامع "المبردح" وهي كلمة نعني بها المتدرج في الألوان من الأخضر إلى الأبيض أو من الأحمر إلى الأسود وإلى غير ذلك".

 

فن التطريز اليدوي التقليدي
الطريقة القديمة في التطريز تعتمد أساسًا على استعمال العدس والكونتيل والعقيق (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

واتساب