22-مايو-2020

دعوات متجددة لتغيير النظام السياسي عبر آلية الاستفتاء (محمد مدالله/وكالة الأناضول)

 

مقال رأي

 

قبيل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الأولى في تونس ما بعد الثورة، تنادت مجموعة من النشطاء السياسيين إلى الدعوة إلى الاستفتاء حول دور المجلس الجديد وصلاحياته ومدته. وقد يكون من قبيل الصدفة ربما أنه كان من أوائل المتزعمين للمبادرة الناشط السياسي المستقل حينها محسن مرزوق وقد برر مسعاه حينها بقوله "الدعوة للاستفتاء نابعة من مخاوف من أن يحيد المجلس التأسيسي عن دوره وتسقط الكتل السياسية الممثلة فيه في انقسامات تطيل الفترة الانتقالية وتتسبب في الفوضى"، بل أن ثمة حينها من ذهب إلى أكثر من ذلك بالتهديد بحمام دم.

وها أن السيناريو يتكرر هذه الأيام بأشكال ومسميات مختلفة منها دعوة الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي صراحة بعد لقاء وصف بالتاريخي مع رئيس الجمهورية إلى الاستفتاء على النظام السياسي، ومنها كذلك دعوة محسن مرزوق مجددًا إلى الحوار تحت طائلة التهديد بإعادة سيناريو اعتصام باردو داعيًا إلى ما وصفها بالجمهورية الثالثة ودون ذلك الشارع قائلًا بصريح العبارة "وقفنا الترويكا 1 ومستعدين باش نوقفوا الترويكا 2 والترويكا 3 إذا لزم".

تأتي الدعوات للاستفتاء على النظام السياسي بعيد انتخابات برلمانية بالكاد تمكن الفائزون فيها من التوافق على حكومة جديدة

كل ما سبق وغيرها من الدعوات المشابهة يتساوق مع المشروع المعلن للرئيس قيس سعيّد، يروم فيه تقويض هرم السلطة السياسية في البلاد داعيًا إلى منوال تمثيلي جديد ينسف كليًا المنوال الحالي، ويبشر بالتمثيل القاعدي المتدرج إلى القمة، وقد كان صريحًا وواضحًا حين تحدث في 2019 عن إلغاء الانتخابات البرلمانية وتعويضها بالانتخابات المحلية.

ولعل الصادم في ذلك هو أن هذه الدعوات جاءت بعيد انتخابات برلمانية بالكاد تمكن الفائزون فيها من التوافق على حكومة جديدة لم يمر على تسلمها السلطة سوى أسبوع وحيد حتى زحف على البلاد تسونامي الجائحة الكونية وهو ما فرض على الجميع حصر الاهتمام على الحرب ضد كوفيد-19 وتأجيل كل المشاريع الإصلاحية مهما كان نوعها.

اقرأ/ي أيضًا: في جدل الشرعية والمشروعية

ولسنا ندري على أي المعايير استند الجماعة في تقييمهم لأداء الحكومة والحكم المسبق عليها بالفشل والحال أنها حققت إنجازًا تاريخيًا في حربها على الكورونا لم تنجزه بعض الدول المتقدمة. وللتذكير فإن رئيس الجمهورية هو ذاته من عيّن رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ بعد فشل الحزب الأول في تمرير حكومة الجملي بل أن بعض مكونات الائتلاف الحكومي لازالت تؤكد أن هذه الحكومة هي حكومة الرئيس. فهل يكون الرئيس قد تنكر بسرعة لحكومته ولرئيسها؟

بقطع النظر عن الموقف الحقيقي للرئيس، فإن أزمة كورونا، كما هو شأن كل الأزمات الحادة، تمثل فرصة نادرة لمن في جرابه مشاريع لتقويض التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة منشغلة بإدارة هذه الأزمة، كان لفيف من أبناء الوطن يسعى إلى منهج الإدارة بالأزمة (management by Crisis). وهو افتعال الأزمة أو استثمارها من أجل الوصول إلى غايات سابقة لها ومن مثل ذلك ما ينتهجه الإرهابيون فيما عرف بإدارة التوحش (كتاب لأبي بكر ناجي). ولعل بذلك وحده يمكن أن نفهم سر هذا التواتر غير المسبوق للدعوات المختلفة التي تلتقي عند هدف إسقاط الحكومة ومن ورائها التجربة الديمقراطية التونسية بوعي أو دونه.

هل أن النظام البرلماني المعدل هو سبب كل تلك الخيبات؟ وهل أن العودة الى النظام الرئاسي هو سفينة النجاة الوحيدة؟

كل ما سبق لا يجعلنا ننكر وجود أزمة حكم في تونس ما بعد الثورة عجزت فيها حكومات متعاقبة طوال ما يقارب العشر سنوات على الاستجابة إلى تطلعات الشعب في إنجازات ملموسة تنعكس مباشرة على معاش الناس. فهل أن النظام البرلماني المعدل هو سبب كل تلك الخيبات؟ وهل أن العودة الى النظام الرئاسي هو سفينة النجاة الوحيدة؟

اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح

إن أي نقاش جدي ومستفيض في هذه المسألة ليس في وسعه إلا أن يؤدي بنا إلى استنتاج واضح لا لبس فيه وهو أن المشكلة الحقيقية ليست في نظام الحكم بقدر ما هي في النظام الانتخابي الذي أُريد له أن يفتت السلطة بدعوى عدم السماح لأي حزب بالتغول. وقد كان ذلك مستساغًا إبان المرحلة التأسيسية الأولى غير أنه اليوم أصبح يشكل عقبة في الأداء امام أي إنجاز ممكن. فهذه الائتلافات المشوهة والمغشوشة التي شهدتها تونس منذ حكومة الترويكا إلى اليوم لم تساعد على إيجاد الاستقرار السياسي والحكومي الذي يمثل شرطًا أساسيًا لأي إنجاز ممكن.

سيكون حكمنا على النظام البرلماني منصفًا حين نجرب تجربة حكم الحزب الفائز ونوفر له فرصة تنفيذ البرامج التي ضمنها برنامجه الانتخابي الذي انتخب على أساسه. والحكم على الحزب الفائز لا يكون سوى لصاحب السيادة عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات وذلك كنه مبدأ التداول السلمي على السلطة. فبسبب ذلك النظام الانتخابي الذي فصلته هيئة بن عاشور على المقاس لم يستطع أي حزب طوال فترة ما بعد الثورة أن يجسد برامجه الانتخابية تحت إكراهات التوافقات والتفاهمات الضرورية بين أحزاب ذات توجهات متناقضة لا تكاد تجمعها سوى المجالس الوزارية في أروقة القصبة.

 المشكلة الحقيقية ليست في نظام الحكم بقدر ما هي في النظام الانتخابي الذي أُريد له أن يفتت السلطة

كما لا ينبغي التغافل عن تلك الحسابات السياسوية الفجة التي ينطلق منها البعض في دعوته إلى إعتماد النظام الرئاسي. فمن المعلوم أن الانتخابات الرئاسية تجرى على دورتين تتعدد فيها الترشحات في دورتها الأولى في حين ينحصر التنافس بين مترشحين فقط في الدور الثاني، وفي هذه الحالة من اليسير أن تتكتل القوى من أجل قطع الطريق أمام مرشح بعينه وهو السيناريو الذي شهدناه في كل الرئاسيات السابقة. وإذا ما نجحت بعض الأحزاب إلى جر الحزب الأكبر الى مربع الرئاسيات، سيكون من اليسير عليها حينها إزاحته من الحكم بيسر عبر آلية التكتل ضد مرشحه في الدور الثاني. ولعل ما سبق قد يطرح تساؤلات في عمق العقيدة الديمقراطية ذاتها عن بعض السياسيين في تونس وعن مدى قبولهم آلية الصندوق الممثل لإرادة الشعب كمصعد وحيد الى الحكم؟

ما من شك أن النظام الرئاسي هو نظام ديمقراطي كما هو شأن النظام البرلماني ولا يمكن تقييم أي منهما والجزم بملاءته للحالة التونسية سوى بمنهج التجربة والخطأ. وما لم نتمكن من تغيير القانون الانتخابي في سبيل خلق أغلبية مريحة للحكم، لن نتمكن من تقييم موضوعي للنظام البرلماني المعدل ومن هنا تتمثّل العجلة في الدعوة إلى القفز مباشرة إلى النظام الرئاسي عبر آلية الاستفتاء وهي ليست سوى قفزة في غياهب المجهول قد تؤدي بنا إلى هوة سحيقة بلا قرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"خلق لينتهز".. مبدأ تجاري أم منوال اقتصادي؟

كورونا.. امتحان جماعي في ديمقراطية ناشئة