22-أبريل-2019

تثير مسألة تسمية الأنهج والشوارع في تونس تجاذبات سياسية وأيديولوجية (Getty)

 

"العهد الجديد"، و"7 نوفمبر"، و"التحوّل المبارك" و"التّغيير" هي أسماء وعبارات اختفت لافتاتها وامَّحَتْ لوحاتها واحتجبت تماثيلها من كلّ الشوارع والأنهج والسّاحات والمؤسّسات بعد ثورة الحريّة والكرامة. فقد تمكّن الشّبابُ المنتفضُ من تطهير الأحياء والمدن من تلك العناوين التي أفقدها نظام بن علي دلالاتها الأصليّة النبيلة المتّصلة بمعاني التقدّم والتطوّر والإقلاع، وشحنها بدلالات القمع والوشاية والفساد.

كانت عمليّاتُ التطهير قيصريّةً عنيفة تجسّدت تكسيرًا وتهشيمًا وإنزالًا وقلعًا وخلعًا ونزعًا، وكانت الرّغبات والمقاصد متباينة تراوحت بين التطلّع إلى الإصلاح والتعديل والتّوق إلى الاجتثاث والاستئصال.

أصبح الاختلاف حول تسمية الأنهج والشوارع في البلديات التونسية أحد عناوين الصراع السياسي والأيديولوجي في العمل البلدي المحليّ

اقرأ/ي أيضًا: عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحرية (2/1)

وبصرف النظر عن هذا التباين، فقد أظهر المتمرّدون على العناوين والأسماء القديمة وعْيًا عميقا مفاده أنّ السّبيل إلى حماية الثّورة يمرّ عبر تحصينها لُغويًا ورمزيًا، فلكلّ مرحلة استعاراتُها ومفرداتُها وإيحاءاتُها وكِناياتُها، لذلك كانت البدائل من صميم الأحداث. 

فحلّت محلَّ "الأسماء النوفمبريّة" عناوين تليق بدماء الشهداء، فلم تخلُ مدينة من المدن التونسيّة بعد سنة 2011 من عبارتي "شارع الثورة" و"شارع 14 جانفي". ولئن كانت هذه الحركات صادقةً نبيلةً في الغالب، فقد رافقتها بعض المبادرات المتسرّعة كَأَنْ تعمد مجموعة إلى وضع نصب تذكاريّ باسم "أحد القتلى" قبل التحقّق من ملابسات الموت وقبل ضبط قائمة شهداء الثورة وجرحاها ضبطًا موضوعيًا لا خَلْطَ فيه ولا تلبيس.

حركة تحرير الميادين

إسقاط "الأسماء النوفمبريّة" أغرى جلّ التّونسيين بتوسيع ميادين المعركة، فتعالت أصوات تطالب بإجلاء الأنهج من رموز الاستعمار. ففي 18 نوفمبر/ تشرين الثّاني 2016، تحدث محمّد صالح غرس، المناضل الوطني وأحد ضحايا الصّراع البوقيبيّ اليوسفيّ، عن إحساسه بالغُبن بسبب استمرار عنونة بعض الأنهج باسم العسكري والسياسي الفرنسي شارل ديغول.

وعلّل غرس شعوره وموقفه في جلسة استماع علنيّة أمام هيئة الحقيقة والكرامة تعليلًا موضوعيًا كشف من خلاله بعض المفارقات المثيرة. فعدّد مجازر ديغول ونعته بمجرم حرب، وذكّر بخطاب هذا القائد الفرنسيّ الذي دعا فيه جنوده إلى قمع التونسيين بغِلظة وقسوة وحزم حينما قال: "اضربوا بمنتهى القوّة والشدّة ( frapper vite et fort)"، وهو ما تسبّب في سقوط آلاف الشهداء والجرحى في تونس.

المقاوم حمادي غرس: "ما معنى توجد لافتة بإسم مجرم الحرب شارل ديغول في تونس؟"

تتناغم شهادة محمّد صالح غرس مع الحَراك الذي أحدثته الثورة على مستوى تسميات الأنهج والشوارع، ولئن توجّه شباب الثورة إلى مراجعة العناوين المتّصلة بحقبة بن علي، فإنّ عددًا من كهولها وشيوخها من المناضلين قد راودتهم رغبة حالمة في إسقاط كلّ ما يُحيل إلى الاستعمار وحقبة الاستبداد البورقيبيّ.

تشعّبت معركة العناوين وأسماء الميادين، وبلغت ذُروتها مع احتداد التجاذب السّياسيّ والإيديولوجي، فتحوّل الصّراع خاصّة بين الفرقاء الإسلاميين واليساريين إلى ما يمكن نعته على سبيل المجاز بــ"حرب الشّوارع".

 "حرب الشوارع"

يُباح للبلديّات عنونة الأنهج والشوارع والساحات بأسماء شخصيّات وطنيّة من المجالات السياسيّة والفكريّة والفنيّة وغيرها، غير أنّ هذا الإجراء كان قبل الثّورة مشروطًا بمُوافقة السّلطة المركزيّة ممثّلة في وزارة الداخليّة. هذا الشّرط لم يعد قائمًا في مجلّة الجماعات المحليّة الصّادرة سنة 2018، وهي خطوة تجعل المجلس البلديّ سيّدَ نفسه في اتّخاذ الإجراءات المتّصلة بتسمية الميادين ضبطًا وتغييرًا.

ولأنّ الحريّة مقترنة بالمسؤوليّة، فقد باتت البلديّات غيرَ قادرة على التملّص من المُساءلة والاحتجاج والرّفض عند تخيُّر هذا الاسم أو ذاك، بل إنّ طبول الخصام والتدافع تُقرع بين أعضاء المجلس البلديّ وداخل لجانه منذ وضع المقترحات قبل عرضها على المواطنين.

محمّد الصغير بالضيافي (المستشار ببلديّة المروج): عمد أعضاء النيابة الخصوصيّة سابقًا إلى ما يمكن نعته بالمُحاصصة في اختيار الأسماء السياسية للشوارع والأنهج

اقرأ/ي أيضًا: كيف بات يفهم التونسيون كلمة "جبل" في السنوات الأخيرة؟

في هذا السياق، كشف محمّد الصغير بالضيافي، المستشار ببلديّة المروج، لـ"ألترا تونس" بعض الملابسات التي حفّت بتسمية شارعٍ باسم الشّهيد شكري بلعيد يفصل بين المروج الأوّل والمروج الرابع. فقد أجمع حسب تأكيده جلّ أعضاء النيابة الخصوصيّة على رجاحة هذا الاختيار، في المقابل أصرّ صوتٌ مُخالف على اعتبار زعيم حزب "الوطد"  شخصيّة خِلافيّة، وإذا جاز قبول هذا التمشّي، فالأحقّ بهذا التّشريف حسب رأيه، المنصف بن سالم أحد زعماء حركة النهضة الذي توفّي سنة 2015 على اعتبار أنه "جمع في حياته بين الكفاءة العلميّة والنضال السياسيّ".

وخشية أن تشتدّ حرب التّسميات، عمد أعضاء النيابة الخصوصيّة في تلك الفترة وقبلها إلى ما يمكن نعته بالمُحاصصة في اختيارالرموز، فتمّ التوافق على أسماء مناضلين من قبيل نبيل بركاتي والفاضل ساسي وسالم بوحاجب ومختار العيّاري والبشير بن زديرة.

المستشار البلدي في المروج محمد الصغير بالضيافي (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

التّشاركيّة ومحنة البلديّة

المروج السّادس منطقة حديثة البناء تُمثّل امتدادًا لبقيّة "المُروجات" بولاية بن عروس (من واحد إلى خمسة ما عدا المروج الثّاني التابع لولاية تونس)، اقتضت الجاهزيّة العمرانيّة بهذه الجهة الشّروعَ في تسمية حوالي مائتي عنوان من أحياء وأنهج وساحات. ورغم أنّ القانون في هذه النقطة لا يُلزم البلديّة باستشارة المواطنين، فقد ارتأى المجلس البلديّ برئاسة كمال الورتانيّ نهجٍا تشاركيًا في تسمية بعض الأنهج والسّاحات. هذه المبادرة تبدو متميّزة جديرة بالاحترام والتّقدير غير أنّها تحوّلت إلى عمليّة مُرهقة بسبب كثرة الاعتراضات.

وقد عبّر عادل بالطيّب، كاتب عامّ البلديّة لـ" ألترا تونس"، عن هذا الحرج قائلًا: "قلّما يتمّ اقتراح اسم زعيم سياسيّ دون أن يلقى اعتراضًا من هذه الجهة أو من تلك". ويُضيف محدّثنا أنه تمّ التراجع عن اعتماد أسماء من قبيل "جمال عبد النّاصر"، و"جواهر لال نهرو"، و"هوّاري بومدين"، وحرص الغالبيّة على اختيار أعلام آخرين كـ"عمر المختار" و"عزيزة عثمانة" و"محمّد الدغباجي" و"حنّبعل" مشيرًا إلى رفض عدد هامّ من المتساكنين إطلاق اسم "ياسر عرفات" على إحدى السّاحات وعُوّضت التّسمية بعبارة "ساحة حقوق الإنسان".

عادل بالطيّب (كاتب عام بلدية المروج): قلّما يتمّ اقتراح اسم زعيم سياسيّ لتسمية شارع أو نهج دون أن يلقى اعتراضًا من هذه الجهة أو من تلك

من جهة أخرى، أعرض العديد من القاطنين بالمروج السّادس عن اعتماد أسماء الأيمّة في "حيّ الحكّام" ورُفع "فيتو" ضدّ "ابن تيميّة" و"البخاري"، وقُدّمت للبلديّة قائمة أخرى ضمّت أسماء أدباء وفلاسفة وفنانين غربيين مثل "بودلير" و"بالزاك" و"فيكتورهيقو" و"فلوبير" و"موزار"، هذه القائمة لم تَحْظَ بموافقة شقّ آخر، في حين دعا البعض إلى الحفر في الذاكرة العربيّة للبحث عن أعلام من القضاة العرب المتّصفين بالعدل والاعتدال والعلم الغزير.

بصرف النظر عن رجاحة هذه المقترحات المتباينة لا يحتاج المتابع إلى فطنة واجتهاد ليتحقّق من دورالمراجعات الفكريّة والنّقديّة والاختلافات السّياسيّة والإيديولوجيّة في توجيه ردود أفعال المواطنين ودفعهم إلى إبداء مواقف الرفض ورفع "الفيتو" من هنا أو من هناك ضدّ هذه القائمة أو تلك.

المرجِعيّات "المحايدة"

حينما يبلغ الاختلاف في تسمية الأنهج ذروته، يتمّ اللجوء إلى "الأسماء المحايدة" وهي عمليّة أشبه ما تكون بفلسفة الاستئناس بحكومة تتكوّن من "التكنوقراط"، أي من وزراء يتّصفون بالبراءة من الانتماء السياسيّ والعقيدة الإيديولويجيّة.

يختفي الخلاف على حدّ تعبير محدثنا محمّد الصغيّر بالضيافي عند اللجوء في التسميات إلى المرجعيّات الطّبيعيّة أو الفلكيّة أو العلميّة. وقد استأنست العديد من البلديّات بهذه "الأسماء المحايدة" على غرار بلدية المروج حينما لم يختلف المتنازعون حول أسماء "حيّ الزياتين" و"حي شعبان" و"حيّ الرّياض"، إذ اختارت اللجنة للأول أسماء بعض أعلام اللغة كسيبويه والخليل بن أحمد والمبرّد، ورشّحت للثاني أسماء العلماء العرب كالرازي وابن سينا وابن الهيثم، واصطفت للثالث أسماء الورود والرياحين.

يتمّ اللجوء إلى "الأسماء المحايدة" غالبًا لإنهاء الخلاف حول تسمية الأنهج لكن هل تُعدّ معركة الأسماء من بوادر معركة إعادة كتابة التاريخ في تونس؟

وسارت على هذا النحو بلديّات أخرى تجنّبًا للخلافات، فبلديّة المحرس بولاية صفاقس على سبيل المثال خيرت تسمية بعض الأحياء بأسماء الأشجار، كـ"نهج الزيتون" و"نهج الرمّان" و"نهج النخيل".

يتّضح من خلال الاختلافات في تسمية الأنهج والشوارع والسّاحات أنّ هذه العمليّة لم تعد إجراءً بسيطًا أو ترفًا ثقافيًا، إنّما تحوّلت إلى منطقة نزاع إيديولوجيّ. فصح القول إنّ معركة أسماء الشوارع أخطر من معركة المناصب والتعيينات، فنتائجُ المعركة الأولى خالدة عبر الزّمان عالقة في الأذهان قائمة قيام المدن والساحات والبنايات، أمّا نتائجُ المعركة الثانية فهي زائلة بزوال الحكومات، فهل تُعدّ معركة الأسماء من بوادر معركةٍ أخطر هي معركة إعادة كتابة التاريخ في تونس؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الدعوات لإعادة كتابة التاريخ: إنصاف للحقيقة أم تصفية لحسابات سياسية؟

السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية