طالما واجه عديد المعارضين التونسيين من تيارات أيديولوجية مختلفة عقوبة الإعدام طيلة عقود الاستبداد. وهي ارتبطت أساسًا بجرائم أمن الدولة في محاكمات سياسية افتقدت لضمانات المحاكمة العادلة. والعقوبة الأقسى التي تستهدف حقّ الحياة تم تنفيذها واقعًا ضد معارضين للرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وهي إن بات تنفيذها معلّقًا منذ ثلاثة عقود، فهي لا تزال لليوم تستهدف المعارضين السياسيين في تونس على غرار المتهمين في قضية التآمر على أمن الدولة أو قضية "مكتب الضبط" أو قضية التسفير، وغيرها من القضايا المثارة طيلة السنوات الأخيرة.
-
الإعدام.. عقوبة معلّق تنفيذها
ترد عقوبة الإعدام في نصوص عديدة في المجلة الجزائية ومجلة المرافعات والعقوبات العسكرية وقانون مكافحة الإرهاب في تونس. وعدا جرائم الدم كالقتل مع سابقية القصد وقتل الأصول، تتكثّف عقوبة الإعدام في جرائم النظام العام وبالخصوص الجرائم المتعلقة بالاعتداء على أمن الدولة الخارجي وأيضًا المتعلقة بالاعتداء على أمن الدولة الداخلي منها الاعتداء على حياة رئيس الدولة أو الاعتداء لتبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض.
أحكام الإعدام لا تنفّذ في تونس منذ تنفيذ آخر حكم في قضية حق عام سنة 1991، وقبل ذلك التاريخ بلغ عدد الأشخاص الذين نفذ فيهم حكم الإعدام منذ الاستقلال 135 شخصًا من بينهم 129 في عهد الحبيب بورقيبة، العديد منهم في محاكمات سياسية
والحكم الصادر بالإعدام، وعلى خلاف بقية العقوبات، يستلزم موافقة 4 من أصل الأعضاء الخمس للدائرة الجنائية، وهو حكم يفرض أيضًا أن يقع إعلام وزير العدل الذي يعرض الحكم على رئيس الجمهورية لممارسة حقه في العفو، ولا يمكن تنفيذ الحكم إلاّ إذا لم يمنح العفو، وفق الفصل 342 من المجلة الجزائية، وذلك بالنظر لخطورة هذه العقوبة.
وتونس لا تنفذ أحكام الإعدام وذلك منذ تنفيذ آخر حكم في قضية حق عام سنة 1991، وقبل ذلك التاريخ، بلغ عدد الأشخاص الذين نفذ فيهم حكم الإعدام منذ الاستقلال 135 شخصًا من بينهم 129 شخصًا في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، العديد منهم في محاكمات سياسية. هذا ولا تزال الدوائر الجنائية تصدر أحكام الإعدام من ذلك تسجيل 49 حكمًا عام 2022 وفق الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام، لكنّها تبقى أحكامًا معلّقة دون تنفيذ.
ودائمًا ما تطالب المنظمات الحقوقية بتونس بإلغاء هذه العقوبة من المدونة التشريعية، فيما يظهر أنّ رئيس الدولة قيس سعيّد يدعم تنفيذها عندما صرّح، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في سبتمبر 2020، "إن من قتل نفساً بغير حق جزاؤه الإعدام"، وهو تصريح في أعقاب مقتل فتاة في عين زغوان، في قضية أثارت وقتها الرأي العام. وكان قد عبّر سعيّد، قبل تولّيه الرئاسة، دعمه لهذه العقوبة، على خلاف الدعوات الحقوقية المتتابعة لإلغائها.
-
عشرات الإعدامات زمن الاستبداد
هذا وسبق أن تم تنفيذ عشرات الإعدامات زمن الاستبداد في أحكام صدر العديد منها عبر محاكم استثنائية تم إحداثها خصيصًا لمحاكمة المعارضين، ومنها محكمة القضاء العليا التي أرساها الرئيس السابق بورقيبة عام 1956. وهي محكمة خاضعة للسلطة السياسية بشكل مباشر عبر تعيين مجلس الوزراء لرئيسها وتعيين المجلس الوطني التأسيسي لأعضائها. ومن مظاهر تعارضها مع أدنى ضمانات المحاكمة العادلة أن أحكامها كانت غير قابلة للطعن مطلقًا بل يتم تنفيذ أحكامها حينيًا. وقد أصدرت محكمة القضاء العليا بين أفريل/نيسان 1956 وأكتوبر/تشرين الأول 1959، 53 حكمًا بالإعدام نفّذ في 36 متهمًا.
سبق أن تم تنفيذ عشرات الإعدامات زمن الاستبداد في أحكام صدر العديد منها عبر محاكم استثنائية تم إحداثها خصيصًا لمحاكمة المعارضين، ومنها محكمة القضاء العليا التي أرساها بورقيبة عام 1956 وهي محكمة خاضعة للسلطة السياسية بشكل مباشر
تباعًا، تكفّلت المحكمة العسكرية بمحاكمة الضالعين في "المحاولة الانقلابية" عام 1962 وهي محاكمة تمت في زمن قياسي وجيز، إذ تم إيقاف المتهمين بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 1962 ليصدر حكم الإعدام يوم 17 جانفي/يناير 1963 لينفّذ بتاريخ 24 من نفس الشهر.
وأصدرت المحكمة في هذه القضية 13 حكمًا بالإعدام تم تنفيذه بحق 10 متهمين من بينهم القيادي في المقاومة المسلحة ضد الاستعمار لزهر الشرايطي. كما أصدرت بدورها محكمة أمن الدولة بين جويلية/يوليو 1968 وسبتمبر/أيلول 1987، 22 حكمًا بالإعدام استهدفت معارضين سياسيين ونقابيين.
-
وضعية المحكومين بالإعدام زمن بورقيبة
أفرد التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، التي أشرفت على تنفيذ مسار العدالة الانتقالية بين 2014 و2018، عرضًا لوضعية المحكومين بعقوبة الإعدام داخل السجن زمن بورقيبة. إذ يبيّن أن كل سجين يصدر في حقّه حكم بالإعدام يحوّل من المحكمة مباشرة إلى جناح العزل، ثم يتم خلع جميع ملابسه بما فيها ملابسه الداخلية وتقدّم له الإدارة بدلة زرقاء نظيفة، ويتمّ عزله كليًّا عن الفضاء السجني.
ويتمتع المحكوم بالإعدام بزيارة واحدة من العائلة بعد الحكم وزيارة واحدة من المحامي، ثم يعزل تمامًا إذ لم يعد له الحق لا في قفة ولا زيارة ولا رسائل ولا جرائد ولا تلفاز وله الحق في الفسحة الصباحية والمسائية ويقيّد ليلًا من رجله وغالبًا ما يضعون له بعض الأدوية المهدّئة في الطعام وله الحق في زيارة الطبيب، وأحيانًا تقوم الإدارة كمبادرة بجمع بعض الأكل والغلال من قفة المساجين لفائدة المحكومين بالإعدام ويظل على تلك الحال لغاية تنفيذ حكم الإعدام.
كل سجين يصدر في حقّه حكم بالإعدام في عهد بورقيبة يحوّل من المحكمة مباشرة إلى جناح العزل ولا يكون له الحق لا في قفة ولا زيارة ولا رسائل ولا جرائد ولا تلفاز ويقيّد ليلًا من رجله وغالبًا ما يضعون له بعض الأدوية المهدّئة في الطعام
ومن الإشارات التي يستنتج من خلالها السجناء تنفيذ حكم الإعدام، بحسب ما ورد في الصفحة 77 من الجزء الثاني للتقرير المذكور، أنه يتم قطع الضوء على المساجين، إذ أنه في ليلة التنفيذ لا تعلم الإدارة المحكوم، إذ تقوم إدارة السجن دائمًا بتفقّد المحكومين بالإعدام سواءً في الليل أو النهار خشية الإقدام على الانتحار.
كما تعمد الإدارة في ليلة التنفيذ إلى القيام بجولة ثم تترك باب غرفته مفتوحًا، إلى أن صار بعض المساجين يتناقل قدرة أحد الأعوان العجيبة على فتح الباب دون أن يشعر السجين بحركة المفاتيح ثم يهجم عليه ويغطيه ويضبطه بكل قوّة ويقيّده ثمّ يحمله للتنفيذ. هذا وأنّ كل أحكام الإعدام تم تنفيذها سابقًا في سجن 9 أفريل/نيسان بالعاصمة، الذي تم هدمه في وقت لاحق.
-
عقوبة الإعدام تلاحق المعارضين مجددًا: التاريخ يعيد نفسه
يواجه اليوم، في الأثناء، عشرات المعارضين عقوبة الإعدام في المحاكمات التي استهدفتهم بعد 25 جويلية/يوليو 2021، ومن بينهم المتهمون فيما يُعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة" الذين تلاحقهم جرائم تصل عقوبتها للإعدام، ومنهم بالخصوص المعارضين الموقوفين منذ فيفري/شباط 2023 على ذمة هذه القضية وهم محمد خيام التركي، وعبد الحميد الجلاصي، وعصام الشابي، وجوهر بن مبارك، وغازي الشواشي ورضا بالحاج.
يواجه اليوم عشرات المعارضين عقوبة الإعدام ومن بينهم المتهمون فيما يُعرف بقضية "التآمر" وهو ما يبدو كأنه يوحي بعودة عقارب الساعة من جديد على نحو جعل هذه العقوبة العنوان الذي يلاحق قيادات المعارضة تاريخيًا بمختلف انتماءاتها
وكانت قد رفضت محكمة التعقيب بتاريخ 24 ديسمبر/أيلول 2024 الطعن المرفوع أمامها ليُحال الملف تباعًا للدائرة الجنائية المختصة المنتظر أن تبدأ في عقد جلسات المحاكمة العلنية خلال الأسابيع المقبلة.
بدورها، اُحيلت مؤخرًا رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي فيما يُعرف بقضية "مكتب الضبط الرئاسي" على الدائرة الجنائية من أجل جريمة الفصل 72 من المجلة الجزائية (الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم). نفس العقوبة أيضًا يواجهها قيادات من حركة النهضة في قضايا متفرّقة.
المحاكمات الجارية الآن تؤكد منظمات حقوقية على غياب ضمانات المحاكمة العادلة بشأنها وبالخصوص غياب استقلال القضاء في ظلّ واقع سيطرة السلطة التنفيذية على إدارته، ناهيك عن التضييقات التي استهدفت حق الدفاع
وتبدو إحالة معارضين من أجل جرائم عقوبتها الإعدام، وهي جرائم تندرج في خانة التآمر على أمن الدولة، كأنها تنبئ بعودة عقارب الساعة من جديد على نحو جعل هذه العقوبة العنوان الذي يلاحق قيادات المعارضة تاريخيًا بمختلف انتماءاتها السياسية والأيديولوجية. والمحاكمات الجارية الآن تؤكد منظمات حقوقية على غياب ضمانات المحاكمة العادلة بشأنها وبالخصوص غياب استقلال القضاء في ظلّ واقع سيطرة السلطة التنفيذية على إدارته، وذلك دونًا عن التضييقات التي استهدفت حق الدفاع على غرار إثارة تتبعات قضائية ضد عديد المحامين النائبين في هذه المحاكمات ذاتها.