22-ديسمبر-2021

لا تزال الإنترنت مقبولة التدفق ورقمنة التعاملات اليومية للمواطنين مطلبًا نخبويًا، في أقلّ التقديرات، ووعدًا سياسيًا منذ ما يقارب 3 عقود (Getty)

 

كونه من بين هواجس الإنسان الأبدية، مثّل توقّع المستقبل، وتصوّره، أحد الأنماط السينمائيّة الرائجة خلال القرن الـ 20 وحتى الآن. من فيلم فريتز لانغ ميتروبوليس (1927)، Minority report (2002) لستيفن شبيلبرغ والثلاثية الخالدة للأخوين واشفسكي ماتريكس (1999) Matrix، تضمّنت هذه الأفلام وغيرها من الأعمال الأدبية والفنية تصوّرات للمستقبل كالعربات الطائرة، الساعات الناطقة، تقنية التعرّف على الوجوه والأصوات والروبوتات...


إلّا أنّ سقف هذه التصوّرات كان عاليًا رغم التقدّم التكنولوجي المنجز حتّى الآن، ومازالت هذه الأعمال في جزء منها تتصوّر مستقبلًا لم نبلغه بعد. فأغلب التقنيات محلّ تطوير، تدقيق ومتابعة، بما في ذلك الإنترنت، التي ينوي عبرها الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراء الاستشارات "الإلكترونية" المزمع انطلاقها في الفاتح في جانفي/يناير القادم، حسب ما جاء في خطابه الأخير يوم 13 ديسمبر/كانون الاول 2021.

لا يفوتنا أيضًا أن نذكر أن الأعمال المذكورة أنجزت من منطلقات مركزية أميركية-أوروبية، بعيدًا عن الضفة الجنوبية للمتوسطّ وشمال إفريقيا، أين لا تزال الإنترنت مقبولة التدفق، ورقمنة التعاملات اليومية للمواطنين، مطلبًا نخبويًا، في أقلّ التقديرات، ووعدًا سياسيًا منذ ما يقارب ثلاثة عقود، حيث نصّ المخطط العاشر للتنمية (1996) على تعميم الإنترنت، رقمنة الإدارة ودعم شبكة ADSL التي بدأ تسويقها منذ 2002. 

  • قراءة سريعة في الأرقام:

بعد نحو 20 سنة من بداية ترويج شبكة الإنترنت القارة، لم يتجاوز عدد الاشتراكات، حسب التقرير السنوي لمعهد الإحصاء حول مؤشرات البنية الأساسية 2019، معدّل الـ 39.4 اشتراكًا لكلّ أسرة، فيما بلغت كثافة شبكات الإنترنت القارة نسبة 44.6%. في المقابل، تجاوزت نسبة تغطية السكان بخدمات الجيل الثالث والرابع عتبة الـ 92%، مع تفاوت بين-مناطقي طفيف. في المجمل، يمكن اعتبار البنية التحتية للإنترنت في تونس بنية "محترمة"، نوعًا ما، مع تحفّظ حول جودة الخدمات من حيث سرعة التدفّق والاستجابة، في حدود معقولة. 

 لا يكفي توفّر بنية تحتية محترمة للإنترنت للحديث عن حوكمة رقمية في تونس، بل الواقع أنّه يمكن الحديث عن "أمية رقمية" في ظلّ وجود نسبة 17.7% من البالغين يعانون من الأمية في تونس

لكن من جهة أخرى، لا يكفي توفّر بنية تحتية محترمة للإنترنت للحديث عن حوكمة رقمية في تونس، بل الواقع أنّه يمكن الحديث عن "أمية رقمية" في ظلّ وجود نسبة 17.7% من البالغين يعانون من الأمية في تونس، حسب تصريح لوزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد الطرابلسي، يوم 10 سبتمبر/أيلول 2021، بمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية

اقرأ/ي أيضًا: قراءة نقدية أولية في المشروع السياسي لقيس سعيّد..

كذلك، وفق دراسة للبارومتر العربي لسنة 2020، هناك فجوة ديموغرافية، فئوية وجندرية بين مستعملي الإنترنت: من جملة 62% من التونسيين يستعملون الإنترنت يوميًا: 91% فئة 18-29 صرّحوا بأنهم يستعملون الإنترنت يوميًا، في حين 51% من الذين أعمارهم 30 فما فوق صرّحوا أنهم يستعملون بنفس الوتيرة.

الرقم الخطير بين جملة الأرقام التي تطرحها الدراسة هي نسبة الـ 58% من فئة 18-29 سنة الذين يستعملون الإنترنت يوميًا، صرّحوا أنهم يعتمدون مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار العاجلة. ونظرًا لما تمثّله منصّات التواصل الاجتماعي من حقول خصبة للأخبار الزائفة، يحيلنا هذا إلى الدور الذي ستلعبه هذه المنصّات في الاستشارات الإلكترونية. 

  • الأمية الرقمية: 

علي مهنّي (ناشط بالمجتمع المدني) لـ"الترا تونس": عن أي استشارات إلكترونية نتحدّث، إن كان المواطن غير قادر على القيام بخدمات رقمية عادية بمفرده، الشرط الذي يعتبر أساسيًا للقيام بأي تصويت أو استفتاء، سواء مباشر أو عن بعد؟

للحديث أكثر عن الموضوع، قمنا بسؤال الناشط بالمجتمع المدني علي مهنّي، عن رأيه في إجراء استشارات عبر الإنترنت: "أوّلًا وقبل كل شيء، سأروي لك تجربة خاصة. أنتمي إلى مدينة تقع في الجهة الأكثر حظًّا في تونس، الساحل، وتنتمي إلى الولاية الأكثر سعادة، وبالتالي يمكنني أن أعتبر المدينة التي نشأت بها من بين المدن الأكثر حظًّا أو سعادة، أقصد بسعادة أو حظ ما يتوفّر بها من بنية تحتية محترمة، معدّلات بطالة منخفضة، معدّلات الدخل ونسب التمدرس. لكن أتجول في شوارعها، تعترضني مثلًا محلّات تعرض خدمات ترسيم مدرسي، الذي صار يتم عبر الإنترنت، أو استخراج الجواز الصحي بمقابل. رغم أنني أجزم أنّ لكلّ فرد هاتفًا ذكيًا، على الأقل، موصولًا بالإنترنت. فعن أي استشارات إلكترونية نتحدّث، إن كان المواطن غير قادر على القيام بهكذا خدمات بمفرده، الشرط الذي يعتبر أساسيًا للقيام بأي تصويت أو استفتاء، سواء مباشر أو عن بعد؟".

اقرأ/ي أيضًا: الاتصال والسياسة في تونس بعد 25 جويلية: من هم التونسيون ومن يمثّلهم؟

سنة 2009، أقرّت المحكمة الدستورية الألمانية أن مبدأ الشفافية وشروط التعبير عن الإرادة السياسية للناخبين: الحرية، السرية، المباشرة والشاملة، لا يمكن للإنترنت والسلطات ضمانها عبر استعمال الإنترنت. "ستعمّق هذه الممارسة عزلة المهمّشين". هكذا كان تعليق نسيم بن غربية، صحفي بجون أفريك. 

يضيف: "ذكّرتني هذه الاستشارات بما جاء في فيلم I, Daniel Blake للمخرج كان لوتش. الفيلم الذي تناول التحوّل الإداري الذي صاحب التحوّل النيوليبرالي زمن مارغريت تاتشر، عندما قررت إدارة مكاتب الشغل أن تلزم طالبي المساعدات بالقيام بملء الاستمارات لوحدهم، بعد أن كانت هذه الخدمة مجانية ومتوفرة في المكاتب. عمّقت هذه الإجراءات أزمة المهمشين الذي يعانون من صعوبات في القراءة والكتابة والأمية الرقمية، فضلًا عن الذين يعانون من صعوبات إدراكية".

مهنّي لـ"الترا تونس": من أسهل عمليات الاختراق والتشويش في الإنترنت الممكن أن تتعرض لها منصة الاستشارات هي هجوم قطع الخدمة DDos Attack، وهي عبارة قصف خادم الموقع المتسهدف بعدد يتجاوز طاقة تحمّله في نفس الوقت

وفق ما جاء في خطاب الرئيس التونسي، تمتد هذه الاستشارات لمدّة ثلاثة أشهر تقريبًا، بين 1 جانفي/يناير و25 مارس/آذار 2022، ثمّ سيقع على إثر ذلك عقد لجنة تتوّلى التوليف بين المخرجات. عرضًا نتساءل عن مدى شرعية هذه اللجنة، وعن هذا الدور الوصائي الذي تلعبه في تقرير مصير جوانب مهمة في حياة التونسيين. فضلًا عن غياب عوامل المراقبة المستقلة والسلطة المضادة: ما مدى مصداقية هؤلاء المشرفين عن العملية؟ وماهي ضمانات حياد وموضوعية اللجنة؟ تبقى هذه الأسئلة دون إجابات، ما ينسف ديمقراطية عملية التشاور برمتها. 

  • "الأنونيموس" قد يحدّدون ملامح حياة التونسيين:

في وقت كتابة هذه السطور، ساعات قبل دخول المرسوم رقم 1 حيز التنفيذ، الذي بإجبارية الاستظهار بجوازات التلقيح ضد فيروس كورونا في الفضاءات العامة، يشتكي عدد من المواطنين من عدم تمكّنهم من الحصول على جوازاتهم، وصعوبات في النفاذ لمنصة إيفاكس evax الرقمية. صرّح مدير مركز الإعلامية بوزارة الصحة لطفي العلّاني بأن العطب التقني الذي أدّى إلى شلل منظومة إيفاكس يعود إلى ولوج 13 ألف تونسي في الثانية الواحدة. 

اقرأ/ي أيضًا: هل يكون الاستفتاء على تعديل النظام السياسي وجهة قيس سعيّد القادمة؟

حول إمكانية اختراق منصّة الاستشارات التي عرضت الرئاسة لقطات مقتضبة من ملامحها، يعلّق مهنّي قائلًا: "من أسهل عمليات الاختراق والتشويش في الإنترنت هي هجوم قطع الخدمة DDos Attack، وهي عبارة قصف خادم أو خوادم الموقع المتسهدف بعدد يتجاوز طاقة تحمّله في نفس الوقت. إيفاكس مثلا تتحمّل، حسبما أظنّ، حوالي الـ 10 آلاف ولوج في الثانية. للمقارنة، طاقة استيعاب خوادم فيسبوك تبلغ 3 مليارات. هذا النوع من الهجومات يمكن لأي مواطن، عبر برنامج يمكن التحصّل عليه بسهولة، أن يقوم به". 

المحطة الأخيرة في خارطة الطريق التي أعلن عنها سعيّد هي انتخابات تشريعية مبكرة في 17 ديسمبر 2022. ما يعني أنه حسم نتيجة الاستفتاء مسبقًا، ولم يترك، جدلًا، احتمال أن تكون النتيجة مثلًا بقاء قواعد اللعبة السياسية على حالها، أو الإبقاء على برلمان 2019

يستدّل علي مهنّي في هذا السياق بحادثة وقعت سنة 2010 للمغنّي جيستن بيبر، حين أطلق استشارة لمعجبيه لاقتراح البلد الذي يريدون أن يقيم حفلًا به. سويعات بعد ذلك قامت مجموعة أنونيموس، عبر روبوتات إلكترونية، بالاقتراح والتصويت بكثافة لإرسال جيستن بيبر إلى كوريا الشمالية التي يحكمها كيم جونغ أون، الدكتاتور المثير للجدل.

ثم تحوّل التصويت إلى عملية كوميدية هزلية، حيث تناولت شبكات إعلامية على غرار الـ Buzz feed الخبر الذي نشرته تحت عنوان "Justin Bieber: Project North Korea is Best Korea "، وأرفقت الخبر بإرشادات حول كيفية التصويت. بالنهاية، حظي مقترح كوريا الشمالية بأغلبية بلغت حوالي 660 ألف صوت، أكثر ممّا حازه قيس سعيّد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019. 

على أنّنا قد لا نحتاج إلى أنونيموس أو غيرها، ولا إلى استفتاء 25 جويلية/يوليو 2022 بالمناسبة. المحطّة الأخيرة في خارطة الطريق التي أعلن عنها سعيّد هي انتخابات تشريعية مبكّرة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022. ما يعني أنّه حسم نتيجة الاستفتاء مسبقًا، حيث لم يترك، جدلًا، احتمال أن تكون النتيجة مثلًا بقاء قواعد اللعبة السياسية على حالها، أو أن تميل بوصلة المزاج العام نحو الإبقاء على برلمان 2019، أو أن يطلب المستفتون انتخابات رئاسية وتشريعية، أو رئاسية فقط، أو حتّى نظام ملكي، باعتبار أنّ الدستور الذي ينصّ على النظام الجمهوري للدولة وشروط تنظيم الاستفتاء، وقع تعليقه.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس: سعيّد يتجنب كشف أوراقه والمعارضة تتجهز لشهر من الضغط والاحتجاجات

تقدير موقف/ المركز العربي.. خريطة قيس سعيّد: أتحلّ أزمة تونس أم تعمّقها؟