09-يناير-2023
 تونسيون في مقهى

هناك تباين شديد في عديد الألغاز التونسية بين المعجم والمقام الذي يقوم عليه نصّ اللغز (صورة توضيحية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

الأحجية أو اللغز، خطاب وجيز تبدو معانيه للسامع أو القارئ مستغلقة بعيدة عن الأَفهام، ممّا يُحوج المتلقّي إلى التمعّن في العبارة وكدّ الذهن تفكيكًا وتركيبًا وبرهنة حتّى يدرك المقصود.

هذه السمة الفنيّة المميزة للألغاز جعلت حضورها في الحوارات والمحادثات يقترن في الغالب بلون من الاختبار للتحقّق من ذكاء الممتحَن وسرعة بديهته، فلا عجب أن يستأنس بها الجُلساء في المسامرات ويستدعيها المنشطون أحيانًا في برامج المسابقات والمنوّعات.

الألغاز التونسية شأنها شأن الأمثال وبعض الحكم والأغاني التراثيّة ظلّت في الغالب مجهولة المصدر، فهي بمثابة الموروث الجماعي الذي يطغى عليه الطابع الشعبي الشفوي

الألغاز التونسية شأنها شأن الأمثال وبعض الحكم والأغاني التراثيّة ظلّت في الغالب مجهولة المصدر، فهي بمثابة الموروث الجماعي الذي يطغى عليه الطابع الشعبي الشفوي، وهو ما يجعلها عرضة إلى عدّة آفات معرفيّة وثقافيّة منها النسيان والتحريف والزيادة والنقصان والسطو أحيانًا، كأن يحوّلها بعض لصوص الإبداع من سجل الثروة الجماعية الفكرية والجمالية المُشاعة إلى إنتاج فنّي خاص في عمليّة أشبه ما تكون بالاستيلاء على الملك العام.

 

 

تلك الآفات حثّت العديد من الباحثين على تدوين الألغاز والأحجيات، فتمّ إغناء المدوّنة التونسية بأعمال جادّة تنبئ مضامينها عن مجهود محمود في التجميع والتأليف والبحث والتقصّي منها كتاب "ألعابنا وأحاجينا في ذاكرة الزمان"، المنشور سنة 1996 عن مكتبة البستان طرابلس وقم ضمّ ألغازًا يمكن عدّها من الموروث المشترك بين القطرين الليبي والتونسي.

ومن الأعمال التي تمحّضت للأحاجي التونسية عدد خاصّ بمهرجان دوز الدولي من مجلة صدى الصحراء صدر في ديسمبر/كانون الأول 1997، هذا فضلًا عن كتاب الألغاز الشعبية التونسية لحسن مبارك، وقد اعتمد فيه الكاتب على عدد من الأعمال المدونة فضلًا عن بعض الرواة من ولاية قبلي.

  • سفور العبارة وحجاب المقصد

السمة اللغويّة المميزة للأحجيات التونسية هو خلوها تمامًا من المفردات المستعصية والألفاظ الحوشيّة، فنصوص الألغاز كلماتها بسيطة تبدو قريبة المَأخذ فهمًا وتداولاً، خاصّة بالنسبة إلى الناطقين باللهجة المحليّة، لتأكيد ذلك نعرض في هذا المقام ثلاثة أمثلة:

المثال الأول: جانا ضيفْ وضيّفناه، فرحنا بيه وكتِّفناه

المثال الثاني: يهبط يشطح (= يرقص)  يطلع يبكي

المثال الثالث: ميّت والنار تشعل فيه، زوز شادينه وثلاثة يتفرجو فيه.

هذه النصوص الوجيزة تشدّ إليها السامع، فتغويه بأنّ المعنى يسير فتراه يبحث عن الحلّ يحركه دافع التحدّي والتوهّم بأنّ المقصد وثيق الصلة بالملفوظ، لكنّه سرعان ما يشعر بصعوبة الأمر هذا شأن اللغز دائمًا ظاهره قريب وباطنه بعيد، هذه الوضعية الحرجة التي يقع فيها الباحث تتضح من خلال أوضح التعريفات الاصطلاحية للألغاز وهي " جمع لغز، وأصله الحفرة الملتوية يحفرها اليربوع والضب والفأر؛ لأن هذه الدواب تحفر جحرها مستقيمًا إلى أسفل ثم تحفر في جانب منه طريقًا وفي الجانب الآخر طريقًا، وكذلك في الجانب الثالث والرابع، فإذا طلب بعضَها البدويُّ بعصاه من جانبٍ نفق (= أفلت)من الجانب الآخر. ثم استعملوه/ اللغز في الإتيان بالعبارة يدل ظاهرها على غير الموصوف بها ويدل باطنها عليه".

لو أعدنا النظر في الأمثلة المذكورة لوجدنا أنّ ظاهر اللفظ فيها يمارس ضربًا من التعمية ودفع الممتحَن إلى النظر في مجال أبعد ما يكون عن دائرة الحل، فالأحجية الأولى تبدو طريفة فهي تثير الدهشة في السامع، فسلوك المتكلم الجمع (نحن) قائم على التناقض، بين حسن وفادة الضيف وإكرامه (ضيفناه، فرحنا به) ثم ينتهي الأمر إلى تقييده من يديه وساقيه (كتفناه)، ويذهب قلق الممتحن حينما يعرف أنّ المقصود هو المولود الجديد الذي يتمّ لفّه بما يسمّى "القماطه" في أيامه الأولى وفق التقاليد الصحية التقليدية.

 

 

المثال الثاني حلّه يبدو أبعد ما يكون عن ذهن القارئ فمن الصعب أن يربط المتلقي بين فعل الرقص وحركة الدلو وهو ينزل فارغًا في البئر متدليًا متحرّكًا حركة خفيفة يمنة ويسرة ثم يصعد ملآنًا يقطر الماء من جبناته كمن يبكي. ما يهمّنا في هذا اللغز وغيره هو التباين الشديد بين المعجم والمقام الذي يقوم عليه نصّ اللغز (الرقص والبكاء) والصورة التي نسج منها الحل (حركة الدلو في البئر صعودًا ونزولًا).

هناك تباين شديد في عديد الألغاز التونسية بين المعجم والمقام الذي يقوم عليه نصّ اللغز

ينطبق ما قلناه حول اللغزين السابقين على اللغز الثالث وحلّه السيجارة التي يمسك بها المدخن بإصبعين الوسطى والسبابة وهي تتجه في يد صاحبها شيئًا فشيئًا نحو الفناء والأصابع الثلاثة من اليد في موضع المتفرّج (في مشهد قتل)، في هذه الحالة من الصعب على الناظر التفطن إلى الحل إلا إذا كان يملك كفاءة عالية على الربط بين عوالم ومجالات متباعدة وهو من أوكد وجوه الطرافة في الأحجية ومن أدق ما ينبغي أن يهتدي إليه الممتحن وهو يعالج لغزًا يتّصف بطابع أدبي فني يبدو أكثر وعورة والتواء من حفرة الضبّ واليربوع.

  • شعريّة الإيقاع والعبارة

يصنّف بعض الدارسين الألغاز ضمن "الأشكال الأدبيّة الوجيزة" شأنها شأن النادرة والحكاية المثليّة وغيرها، وللتحققّ من أدبيّة هذه النصوص المتميزة نظرنا في إيقاعها وبعض أساليب التعبير فيها فاهتدينا إلى أنّها تتّصف بشعريّة مخصوصة تتشكّل إيقاعًا وبديعًا وبيانًا.

يصنّف بعض الدارسين الألغاز ضمن "الأشكال الأدبيّة الوجيزة" شأنها شأن النادرة والحكاية المثليّة وغيرها ونلاحظ أن الألغاز التونسية تتّصف بشعريّة مخصوصة تتشكّل إيقاعًا وبديعًا وبيانًا

أمّا على مستوى الإيقاع فيمكن التفطّن بيسر إلى قيام جلّ نصوص الألغاز التونسيّة على وحدة الرويّ، يمكن إقامة الدليل على صدقيّة هذا الحكم الفنيّ من خلال ثلاث أحجيات.

  • الأولى ميميّة، تتّصل بعدد أشهر السنة وأيام الأسبوع وأيام السنة، نصّها:

"ثمّه راجل بلا جسمْ وفيه أثناش اسمْ

سبعة وثلاث ميّة وخمسة وستين قسم"

  • الأحجية الثانية داليّة ترتبط بالواد الذي يمنع الأهالي من المرور، جاء فيها:

"عبد الصمدْ،

جاء للثنيهْ وتمدْ

وقال ما يتعدّى حدْ"

  • اللغز الثالث رويّه الراء يصوّر عشرة رجال جلسوا إلى طاولة طعام ممتلئة فانتهت الوليمة بقصعة فارغة وبطون مكتنزة، عبّرت الأحجية عن هذا المشهد بالملفوظ التالي:

"على ناقتنا الصفراء، داروا بيها جْمال كبارْ

هي طلعت حايل* ، وهُمَ طعلو عشار"* ( حايل= كلمة نصفُ بها الحيوانات التي لم تحبل) (عشار في اللهجة التونسية جمع عُشره = كلمة نصِف بها المواشي عند الحمل).

إيقاع الأحاجي لم يتجسّد فقط بالرويّ إنّما تسجّد كذلك بالتكرار والاشتقاق والجناس والسجع وغيرها من الصيغ الصرفيّة والتراكيب النحويّة والأساليب البديعيّة لتأكيد ذلك يمكن أن نعرض مثالين:

  • الأوّل: حول الماء في جوف الأرض (ثروة ربانية) والبئر الذي يتمّ حفره (فعل بشريّ)

"علِّي خْلقْ قْبل باباه . وهو في بطن أمّو متخبّي، باباه صنعة يْدين وهو خْليقة ربيّ"

  • المثال الثاني يرتبط بالميزان الذي نحتكم إليه رغم أنه ليس بقاض

"علّي هو قاضي، والحاجة بيه تقضتْ، عُمرو ما كان قاضي والرْعيه بيه رْضِتْ"

تبلغ الأحجيات ذروة الشعريّة في الألغاز التي نظمها شعراء معروفون باللون الشعبي في مقاطع تخضع إلى مقتضيات الوزن والقافية، من أعلامها عبد النبي بن زنون وأخوه بوزيان من ولاية سيدي بوزيد ومحمد الغضبان أصيل منطقة المحرس

تبلغ الأحاجي ذروة الشعريّة في الألغاز التي نظمها شعراء معروفون باللون الشعبي في مقاطع تخضع إلى مقتضيات الوزن والقافية، من أعلامها عبد النبي بن زنون وأخوه بوزيان من ولاية سيدي بوزيد ومحمد الغضبان أصيل منطقة المحرس بصفاقس وغيرهم وقد أورد لهم صاحب كتاب الألغاز الشعبية التونسية شذرات من أعمالهم.

 

 

  • الأحاجي وصورة التونسي "الخبزيست"

حينما تفتح كتب الأحاجي الشرقيّة خاصّة تلك التي تعود إلى الفترة الأمويّة والعصر العباسي تجد أنّها مفتوحة على أبواب شتّى تتّصل بالمأكل والمشرب والطبيعة والدين والكفر والإيمان والحلال والحرام والسياسة والسلم والحرب والفكر والوجود والمذاهب وغيرها من المجالات.

الأحاجي التونسيّة تبدو في أغلبها مقترنة بثلاثة مجالات وثيقة الصلة بالحياة اليومية الشعبية البسيطة وهي المأكل والمشرب، العناصر المتّصلة بالبيت والمطبخ  والعناصر المرتبطة بالطبيعة والجسد البشري

أمّا الأحاجي التونسيّة فقد بدت في أغلبها مقترنة بثلاثة مجالات وثيقة الصلة بالحياة اليومية الشعبية البسيطة، ففي كتاب الألغاز الشعبية المذكور في مقدمة التحليل أحصينا من 326 نصًّا ثمانية وسبعين أحجية تتّصل بالمأكل والمشرب أي بنسبة تقارب 24 في المائة، ومن عناصرها البيض والسمك والشاي والقهوة والعنب والباذنجان والقرع والرمان والدلاع والتين الشوكي وغيرها.

عن البيض جاء في الأحجية "جنين يطلع من جنين" (= فرخ الدجاج / الجنين الثاني يطلع من البيضة/ الجنين الأول) وعن الدجاجة قيل: عبانه (= عباءة) فوق عبانه من تحت الركبه عريانه (جسد الدجاجة تغطيه طبقات من الريش) وساقها عارية.

وفي مرتبة ثانية من حيث تواتر الألغاز تحضر العناصر المتّصلة بالبيت والمطبخ وما فيه من لوازم وقد بلغ عدد الأحجيات في هذا الباب 49 أي بنسبة 15 في المائة من مجموع الألغاز في المرجع المذكور، ومن تلك العناصر نذكر الفنجان وبراد الشاي والمصباح النفطي والحصير والمكنسة والغربال ومغزل الصوف والفأس، وعن الفأس قيل "علّي ماضي نابه عطوه مْرا (= امرأة) دار على نسابه (يعني تم وصله بعصا خشبية فأصبح يقطع الخشب من بقية الأشجار).

في المرتبة الثالثة، تحلّ العناصر المتعلقة بالطبيعة عددها 36 أي بنسبة 11 في المائة أهمها الشمس والقمر ونبتة الحلفاء والنهر والنخلة..عن الشمس والقمر جاء في إحدى الأحجيات: "على زوز خبزات (= كناية عن الاستدارة) في الدار الدايمه وحده تتاكل (= تؤكل) بالأنصاف والأخرى تقعد صايمة (= كاملة).

وفي المرتبة الرابعة يحضر 15 عنصرًا مرتبطًا بالجسد البشري  لا في بعده الجنسي أو الجمالي إنما في بعده الوظيفي كالعين والوجه والأسنان والأصابع...عن ثدي الأم قيل "على شجرة النز (التي يتسرب منها سائل) والنز خارج من راسها باسوها ملوك وسلاطين وحتى النبي باس راسها (كناية عن فعل الرضاع من ثدي الأم). 

مقابل هذا الكمّ الوفير للعناصر المرتبطة بالمأكل والبيت والطبيعة والجسد لا يتعدّى حضور المعاني ذات الصلة بالحرب العنصرين فقط هما السيف والبندقية ولا تحضر البندقية في معنى المواجهة والقتال إنما تحضر في مقام وصفي خالص نصّه "على طِير طيّار أقوى من لحجار بدنه حديد وقلبو نار (قطعة حديد فيها البارود) وقس على ذلك السيف الذي أُفرغ من  شحنته الحماسية ومن دلالة التحرير وإحقاق الحق فوصف وصفًا باهتًا يكاد يخلو من رمزيته الأصلية يتّضح هذا في نصّ الأحجية "على شي بْرق برق (= يلمع) وتخبى (تم إخفاؤه) بين الورق (الغمد الذي يوضع فيه السيف).

من خلال هذا العرض المشفوع بأمثلة متنوّعة يمكن الانتهاء إلى استنتاجين في حاجة إلى الدعم بمقاربات أخرى:

  • أوّلها يتمثل في أن الأحجية لا تستمدّ طرافتها من معانيها بقدر ما تستمدها من شعريتها وطرائق تعبيرها وسماتها الفنية.
  • ثانيها مداره على البعد المحافظ للأحجية ففضلًا عن التصاقها بما هو حياتي يومي (المنزل ، الأكل ، الطبيعة ) تخلو من الجرأة في طرح المواضيع ممّا يوحي بأن واضعيها قد اختاروا مسارًَا سلوكيًا يطلب أصحابه السلامة والأمان ويتجلى ذلك في الإعراض عن الخوض ولو إيحاءً في المسائل الخلافية ذات البعد الأخلاقي أو الديني أو السياسي أو المذهبي.

الأحجية التونسية الشعبية تحركها عقلية "الخبزيست" الذي لا يعنيه إلا الشأن المتعلق بما يضمن الحياة في زهد وسكينة بعيدًا عن المواجهة والصراع

الأحجية التونسية الشعبية تحركها عقلية "الخبزيست" الذي لا يعنيه إلا الشأن المتعلق بما يضمن الحياة في زهد وسكينة بعيدًا عن المواجهة والصراع.

ختامًا يمكن القول إن ما دوّن من الأحاجي والألغاز نهض على مجهودات لا يستطيع أن ينكرها إلا الناقد الجاحد لكنّ هذه الأعمال تظلّ مفتقرة إلى المتابعة والتعمّق والتوسّع فهي في الغالب تفتقر إلى التدقيق والتبويب والتصنيف، وفي كلّ الأحوال هي في أمسّ الحاجة إلى البحوث المعمّقة والدراسات الأكاديميّة وورشات علمية جماعيّة فتكون  المعالجة من مداخل مختلفة منها النقد الأدبيّ وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من الاختصاصات.