رأي

الأجسام الوسيطة وضمان توازن السلط.. المحامون مثالًا

25 سبتمبر 2025
الأجسام الوسيطة وضمان توازن السلط.. المحامون مثالًا
تونس التي تشهد تبرّمًا عامًا من السياسة، لا تزال نخبتها تجد كالعادة جيوبًا للعمل السياسي داخل منظماتها (تصميم الترا تونس)
طارق الكحلاوي
طارق الكحلاويأكاديمي وناشط سياسي من تونس

مقال رأي 


مثلما هو الحال عبر التاريخ المعاصر للبلاد، فإنّ تراجع الحياة الحزبية يؤدي إلى تركز أنظار ما تبقى من النخبة المعنية بالشأن العام والسياسة نحو التنافس السياسي في الأطر الجمعياتية وخاصة المنظمات الكبرى. هناك طبعًا المنظمات المنفتحة أكثر تاريخيًا على استقبال "اللجوء السياسي" للعمل الحزبي أو المستقل بما في ذلك المعارض، وهي أساسًا وليس حصرًا الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين -خاصة منصب العمادة- والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وثلاثتهم معنيّون بحركية انتخابية داخلية مفصلية في النصف الأخير من هذا العام، والثلث الأول من العام القادم. 

سنركز هنا على هيئة المحامين وخاصة مغزى وآثار الاتجاه العام للانتخابات كما تبيّن في انتخاب عميد المحامين الجديد بوبكر بالثابت بوصف جسم المحامين نموذجًا على حركية "الأجسام الوسيطة". وسنناقش هنا في العمق، جدوى هذا المصطلح، الذي لا تحبذه بعض هذه المنظمات، ودور هذه الهيئات في إحداث توازنات تسمح في العمق وبشكل هيكلي بخلق ظروف مواتية لحالة ديمقراطية. 

من الواضح أنّ "المنظمات الوطنية" لحقها وصم عام في سياق تجربة الانتقال الديمقراطي بأنها كانت تدافع عن مصالح خاصة، بغض النظر عن دقة هذا الوصم من عدمه

ظهر مصطلح "الهيئات الوسيطة" (corps intermédiaires) في فرنسا الملكية الشمولية أواخر مرحلة ما قبل الثورة، لكنه لم يُطرح بشكل إيجابي بل كان وصفًا شديد السلبية، أطلقه آن روبرت جاك تورغو (توفي في 1781)، الاقتصادي الفيزيوقراطي الذي تولى الإشراف العام على المالية في فرنسا (1774-1777). كان تورغو ورفاقه من الفيزيوقراطيين يتصوّرون "نظامًا طبيعيًا" يخضع لقانون العرض والطلب، وتديره دولة مركزية قوية تُقرّر الإصلاحات العقلانية مباشرة، من غير عراقيل. وفي نظرهم كانت النقابات المهنية، والبرلمانات الإقليمية القضائية، والنبلاء المحليون الذين يتمتعون بامتيازات خاصة، جدران عازلة فاسدة وأنانية تعيق تدفّق التجارة والمواهب وتصدّ إرادة الملك الإصلاحية. لذلك أطلق عليها تورغو وصف "الهيئات الوسيطة"، واعتبرها عقبات يجب إزالتها ليقيم علاقة مباشرة بين الدولة السيادية ومواطنيها الأفراد. 

لكن شيئًا فشيئًا، أصبح المفهوم مرتبطًا بقوة بنظرية الديمقراطية (democratic theory)، وسيشتهر مثلًا ألكسيس دي توكفيل في كتابه المرجعي "الديمقراطية في أميركا" (1840)، بدفاعه عنها كأساس ضروري للتأسيس الديمقراطي. ولاحظ توكفيل الدور الحيوي للجمعيات في الحياة الأمريكية، ولم تكن بالنسبة إليه الهيئات الوسيطة - البلديات، الجمعيات المدنية، الصحف، هيئات المحلفين - عوائق أمام الديمقراطية بل كانت مدارسها الأساسية. إذ تمنع "طغيان الأغلبية"، وتعلم المواطنين كيفية استخدام الحرية، وكانت بمثابة حاجز ضد إمكانية ظهور استبداد ديمقراطي جديد حيث يحكم أفراد معزولون من قبل دولة قوية مهيمنة. وفي وقت لاحق حاججت حنة أرندت في كتابها "في أصول الشمولية" (1951) كيف دمرت الأنظمة النازية والستالينية بشكل منهجي جميع الهيئات الوسيطة (النقابات، الأحزاب، الأندية) لعزل الفرد وجعله مرتهنًا بشكل كامل بالدولة وإيديولوجيا السلطة القائمة ووفيًا لها فقط. 

ورغم ذلك، يجب الإقرار بأن مفهوم "الأجسام الوسيطة" يطرح معضلة أساسية، أين يقف دور تمثيل قطاعات وفئات محددة تجاه الدولة ومن ثمة خلق حالة إنضاج صناعة القرار عبر مسار حواري؟ وأين تصبح تعبيرًا عن "مصالح قطاعية" أو "مجموعة ضغط خاصة" تساهم في مسار ينفرد بالرأي ويعارض في الجوهر الحالة الديمقراطية؟ في نهاية الأمر، الإشكال الأساسي هو إلى أي مدى تسمح "الأجسام الوسيطة" بترسيخ الديمقراطية أو بتقويضها. النهج الشعبوي، مهما كانت خلفيته الإيديولوجية، الذي يؤمن بالأساس بثنائية الشعب الصالح في مواجهة النخب الطالحة، لا يرتاح البتة لفكرة "الوساطة" هذه ويعتبرها التفافًا إمّا على علاقة الشعب المباشرة مع الزعيم في الحالة الشعبوية التسلطية، أو عقبة أمام "الديمقراطية المباشرة" في حالة الشعبوية الانتخابية أو الديمقراطية. 

نحن إزاء مرحلة تصعيد قادمة على الأرجح بين قطاع المحاماة والسلطة من غير الواضح كيف سيكون أفقها النهائي. ويحدث ذلك على خلفية علاقة صعبة أخرى بين السلطة وأهم جسم وسيط أي اتحاد الشغل

ومن الواضح أنّ "المنظمات الوطنية" لحقها وصم عام في سياق تجربة الانتقال الديمقراطي بأنها كانت تدافع عن مصالح خاصة، بغض النظر عن دقة هذا الوصم من عدمه. المحامون مثلًا وبسبب انخراطهم القوي في الشأن السياسي على مستوى قيادي في الدولة سواء السلطة التنفيذية أو البرلمان، ومرور قوانين بدت كأنها تقدم امتيازات خاصة بهم، تعرضوا أيضًا إلى هذا الوصم. ولهذا كان من البيّن أن المهجة العامة للمحامين مباشرة إثر 25 جويلية/يوليو اتجهت إلى التبرؤ من السياسية تحت عنوان "السياسوية" واختارت في انتخابات سبتمبر/أيلول 2021 قيادة متعاطفة وقريبة من السلطة السياسية، تجنبت وضع الحقوق والحريات كأولوية.

كان صعود العميد بوبكر بالثابت من الدور الأول بأكثر من ألفي صوت من جملة حوالي أربعة آلاف ناخب، تعبيرًا عن تغيّر مهجة عموم المحامين. تعزز هذا الاتجاه بصعود تقريب نصف أعضاء الهيئة من ذات التوجه العام "المستقل" وأيضًا عدد من فروع المحامين، خاصة منها أكبرها أي هيئة جهة تونس. ركزت العمادة وهيئتها في السنوات الأخيرة على المهني ولم تحرص بما يكفي على الحقوقي، بل بدت فيه مترددة وضعيفة. حاول العميد حاتم المزيو التركيز على المهني المنفعي لكنه واجه تجاهل السلطة الحالية التي تتجنب عمومًا التواصل مع "الأجسام الوسيطة" حتى عندما تكون موالية (لم يستسغ هذا التعبير في حوار معه في إذاعة ديوان أف أم واعتبر القطاع "ركنًا من أركان الدولة" في حين هو توصيف لوضع قائم). فخسر المنفعة المهنية والمبدئية الحقوقية معًا. 

اقرأ/ي أيضًا: العميد حاتم المزيو.. أكثر من مجرّد خذلان أو كشف حساب للتاريخ

يبقى أنه لا يجب المبالغة في النهج الجديد، فصعود العميد بالثابت، الذي لا شك أنه أكثر وضوحًا في التزامه الحقوقي ونهجه المستقل مقارنة بالعميد مزيو، ناتج عن تحالف واسع بين ميول سياسية متفاوتة تصل حتى التناقض، وظهر ذلك في نتائج الهيئة الوطنية للمحامين. وكل عميد وهيئة معنية بتحقيق نتائج لقطاعها خاصة أنه قطاع كبير نسبيًا (10 آلاف محام) وأصبح يواجه في العقد الأخير صعوبات اجتماعية حقيقية بالنسبة لأغلب أعضائه كمثال على حالة التفقير العامة للطبقة الوسطى. وكانت تلك دائمًا الجزرة التي تحاول السلطة ترويض القطاع بها. فقط هذه سلطة مختلفة ليست معنية في العموم بالترتيبات والتسويات، على الأقل عندما تكون في موقع قوة ولا تزال كذلك. لهذا نحن إزاء مرحلة تصعيد قادمة على الأرجح بين قطاع المحاماة والسلطة من غير الواضح كيف سيكون أفقها النهائي. ويحدث ذلك على خلفية علاقة صعبة أخرى بين السلطة وأهم جسم وسيط أي اتحاد الشغل. 

من المثير أنّ الأخير الذي سيكون معنيًا بانتخابات في مارس/آذار 2026 سارع من خلال قيادته الحالية إلى تهنئة وزيارة العميد الجديد، المعروف بعلاقته القريبة منذ عقود بالمنظمة الشغيلة. هنا لن يكون من المبالغة أن تؤثر الأجواء "الاستقلالية" في المحاماة على أجواء الانتخابات الداخلية في الاتحاد، والمهجة العامة فيه قبيل مؤتمره القادم، إن لم تتجه الأمور للتصعيد عمومًا بينه وبين السلطة، على خلفية الإضرابات القطاعية خاصة منها في قطاع التربية (من المتوقع في أكتوبر/تشرين الأول على الأقل إضراب في قطاع التعليم الأساسي).

حاول حاتم المزيو التركيز على المهني المنفعي لكنه واجه تجاهل السلطة الحالية التي تتجنب عمومًا التواصل مع "الأجسام الوسيطة" حتى عندما تكون موالية.. فخسر المنفعة المهنية والمبدئية الحقوقية معًا

هناك أيضًا مؤتمر متوقع للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والتي تشهد تجاذبًا داخليًا وصل لصراعات معلنة بين توجهين أحدهما أكثر مسافة من السلطة والآخر أكثر قربًا منها، يعكس الصراع داخل اليسار التونسي وانقسامه في خصوص السلطة السياسية الحالية. ومن الواضح أنّ المحامين المنخرطين في الرابطة، كانوا في انتخابات المحامين في مواقع متباينة بما يؤشر على طبيعة المعركة القادمة في الرابطة. 

في كل الحالات، فإن تونس التي تشهد تبرّمًا عامًا من السياسة، لاتزال كالعادة تجد نخبتها جيوبًا للعمل السياسي في منظماتها. يبقى أنه لا يمكن مقارنة الوضع الحالي مع ما قبل 2011. نحن إزاء جروح عميقة نتاجًا لصراعات العشرية الماضية. خاصة الهوة العميقة بين "الأجسام" وقاعدتها الاجتماعية الواسعة، وتردد هذه القاعدة إزاء أي عمل سياسي بالصيغ والوجوه التقليدية. لكنها تبقى الأمل الوحيد في الظروف الحالية، وفي ظل غياب حركات اجتماعية مؤطرة وقادرة على التعبئة في صفوف الشباب العاطل، في إحداث بعض التوازن مع السلطة. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

الكلمات المفتاحية

التآمر فتحي بلعيد أ ف ب Getty

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟

لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم


أحمد صواب الشاذلي بن إبراهيم NurPhoto Getty

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!

"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"


أحمد صواب غيتي Nur photo

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة

"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."


التعليم في تونس القايدي.jpg

الإصلاح التربوي في تونس وعطالة الزمنيْن المدرسي والاجتماعي

ذهبت الدراسات إلى أن سوء التصرف في الزمن المدرسي يتسبب في استشراء العنف في الوسط المدرسي وهو فعلًا ما تعيشه المدرسة في تونس في السنوات الأخيرة

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي
اقتصاد

تونس توقّع اتفاق تمويل مع البنك الدولي بـ430 مليون دولار لدعم التحول الطاقي

البنك الدولي: يساعد المشروع على خفض تكاليف إمدادات الكهرباء بنسبة 23%، وتحسين نسبة استرداد تكاليف الشركة التونسية للكهرباء والغاز من 60 إلى 80%

أيام قرطاج المسرحية 2025.. عروض متنوعة ويحيى الفخراني في الافتتاح
ثقافة وفنون

أيام قرطاج المسرحية 2025.. يحيى الفخراني والفاضل الجعايبي في الافتتاح

تتضمن برمجة هذه الدورة من أيام قرطاج المسرحية، 12 عرضًا ضمن المسابقة الرسمية، و15 عرضًا في قسم "مسرح العالم"، و16 عرضًا تونسيًا، و6 عروض عربية وإفريقية


تعرف على قيمة الزكاة في الزيتون والتمر
مجتمع

تعرّف على نصاب زكاة الزيتون والتمر في تونس للعام الهجري 1447

أعلن ديوان الإفتاء في تونس، يوم الخميس 13 نوفمبر 2025 عن نصاب زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار للموسم الفلاحي الحالي 1447هـ ـ 2025 م، وذلك مواكبة لانطلاق موسم جني الثمار، وفق بلاغ له

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس
سیاسة

هيئة المحامين: إنشاء مرصد لمتابعة احترام معايير المحاكمة العادلة في تونس

عقدت الهيئة الوطنية للمحامين بتونس جلسة عامة إخبارية في دار المحامي، يوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 بدعوة من العميد بوبكر بالثابت، أكدت خلالها على ضرورة حضور جميع الجلسات والترافع لضمان حضور المتهمين شخصيًا في قاعات المحاكم، مع رفض المحاكمات عن بعد لما تفتقر إليه من شروط قانونية، وتعد انتهاكاً لمبدأ المحاكمة العادلة عبر حرمان المتهم من الدفاع دون مبرر قانوني

الأكثر قراءة

1
میدیا

زياد دبار: تعليق نشاط جمعية "نواة" سابقة خطيرة وهو قرار سياسي مغلف بقرار إداري


2
اقتصاد

حوار| مستشار جبائي: ضغط جبائي مرتفع وتشجيع الاستثمار غائب في مشروع قانون المالية 2026


3
سیاسة

هيئة الدفاع: فتح تحقيق إداري في الاعتداء على جوهر بن مبارك بعد نقله للمستشفى


4
سیاسة

أحزاب تونسية: إدانة للتنكيل الممنهج بالسجناء السياسيين ودعوة لإطلاق سراحهم


5
سیاسة

تأخير النظر مجددًا في القضية الاستعجالية لإيقاف نشاط الوحدات الملوثة بقابس