14-أبريل-2017

احتجاجات سابقة في تونس (كريستوفر فيرلونغ/Getty)

احتجاجات شعبية وإضرابات منذ أيامٍ في محافظة تطاوين أكبر المحافظات التونسية مساحة، والواقعة جنوبي البلاد، واحتجاجات أخرى بولاية الكاف في الشمال الغربي، ويوم غضبٍ في ولاية القيروان في الوسط؛ هكذا توزّع الغضب الشعبي على مختلف مناطق البلاد للمطالبة بالحق في التنمية والتشغيل، ولتكون الحكومة التونسية في مواجهة امتحان جديدٍ أمام هذه الاحتجاجات، وذلك في ظل أزمة اقتصادية خانقة توازيها أزمة السلطة الحاكمة مع تصاعد حرب المواقع داخل الحزب الحاكم، وتأسيس "جبهة الإنقاذ والتقدم" المعارضة.

توزعَ الغضب الشعبي التونسي على حوالي 15 محافظة، للمطالبة بالحق في التنمية والتشغيل

وتأتي الاحتجاجات الشعبية في المحافظات الثلاث المذكورة، الأكثر تعبئة حتى الآن، غير أنها ليست الوحيدة، لتكشف خارطة لانتشار الاحتجاجات، نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والمدنية، ذكر فيها أن 15 محافظة من إجمالي 24 محافظة عرفت ما لا يقلّ عن 20 حركة احتجاجية خلال شهر آذار/مارس فقط.

احتجاجات شعبية تطالب بحق التنمية

يمثل هتاف "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" التعبيرة المؤسّسة للاحتجاجات التونسية والحراك الثوري، والذي انطلق في محافظة سيدي بوزيد الداخلية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، حيث مثّلت المطالبة بالحقوق الاجتماعية، وعلى رأسها الحق في التنمية والتشغيل، الأرضية الممهّدة لاحقًا لهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، الذي مثّل التعبيرة الثانية الحاملة للحراك الثوري، فيما أكد على العلاقة العضوية بين الاستبداد واستفحال الفساد من جهة، مع التهميش وانتشار البطالة من جهة أخرى.

وتعكس الاحتجاجات الشعبية في عديد المحافظات حاليًا، بصفة أولى استمرار الاحتقان الاجتماعي في ظلّ عدم معاينة المواطنين لتحسّن الأوضاع الاجتماعية، كما تعكس، من جانب آخر، ثقل مخلّفات الأزمة الاقتصادية على الجوانب الاجتماعية، في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة على أنّ القطاع العمومي غير قادر على استيعاب البطالة، مؤكدة أنّ الخلاص بالقطاع الخاص، في الوقت الذي لازالت فيه أرقام الاستثمار متواضعة.

اقرأ/ي أيضًا: ما هي ملامح الأزمة بين حكومة تونس و"اتحاد الشغل"؟

ففي محافظة الكاف، انطلقت الاحتجاجات الأخيرة بعد قرار المستثمر الأجنبي بإغلاق معمل لصنع كوابل السيارات، وتسريح عماله الذين يقدر عددهم بالمئات، ليدخل العمال اعتصامًا مفتوحًا بمدخل المحافظة، لقي دعمًا من المواطنين والاتحاد الجهوي للشغل، قبل أن يتطور الوضع لحالة احتقان واحتجاجات مطالبة بالتشغيل ورفع التهميش عن المنطقة.

وتمثّل التنمية حقًا جوهريًا عملت الترسانة القانونية بعد الثورة على تضمينه، إذ نصّ دستور 2014 على اعتماد الدولة مبدأ التمييز الإيجابي بين الجهات، كما اعتبر قانون العدالة الانتقالية المناطق المهمّشة زمن الاستبداد "مناطق ضحيّة"، وعليه لم يكن من قبيل الصدفة أن تندلع الثورة من هذه المناطق، وأن تنتشر فيها الاحتجاجات مجدّدا حاليًا، ليظلّ تحقيق العدالة الاجتماعية وتكريس التمييز الإيجابي للمناطق المهمشة، الكابوس الدائم لكل الحكومات بعد الثورة. في النهاية، يتعلق الرهان بتفعيل المنجز النظري على الأرض.

ومع الاحتجاجات الأخيرة، يتزايد الضغط على الحكومة، بخاصة مع تنظّم هذه الاحتجاجات ضمن أُطر متجاوزة للحساسيات السياسية، ومن ذلك تنسيقية اعتصام تطاوين المتكوّنة من الشباب المحتجين، إذ يمثل هذا الإطار التنظيمي حاليًا الناطق الرسمي باسم الحراك الاحتجاجي في المحافظة. وفي هذا الجانب، انعقد في شهر آذار/مارس المنقضي مؤتمر وطني للحركات الاجتماعية، ضمّ جميع الأطر التنظيمية المستوعبة للحراك الاحتجاجي، حيث تناولت ضبط برامجها وكيفية التنسيق بينها.

يظل تحقيق العدالة الاجتماعية الكابوس الدائم لكل الحكومات بعد الثورة، وفي النهاية يتعلق الرهان بتفعيل المنجز النظري على الأرض

لا يكشف ذلك فقط عن عدم قدرة الأحزاب على استيعاب الحراك الاحتجاجي، بل كذلك على سعي المحتجين على تنظيم تحركاتهم ضمن إطار النضال المدني، بعيدًا عن المجال السياسي الحزبي، وبخاصة لإبعاد تهمة استغلال الأحزاب المعارضة لهم. على سبيل المثال في تطاوين، يعتبر المحتجون أن الطابع المدني والسلمي لاحتجاجهم، وقطعهم للطريق مع استثناء السيارات الفردية، وفرض إضراب سلمي، هو نقطة قوة لصالحهم، وذلك استباقًا لاتهامات بالتخريب والإخلال بالأمن، ذلك أن تطاوين هي بوابة تونس نحو الحدود الصحراوية مع ليبيا والجزائر، والتي تنشط فيها مجموعات التهريب والحركات الإرهابية.

عائدات الثروات الطبيعية.. حقٌ آخر مغبون

الجزائر وليبيا المجاورتان هما من أكبر دول العالم إنتاجًا للنفط والغاز الطبيعي، على خلاف تونس غير الغنيّة بثروات طبيعية مقارنة بهما، وقد جعل هذا المعطى الأولّي والمعلوم ما سُميّ الاستثمار في العقل التونسي أو "المادّة الشّخمة" كما كان يردّد دائما الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إحدى الأسس المتخيّلة في الخطاب السياسي للدولة طيلة عقود.

غير أن المعطى الأولّي الوارد من باب المقارنة مع الجارتين، لا يخفي معطى مكمّلًا وربما غير معلوم، وهو أن تونس من أكبر دول العالم إنتاجًا لعدّة موارد طبيعية. وللمفارقة فإن أكثر الأقاليم حرمانًا وتهميشًا هي الأكثر ثراء من حيث الموارد الطبيعية، وهو ما زاد في التتابع من الشعور بالغبن في المناطق المنتجة لهذه الثورات مع عدم تمتعها بعائداتها، في ظلّ تصاعد الحملات من أجل كشف الشبكات الاقتصادية المحلية، بل والدولية، المتورّطة فيما يصفه المواطنون بعمليات نهب مستمرّة منذ عقود.

وبخصوص هذه الثروات، فتونس من أكبر دول إنتاج الفوسفات، إذ بلغت المرتبة الثانية في الإنتاج العالمي قبل الثورة. ويتواجد الفوسفات في ولاية قفصة جنوب غرب البلاد، والتي عرفت "انتفاضة الحوض المنجمي" سنة 2008، للمطالبة بحق المنطقة بعائدات ثرواتها، وهي انتفاضة واجهها نظام بن علي بقمع شديد خلف مئات القتلى والجرحى والمعتقلين.

كما تنتج تونس كميات كبيرة من الملح أو "الذهب الأبيض" كما يُسمّى، يُوجّه أكثر من 90% منه للخارج، ويشوب عقود استغلال هذه المادة الكثير من شبهات الفساد، بخاصة وقد كشفت تحقيقات صحفية استقصائية عن استغلال شركة فرنسية لمقاطع الإنتاج بصفة شبه مجانية عبر عقود ممضاة منذ فترة الاحتلال الفرنسي. كما تنتج تونس كميات من النفط، تشوب رُخَص تنقيبه واستغلاله شبهات فساد أيضًا، وكانت قد انطلقت سنة 2015 حملة شعبية بعنوان "وينو البترول؟" (أين البترول)، لمطالبة الحكومة بكشف حقيقة الموارد النفطية في البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: مشاريع تونس الكبرى.. الوعود المنتظرة

إضافة لذلك، تمتلك تونس ثاني أكبر احتياطي في العالم لمادة الجبس، ويتواجد تحديدًا في ولاية تطاوين، التي فشلت الوفود الحكومية في إخماد احتجاجاتها الأخيرة، حيث يمنع المحتجون، ضمن تحركاتهم منذ أسبوعين، مرور الشاحنات التابعة للشركات المستغلّة للنفط والجبس.

وبذلك يتوازى تهميش الدولة في المركز للجهات الأطراف في المجال التونسي، وهو تهميش تؤكده الأرقام والإحصائيات المقارنة، مع شعور متنام بالغبن عبر سوء استغلال الثروات الطبيعية في المناطق الداخلية والجنوب، لحساب شبكات اقتصادية محليّة مرتبطة بالطبقة السياسية الحاكمة.

عدم الثقة في الحكومة.. أو مربط الفرس

"لا توجد عصا سحرية لتحسين الأوضاع، ولكن نحن ملتزمون بإعطاء الأولوية للمناطق المهمشة"، هذه الخلاصة المكثّفة لخطاب الدّولة في مواجهة مختلف الاحتجاجات الشعبية، وهو خطاب لم ينجح بعد في امتصاص غضب المحتجين، ليكون الحديث عن الثقة وهو مربط الفرس، إذ ينبني الخطاب الاحتجاجي لدى المواطنين، والمعبّر عنه سواء في المظاهرات أو في الاجتماعات مع وفود الحكومة، على عدم تحقيق الطبقة السياسية الحاكمة لوعودها الانتخابية.

في هذا الجانب، حفلت البرامج الحزبية في الانتخابات الماضية، بوعود بدت كمفاتيح نحو الجنّة، ومنها تحديدًا وعود حزب نداء تونس الحاكم، إذ أعلن الحزب في خضم حملته الانتخابية التشريعية والرئاسية أنه أعد برنامجًا اقتصاديًا صاغه 200 خبير، يتضمّن تخصيص 50 مليار دينار (22 مليار دولار) لدفع التنمية بالجهات عبر بعث قطب صناعي بكل محافظة.

ويتذكر التونسيون خروج الرئيس الباجي قايد السبسي إبان حملته الانتخابية أمام سوق للخضروات وقوله وهو يبكي، إنّ "التونسي لم يعد يقدر على تعبئة موارده الأساسية اليومية". ثمّ بعد مرور نصف العهدة، تبيّن لجزء كبير من التونسيين، أن كثيرًا من الوعود لم تكن إلا زائفة، وعلى هذه "الخديعة" يؤكد المحتجون عدم ثقتهم في الوعود الحكومية الأخيرة، ومنها التسريع في نسق المشاريع التنموية وأولوية الانتدابات لشباب المنطقة.

ويتعاظم شعور المواطنين بعدم الثقة في الحكومة، من خلال تصاعد الخلافات الداخلية والاتهامات المتبادلة داخل حزب نداء تونس الذي يهيمن على المناصب السيادية الثلاث، وهي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان. فالحزب الذي وعد بـ"إنقاذ تونس" قبل ثلاث سنوات، بات هو الآن في حاجة إلى عملية إنقاذ، بل إن الجناح المتمرد داخل الحزب انضم مُؤخرًا إلى "جبهة الإنقاذ والتقدم"، وهي أكبر تشكيلات المعارضة تمثيلًا في البرلمان.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد نداء تونس؟

بالتالي لا يرى المحتجون سلطة جديّة ومسؤولة يمكن منحها الثقة، فمؤخرًا انضمّ قياديان بارزان في نظام بن علي للحزب الحاكم، وهما برهان بسيّس الذي كان المتحدث غير الرسمي لنظام بن علي في وسائل الإعلام العربية، وسمير العبيدي آخر وزير اتصال قبل الثورة. ولا يخدم هذا الصعود البارز، بخاصة لشخصيتين بهذا الثقل الرمزي في الذاكرة الجماعية التونسية، الرسالة التي تريد الحكومة تبليغها اليوم، وهي المضي في التغيير والقطع مع السياسات القديمة.

يتعاظم شعور المواطنين بعدم الثقة في الحكومة، من خلال تصاعد الخلافات الداخلية والاتهامات المتبادلة داخل حزب نداء تونس الحاكم

ولعلّ فقدان عنصر الثقة يتأكد مع عدم قدرة الحكومة على الاقناع ببرامجها الأخيرة، التي حرصت على الترويج الإعلامي لها، حيث تتزامن الاحتجاجات الأخيرة مع انطلاق تنفيذ ثلاثة برامج حكومية، تمثّل العناوين الأساسية للبرنامج الاقتصادي والاجتماعي لحكومة يوسف الشاهد، إذ أطلقت برنامج "عقد الكرامة"، الذي يهدف لتشغيل 25 ألف طالب شغل، كما انطلق بداية شهر نيسان/أبريل الجاري تفعيل قانون الاستثمار الجديد، الذي تعوّل عليه الحكومة لاستقطاب المستثمرين التونسيين والأجانب.

كذلك صادق البرلمان قبل يومين على المخطط التنموي "تونس 2016-2020"، والذي يمثّل السياسة الاقتصادية والتنموية للدولة في الجهات. ورغم هذه البرامج التي تعوّل عليها الحكومة لتأكيد مضيها في دفع التنمية والاستثمار، فإنها ظلّت عاجزة عن إقناع المحتجين بمختلف الجهات بجديتها.

كما تمثل مكافحة الفساد نقطة حاسمة في تقييم مستوى الثقة، حيث سبق وأعلن رئيس الحكومة الحرب على الفساد، نظرًا لضريبته المكلفة على النمو الاقتصادي في البلاد، غير أنه قبل شهر، اٌقيل عبيد البريكي وزير الوظيفة العمومية والحوكمة، المكلّف بمكافحة الفساد، والذي صرّح في ندوة صحفية لاحقًا، بأن الحكومة متواطئة مع فاسدين، وكاشف بأنه لا توجد إرادة سياسية لمكافحة الفساد، وهو ما زاد في متاعب الحكومة في مجهود كسبها للثقة.

سنّة الاحتجاجات ومخاض التأسيس

في النهاية، باتت الاحتجاجات الشعبية سنّة دورية في حركية المجال العامّ بعد الثورة التونسية، وتظلّ الخشية دائمًا لدى الطبقة السياسية من انفلات الأوضاع، حيث تُستذكر جيدّا احتجاجات كانون الثاني/يناير 2016، وهي أعنف احتجاجات منذ الثورة فرضت إعلان حظر التجوّل، بما مثّلته كإنذار على حتمية تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لتخفيض الاحتقان المتصاعد في المناطق المهمّشة.

إذ تمثّل الاحتجاجات الأخيرة امتحانًا جديدًا أمام الحكومة، ليست فقط بما هي نتاج أزمة اقتصادية واجتماعية، بل بما هي في جانب منها عاكسة لأزمة حكم، بما يشمل مدى شرعية الفاعل السياسي الحاكم، بل وكذلك مدى قدرة سياساته الاقتصادية والاجتماعية على تأمين تحقيق التنمية الموعودة وعدم إعادة انتاج اللاعدالة الاجتماعية.

ولعلّ كلمة السرّ المعوّل عليها هي السلطة المحليّة، مع انتظار تنظيم الانتخابات البلدية نهاية السنة الجارية، فيما قد تمثّله من فرصة أولًا لتعزيز الشراكة المواطنية في الفعل السياسي والتنموي المحليّ، وثانيًا في تجديد شرعية وتمثيلية المسؤولين المحليّين، بيد أنه تظلّ الخشية دائمًا من عدم قدرة المجال السياسي الفاعل بأدواته المؤسساتية بعد الثورة، في احتواء واستيعاب حراك المجال المحلّي المهمّش والمنتفض. اختصارًا، هو مخاض تأسيس لم ينته بعد وما زالت آفاقه غير بيّنة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عزمي بشارة: "الإجابة لا تزال تونس"

ما هو تاريخ عيد الثورة في تونس؟