30-نوفمبر-2024
شارع الحبيب بورقيبة تونس

(صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب) ليس من الصعب أن نلاحظ حالة الدهشة وربما أيضًا الصدمة التي بات عليها وضع الطيف المعارض في تونس

مقال رأي 

 

ليس من الصعب أن نلاحظ حالة الدهشة وربما أيضًا الصدمة التي بات عليها وضع الطيف المعارض بأجنحته المختلفة وكذلك المجتمع المدني في تونس خاصة منه اتحاد الشغل وشبكة المنظمات التي قامت بتحركات قبيل الانتخابات. لهذه الدهشة أسبابها، التي سنأتي عليها، لكن إلى متى ستتواصل أمام هيمنة الرئيس التونسي قيس سعيّد على المشهد السياسي، ليس فقط بإجراءات تسلطية، بل أيضًا من حيث النشاط والحركية؟

حالة الصمت العامة الملفتة في أوساط المعارضة وأهم المنظمات المدنية والنقابية ليست ناتجة عن نفس الأسباب، هناك أسباب خصوصية سنأتي على بعضها، لكن هناك أسباب عامة تشمل أغلبها. وأهمها أن حالة موازين القوى بينها وبين السلطة تشهد اختلالاً متواصلاً وبلغت ذروتها في الانتخابات الأخيرة.

حالة الصمت العامة الملفتة في أوساط المعارضة وأهم المنظمات المدنية والنقابية ليست ناتجة عن نفس الأسباب، هناك أسباب خصوصية لكن هناك أسباب عامة وأهمها أن حالة موازين القوى بينها وبين السلطة تشهد اختلالاً متواصلاً

من الواضح طبعًا أن سقف التوقعات وخطة المعارضات وأيضًا نخبة المجتمع المدني التي كانت مؤثرة في الأحداث بهذه الدرجة أو تلك وتراجع تأثيرها منذ 25 جويلية 2021، وخاصة اعتقادها أننا إزاء "قوسين" سيتم غلقهما بشكل سريع هو أحد أهم أسباب الإحباط الحالي الذي أدى إلى الدهشة.

كانت توجهات مختلف الأطراف المعارضة من مواقع مختلفة سياسية ومدنية لتوجهات سلطة قيس سعيّد تتفق عمومًا في مقاطعة الإجراءات التي قدمها الرئيس بوصفها "إصلاحية"، خاصة منها محطات الاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات المتعلقة بالغرفتين. غير أن هذا التوجه لتجاهل مسار واقعي في تركيز نظام جديد، لم يستطع تجاهل محطة الانتخابات الرئاسية، بوصفها في نهاية الأمر "نزالاً" جديًا على معقل السلطة. فضلاً عن أن هذا الوعي بأهمية هذه المحطة رافقه ارتباك في اتخاذ موقف إزاءها، ومن ثمة تأخر في إعداد تصور مشترك لها. وبقيت الأطراف المختلفة تلاحق الأحداث في حين يمسك قيس سعيّد بزمام المبادرة.

الوعي بأهمية محطة الانتخابات الرئاسية رافقه ارتباك في اتخاذ موقف إزاءها، ومن ثمة تأخر في إعداد تصور مشترك لها، فبقيت الأطراف المعارضة في تونس تلاحق الأحداث في حين يمسك سعيّد بزمام المبادرة

مثلما سبق أن قلت في خصوص الدروس المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، فإن المقاربة التسلطية التي حاصرت مجال الرأي خاصة عبر تمرير وتفعيل المرسوم 54، وأيضًا التشديد والفرز السياسوي للمرشحين المحتملين، لا يمكن ألا يجعل أي معني بالمشهد يقر بنجاح الرئيس في استقدام نحو مليونين والنصف من الناخبين إلى المسار الانتخابي، وتصويت أغلبهم لفائدته، وهذا تحديدًا ما مثل مصدرًا أساسيًا للإحباط. وحتى ظهور خطاب هجائي علني ومستتر تجاه الشعب عمومًا، وتعبيرات من نوع "هنيئًا لهم به".

طبعًا ليس ذلك الدرس المأمول من أي فاعل سياسي. الشعب ليس فئة واحدة، وغالبيته النشيطة سياسيًا وانتخابيًا وقفت إلى جانب الثورة والنخبة السياسية الجديدة، ومنحت الفرصة تلو الأخرى، قبل الاتجاه نحو ردود الفعل الشعبوية الغاضبة برفع "كارت أصفر" تجاه نخبة ما بعد الثورة في انتخابات 2019، ثم آخر أحمر في 25 جويلية 2021.

هذا السياق العام الذي يمكن أن يفسر الدهشة العامة. ولو اتجهنا بالتفصيل إلى كل طرف يمكن إبداء الملاحظات التالية:

أولاً، كانت حركة النهضة، بوصفها الطرف الأساسي الذي بقي في قلب السلطة، طيلة "عشرية الانتقال" مرمى هدف ردة الفعل الشعبوية الغاضبة. ورغم أننا لسنا إزاء حملة استئصال شاملة مثلما حدث بداية التسعينيات فإننا إزاء حالة تعطل وتشتت في القيادة والقدرة على التأثير وأيضًا القدرة على التعبئة. الآن الحركة بلا أمانة عامة، رغم استمرار هياكلها المركزية من مكتب تنفيذي ومجلس شورى. وهي الآن تدار على الأرجح من قبل قيادات مؤثرة أكثر في الخارج منه في الداخل مع وجود أهم قيادات النهضة في الداخل في السجن.

ثانيًا، "الطيف الديمقراطي" ومنه "تنسيقية القوى الديمقراطية"، لم تعلن أي مواقف منذ الانتخابات وتواصل الصمت حتى الآن. ورغم ميل معظمها للمقاطعة فإن عددًا غير قليل من ناشطيها أو قواعدها نشطوا في حملات انتخابية لمرشحين محتملين أو قائمين، بما يعكس هشاشة في تأمين مواقف تنظيمية موحدة.

تحالف "الطيف الديمقراطي" مع أطراف من المجتمع المدني "شبكة الحقوق والحريات" أحدث حركية نسبية ذات طابع نخبوي أساسًا مباشرة قبل الانتخابات لكن لم يكن لها أفق خطة سياسية عملية لما بعد الانتخابات

واختارت في الأثناء تشكيل تحالف مع أطراف من المجتمع المدني "شبكة الحقوق والحريات" لكسر الحصار على النخبة السياسية، والاستفادة من الزخم القليل لكن القائم وأيضًا من "طزاجة" جزء من المجتمع المدني. هذا التوجه أحدث حركية نسبية ذات طابع نخبوي أساسًا مباشرة قبل الانتخابات لكن لم يكن لها أفق خطة سياسية عملية لما بعد الانتخابات.

ثالثًا، كانت المنظمة الشغيلة أحد أهم الأمثلة على حالة الرتابة العامة التي ميزت الوضع السياسي الراهن، حيث انتقلت من طرف نشيط وفاعل يساهم في صياغة الحياة السياسية بل يصل حد المساهمة في تشكيل الحكومات، إلى طرف منكفئ على نفسه خاصة تحت وطأة خلافات داخلية تشق قيادته المركزية وأيضًا أهم اتحاداته الجهوية مثلما اتضح في مجلسه الوطني خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي.

وكانت الرسالة الأخيرة للأمين العام المساعد المكلف بالدراسات أنور بن قدور أحد آخر الأمثلة على أن المنظمة لن تستطيع استعادة زمام المبادرة دون حل خلافها الداخلي، وإعادة تجديد قيادتها بما يسمح باستعادة ثقة منخرطيها وقواعدها.

انتقلت المنظمة الشغيلة من طرف نشيط وفاعل يساهم في صياغة الحياة السياسية في تونس إلى طرف منكفئ على نفسه خاصة تحت وطأة خلافات داخلية تشق قيادته المركزية وأيضًا أهم اتحاداته الجهوية

في كل الحالات فإن تواصل حالة الدهشة الحالية لا يعني صمتًا مطبقًا، هناك محاولات محدودة لكن مهمة لأطراف ومنظمات شبابية بعيدة عن الإطار النخبوي السائد، لا تزال تنشط على غرار أنشطة منظمة "آلارت" و"مؤتمر الحركات الاجتماعية" التابع للمنتدى الاقتصادي الاجتماعي والتي تشير إلى أن الركود الحالي يخفي مؤشرات ربما لتجديد ما في الإطار النخبوي. وفي كل الحالات أيضًا ليس من المصلحة العليا للبلاد أن تكون البلاد في حالة عطالة سياسية.

بكل تأكيد الرئيس معني بتفعيل مرحلة "البناء والتشييد" والتي على رأسها "انعاش اقتصادي" من أهم وسائله تنشيط المشاريع المعطلة ولكن أيضًا التركيز على دور "الشركات الأهلية" في تنشيط الحركة الاقتصادية، وهي إطار لم يثبت حتى الآن جدواه، في انتظار تمدد نشاطه والاستفادة من التمويلات العمومية التي يمكن أن تصل إلى مليون دينار في المستقبل للشركة الواحدة.

كل الملفات العملية التي تمثل عصب أداء الدولة لا تجلب أي تعليق أو مقترحات بديلة من المعارضة التونسية وتلك إحدى أهم مؤشرات دهشتها الحالية

يبقى أن هذه الأهداف العامة وخاصة الخطاب الذي يركز على دور الدولة الاجتماعية بخلفية حنين واضح للستينيات، تواجه واقعيًا ارتباكًا في حل مشكلات أساسية مثل توفير مواد أساسية لمائدة التونسي وتأمين نجاح موسم جني الزيتون وإنتاج زيت الزيتون.

هذا الملف الأخير تحديدًا يمثل نموذجًا على التناقض بين مجهود "مكافحة الفساد" الذي ساهم في خلق حالة رهبة بين المستثمرين الخواص التقليديين وبالتالي ابتعادهم عن السوق وعدم استعداد ديوان الزيت حتى الآن لملأ الفراغ.

في المقابل كل هذه الملفات العملية التي تمثل عصب أداء الدولة لا تجلب أي تعليق أو مقترحات بديلة من المعارضة. وتلك إحدى أهم مؤشرات دهشتها الحالية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت" 

 

تلغرام