مقال رأي
حينما بدأت العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل المنضوية تحت المعارضة السورية في تحرير مدن البلاد من النظام الأسدي، والتي انتهت بإسقاطه لتطوي صفحة أحد أكثر الأنظمة العربية دموية ووحشية، اختارت وزارة الخارجية التونسية أن تندّد، في بيان رسمي، بما أسمتها "الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا" معربة عن التضامن التام مع "الجمهورية العربية السورية".
تلاحقت تباعًا الأحداث بتحرير مدن حلب فحماة فدرعا فحمص وأخيرًا دمشق في زمن قياسي بعد الانهيار السريع لقوات النظام وفرار رئيسه. سارع حلفاء النظام وتحديدًا روسيا وإيران باستيعاب التطورات وتأكيد فتح قنوات اتصال مع "المعارضة السورية".
اختارت الدبلوماسية التونسية أن تخطئ المرمى فما أسمتها "الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا" سجلها التاريخ، بالنسبة لملايين السوريين الداعمين للثورة، عملية تحريرٍ للبلاد من نظام وحشي مارس أشنع انتهاكات حقوق الإنسان
هي صفحة جديدة بانتصار الثورة، التي انطلقت ذات مارس/آذار 2011، استتباعًا للحراك الثوري العربي بعد ثورة تونس، وهو انتصار على الأقل في هدف إسقاط نظام الحكم الذي ثار الناس ضده، لتبدأ بالتبعية مرحلة انتقال ديمقراطي يجري حاليًا تحديد ملامحها وسط طغيان خطاب الحذر بعد دروس الثورات المغدورة في بلاد العرب.
لكن في هكذا لحظة تاريخية، اختارت الدبلوماسية التونسية أن تخطئ المرمى فـ"الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا" سجلها التاريخ، بالنسبة لملايين السوريين الداعمين للثورة، عملية تحرير للبلاد من نظام وحشي مارس أشنع انتهاكات حقوق الإنسان، وليس المسلخ البشري بسجن "صيدنايا" إلا مثالًا، وستكشف قادم الأيام فصول من هذه الوحشية التي تمت ممارستها بالحديد والنار على أجساد الأبرياء على مدى عقود، وليس فقط بعد 2011.
والضياع الثابت لبوصلة الدبلوماسية التونسية مأتاه الخروج عن جادّة الموقف المبدئي لتونس الثورة التي أطلقت وهج الثورات العربية بعنوان الحرية والكرامة وشجّعت السوريين بالذات للخروج للشارع قبل 14 عامًا، فكان المفترض أن تتصدّر حكومتها صفوف الواجهة العربية الرسمية الداعمة لمطالب السوريين، وعلى الأقل أن تحافظ على مسافة دون تورّط مع النظام الدموي، وذلك بدل أن تستعير خطابه التخويني كاعتبار العمليات العسكرية لفصائل المعارضة بأنها "هجمات إرهابية".
الضياع الثابت لبوصلة الدبلوماسية التونسية مأتاه الخروج عن جادّة الموقف المبدئي لتونس الثورة التي أطلقت وهج الثورات العربية بعنوان الحرية والكرامة وشجّعت السوريين بالذات للخروج للشارع قبل 14 عامًا
بلاغ الخارجية للأسف سيظلّ وصمة عار في جبين السلطة في تونس التي كانت فجر الثورة السورية منخرطةً في تبني حق السوريين في بناء دولة ديمقراطية حافظة للحقوق والحريات. ولن ينسى السوريون استقبال تونس في فيفري/شباط 2012 لمؤتمر أصدقاء سوريا الذي تمسّك خلاله الرئيس السابق المنصف المرزوقي، للتاريخ، برفضه تسليح أي طرف معارض التزامًا بضرورة حقن الدماء وإيجاد حلّ سياسي. وهو الحلّ الذي رفضه النظام الأسدي الذي ابتدع في تخوين معارضيه وتعذيبهم، مستعينًا بقوات أجنبية ليفرض سنوات طويلة من الاحتراب متمسكًا بالسلطة قبل أن يغادر هاربًا مع عائلته إلى روسيا.
وكان مؤسفًا بعد قطع تونس لعلاقاتها الرسمية مع النظام الأسدي إثر طرد السفير عام 2012 أن تدشّن، قبل عام فقط من سقوط هذا النظام، أي العام الماضي، تطبيع العلاقات بشكل كامل معه على مستوى السفراء، بتسمية سفير تونسي في دمشق مع إعادة فتح السفارة السورية، وذلك دون الأخذ بعين الاعتبار لمجازره الدموية وتجاهل مطلق للثورة السورية، وأيضًا في غياب أي مصالح ناجعة معه سواءً على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
كان مؤسفًا بعد قطع تونس لعلاقاتها الرسمية مع النظام الأسدي إثر طرد السفير عام 2012 أن تدشّن، قبل عام فقط من سقوط هذا النظام، تطبيع العلاقات بشكل كامل معه على مستوى السفراء دون الأخذ بعين الاعتبار لمجازره الدموية وتجاهل مطلق للثورة السورية
كان تبرير هذا التطبيع في تصريح رئاسي هو أن "مسألة النظام تهم السوريين وحدهم، وأن تونس تتعامل مع الدولة السورية ولا دخل لها إطلاقًا في اختيارات الشعب السوري" وكأن النظام الأسدي، الجاثم على السوريين، هو نتيجة اختيار ديمقراطي شعبي من السوريين، أو كأنّ بشار الأسد هو الرئيس الشرعي المنتخب بنسبة 95 في المائة في انتخابات 2021 الصورية والمثيرة للسخرية! الموقف التونسي الرسمي مسجّل منذ عام 2012، ولم يكن المطلوب أكثر من مواصلة تبنّيه، ولكن الرجوع عنه إلى درجة تطبيع العلاقات بشكل كامل مع النظام الأسدي قبل عام واحد من إسقاطه، هو نقطة سوداء في تاريخ الدبلوماسية التونسية.
ولكن لضياع البوصلة وجهًا آخر أيضًا هو بما يكشفه بلاغ الخارجية من سوء استشراف وسوء تقدير سياسي ودبلوماسي للتطورات في سوريا، فلا يُظنّ أن الخارجية ذهبت لاستدعاء التوصيف "الإرهابي" ضد فصائل ستدخل بعد أيام لدمشق دون أي مواجهة تذكر من قوات نظام رمت سلاحها، كان يُنتظر ألا توجهه ضد المتظاهرين منذ البداية. نعم، لم يكن الاستشراف يسيرًا على نحو أن التطورات فاجأت عديد الدول ناهيك عن المراقبين عن قرب كذلك، ولكن كان المطلوب من الخارجية، على الأقل، التروّي في قراءة التطورات وعدم المسارعة إلى إصدار بلاغ.
الدبلوماسية تقتضي التروّي، خاصة وأن الأحداث الميدانية في سوريا كانت متسارعة.. بالنهاية، تونس ليست دولة مؤثرة أو ذات ثقل في الملف السوري حتى تسارع لإصدار موقف رسمي متطابق مع الخطاب الرسمي للنظام الأسدي!
فالدبلوماسية تقتضي التروّي، خاصة وأن الأحداث الميدانية في سوريا كانت متسارعة، فعشرة أيام فقط فصلت بين بدء عملية "ردع العدوان" في الشمال السوري وإسقاط النظام في دمشق. بالنهاية، تونس ليست دولة مؤثرة أو ذات ثقل في الملف السوري حتى تسارع لإصدار موقف رسمي متطابق مع الخطاب الرسمي للنظام الأسدي!
ثم وبعد إسقاط النظام من قلب دمشق يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، الذي حفظه السوريون يومًا لتحرير بلدهم من وحشية عائلة دموية حكمت البلاد بالحديد والنار منذ ما يزيد عن نصف قرن، اختارت القناة الوطنية في نشرة الأخبار الرسمية، في نفس ذات اليوم، في تغطيتها للتطورات عنوانًا هو "المسلحون يستولون على الحكم". والمعلوم أن لفظ "المسلحون" مدلوله سلبي وكأن الأمر يتعلق بقطّاع طرق مارقين على الدولة، دونًا عمّا يحمله لفظ الاستيلاء أيضًا على مدلول سلبي وكأن من كان في الحكم هو صاحب حق تم الاستيلاء عليه. واختارت القناة الرسمية استدعاء محلّل لم يتردّد، دون أي تنسيب حتّى، في اعتبار أن من أسقط النظام هي فصائل تابعة للتحالف الصهيوأمريكي، وكلّ ذلك في تغييب للخلفية الثورية للحراك السوري برمّته.
كان من الضروري على الخارجية تصحيح الموقف وإصدار بلاغ يبارك للسوريين إسقاطهم النظام، ويؤكد أن تونس داعمة لحقهم في بناء دولة وطنية ديمقراطية بعيدًا عن أي تدخلات خارجية من أي طرف كان
طبعًا، بقدر الاحتفاء بإسقاط النظام الدموي لتبدأ صفحة انتقال سلمي المأمول أن يكون مثمرًا للسوريين، بقدر ما يكون مشروعًا خطاب الحذر بوضع التطورات السورية في سياقها الإقليمي خاصة بالتزامن مع تصاعد المخططات الصهيونية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، ناهيك عن ضرورة اليقظة من تصيّد المجاميع المتطرفة والإرهابية في جغرافيا سوريا لفرصة ما بما تمثله من تهديد لعديد البلدان بينها تونس التي طالما اكتوت بنار الإرهاب.
كلّ ذلك لا يجب أن يجعل تونس الرسمية تضيّع البوصلة، وتسجّل للأسف موقفًا مثيرًا للخجل فجر تحرير سوريا من النظام الأسدي. لكن تبقى هناك دائمًا فرصة للتدارك، فحلفاء النظام العضويون كروسيا وإيران سرعان ما تبرؤوا من النظام وفتحوا قنوات اتصال مع المعارضة، وبات علم استقلال سوريا، وهو علم الثورة، يسود جميع سفاراتهم في الخارج.
كان لافتًا للانتباه في البلاغ الصادر عن الخارجية التونسية غداة إسقاط النظام الأسدي، استعمال عبارة "الجمهورية العربية السورية"، وهو الاسم الرسمي للدولة زمن النظام "البائد"، والحال أنه كان من الأفضل استعمال لفظ محايد كاسم البلد أي سوريا
ولذلك كان من الضروري على الخارجية تصحيح الموقف وإصدار بلاغ يبارك للسوريين إسقاطهم النظام، ويؤكد أن تونس داعمة لحقهم في بناء دولة وطنية ديمقراطية بعيدًا عن أي تدخلات خارجية من أي طرف كان. وهذا ضروري ليس فقط بمنطق مبدئي فقط ولكن أيضًا بمنظور مستقبل العلاقات الرسمية مع السلطات الجديدة في دمشق.
وصدر، كما المنتظر، بلاغ من الخارجية لاحقًا تصدّرته مسألة تأمين سلامة الشعب السوري والحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها مع دعوة "الأطراف السورية" إلى "التلاحم وتغليب المصلحة العليا" وتأمين انتقال سياسي سلمي "يحفظ الدولة واستمراريتها ويلبي تطلعات الشعب السوري وحده".
كان لافتًا للانتباه استعمال البلاغ عبارة "الجمهورية العربية السورية"، وهو الاسم الرسمي للدولة زمن النظام "البائد"، والحال أنه كان من الأفضل استعمال لفظ محايد كاسم البلد أي سوريا، خاصة وأنّه المنتظر اعتماد اسم جديد للدولة في المستقبل. وكان واضحًا أيضًا استدعاء البلاغ بطريقة ضمنية لحرج تطبيع العلاقات مع النظام قبل عام بإشارة للزوم التمييز بين الدولة والنظام السياسي القائم، وهو فصل هشّ ومصطنع واقعًا لأنه لا يخفي طبيعة الموقف الرسمي من أي نظام في كل الأحوال.
ظهر بلاغ الخارجية التونسية في نهاية المطاف باردًا باللغة الدبلوماسية متفاديًا توجيه أي عبارات احتفاء أو تهنئة للسوريين وابتدأ بالتركيز على مسألة سلامة الشعب ووحدة الدولة، بما يعكس طابعه الحذر وكأنه يتعاطى مع أزمة بدرجة أولى في الجوهر
ظهر البلاغ في نهاية المطاف باردًا باللغة الدبلوماسية متفاديًا توجيه أي عبارات احتفاء أو تهنئة للسوريين، أو الحديث بشكل واضح صريح للمطلبية التأسيسية للحراك الثوري، أي الحرية والكرامة، وذلك بالاكتفاء بإشارة يتيمة لـ"تطلعات الشعب السوري"، خاصة وقد ابتدأ البلاغ بالتركيز على مسألة سلامة الشعب ووحدة الدولة، بما يعكس طابعه الحذر وكأنه يتعاطى مع أزمة بدرجة أولى في الجوهر. بلاغ كان ضروريًا لتصويب البوصلة ولو بعض الشيء، لكنّه لم يحقّق الغاية كما يجب لأن البوصلة ظلّت منحرفة في العمق.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"