30-نوفمبر-2024
سوق ليبيا المنستير

استفاق متساكنو المنستير في 26 نوفمبر 2024 على صوت الجرافات وهي تقوم بإزالة الأكشاك القصديرية في "سوق ليبيا" بعد سنوات من النشاط

 

تحركت الجرافات والشاحنات في فجر يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وسط مدينة المنستير لتسمع أزيزها الذي كسّر الصمت لإزالة جزء كبير من الأكشاك القصديرية التي التصقت بجدار محطة القطارات وجاورت حيًا سكنيًا وبناءات إدارية وراء شارع المجاهد الأكبر.

استفاق الأهالي على عملية الإزالة التي كانت مؤمّنة بالعشرات من وحدات الشرطة وتعزيز من كافة المصالح البلدية بالمدينة وتحت أنظار ذوي الخطط الوظيفية الإدارية والأمنية العليا في الولاية.

إنه مكان تجاري محدث بعد ثورة 2011 يطلق عليه أهالي المنستير "سوق ليبيا" بما كان يحتويه من بضاعة مورّدة وملابس مستعملة. كان يستعمله بعض الأشخاص ممن ضاقت بهم الحال ثم تمدد شيئًا فشيئًا وتحوز على المكان العشرات من التجار فصارت سوقًا يتبضع منه الآلاف يوميًا خاصّة باعة "الفريب" الذي كان يستقطب النساء والرجال على حدٍّ سواء.

استفاق متساكنو المنستير في 26 نوفمبر 2024 على صوت الجرافات وهي تقوم بإزالة الأكشاك القصديرية في "سوق ليبيا" بعد أكثر من 10 سنوات من تواجد هذا السوق بشكل غير قانوني بناءً على اتفاقيات شفويّة وعقود مبهمة

كان هذا السوق وليد حقبة اقتصادية وسياسية عقبت أحداث الثورة يوم دخلت الدولة في تسويات مع الجميع دون استثناء حتى تحافظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار الذي كان مهددًا بسبب هشاشة السلطة، ومثل سوق ليبيا في المنستير انتشرت الأسواق المماثلة في شتى أنحاء البلاد.

ما يجمع بين هذه الأسواق أنها تضم باعة وتجارًا يتحوّزون على أماكن مؤقتًا دون وجه قانوني أو شرعي، في ظل اتفاقيات شفويّة وعقود مبهمة عززت عدم الثقة بين المؤسسات والسلطة من جهة وأباطرة الاقتصاد الموازي الذي اشتد عوده من جهة أخرى.

 

صورة
مثل سوق ليبيا في المنستير انتشرت الأسواق المماثلة في شتى أنحاء البلاد تضم باعة يتحوّزون على أماكن دون وجه قانوني

 

كانت لنا جولات سابقة في "سوق ليبيا" بالمنستير لما كان يعج بالزبائن الذين يتكدسون حول أكوام الملابس المستعملة "الفريب"، وترى الباعة تتعالى أصواتهم من الصباح الباكر حتى غروب الشمس. ولا حديث في هذا السوق إلا عن الغلاء و"الميزيريا" والفقر والحاجة، لكنك ترى تداولًا ماليًا ضخمًا بشكل يومي وقد يتفوق رقم المعاملات اليومي عمّا يتم تداوله في السوق البلدي أو الفضاءات التجارية المنظمة.

وما كنا نلاحظه في ذاك السوق أننا إذا مررنا به لا نحاول كشف هويتنا الصحفيّة أو حتى نفكّر في اقتناص صورة لأننا حتما سنتعرّض للتنمر من الباعة اعتقادا منهم أننا نهدّد وجودهم غير القانوني بالمكان وقد يتعرّضون إلى موجة جديدة من دعوات إزالتهم وطردهم من هذا المكان.

عمر (بائع) لـ"الترا تونس": إزالة "سوق ليبيا" بمثابة القضاء على المئات من مواطن الشغل والعشرات من العائلات التي تمثل السوق مصدر رزقها الوحيد.. وكان من الأجدر توفير مكان بديل للباعة قبل عملية إزالة السوق

وكنا قد تحدّثنا إلى بعض منهم فكانوا يصرّون على توفير مكان بديل وتمكينهم من تحوّز على أماكن تشرّع لهم التملّك ولو على وجه الكراء لكي تورّث، فهم يناورون كما تناور الدولة في التعامل معهم.

بعد يومين من عملية الإزالة للجزء الأكبر من السوق بتدخّل القوة العامة، التحقنا بالمكان وكان لنا لقاء مع أحد الباعة يدعى "عمر" (34 سنة)، أب لطفلين وأصيل إحدى ولايات الوسط الغربي. خلال حديثنا معه كان متخوفًا لكنه تحدث بمرارة معتبرًا أن إزالة الأكشاك بالقوة العامة ليست في صالح المواطن الذي خيّر أن يعمل في بلاده وآثر البقاء على الهجرة.

واعتبر أن إزالة "سوق ليبيا" بمثابة القضاء على العشرات من العائلات والمئات من مواطن الشغل، فالآثار السلبية للإزالة ستحجب الإيجابيات التي حققتها، حسب تصوره.

كما أبدى عمر استياءه من الحملة التي تم شنّها على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل القضاء على هذه السوق دون رجعة ولام السلطة على عدم التدخل لتوفير مكان بديل قبل عملية التدخل.

 

 

صورة
والي المنستير خلال جولة للتنبيه على الباعة في "سوق ليبيا" قبل تنفيذ قرار الإزالة

 

عائشة -اسم مستعار- (50 سنة) تقول إنها لا تملك أي وثيقة تثبت كراءها لأحد الأكشاك المهدّمة وإنما تدفع قيمة كرائية لأحد الأشخاص المتحوزين على المكان بدعوى أنه سيقوم بعملية تسوية كرائية مع بلدية المكان، أما اليوم فإنها قد ضيّعت سنوات من الكدّ والجهد وما عليها إلا أن تبحث عن مصدر بديل للرزق.

حاولنا التقصي عن تاريخ وظروف إنشاء هذا السوق فتوصّلنا إلى أن بلدية المنستير كانت قد أسندت سنة 2006، 8 تراخيص للتواجد في الموقع الحالي لما يعرف بـ"سوق ليبيا"، غير أن عدد النقاط التجارية الموجودة حاليًا يفوق 90 نقطة جلّها عشوائية، وفق مصدر مطلع لـ"الترا تونس".

منذ ظهور ما يعرف بـ"سوق ليبيا" تكررت تشكّيات المتساكنين ومطالبة المجتمع المدني بإزالة هذه السوق، التي كانت في البداية مؤقتة غير أنّ الوضع ظل متواصلًا لأكثر من 13 سنة بل وتفاقم خلال الأشهر القليلة الماضية مع تركيز نقاط لباعة "الفريب"

ومنذ ظهور ما يعرف بـ"سوق ليبيا" (التسمية الشعبية المتداولة)، تكررت تشكّيات المتساكنين ومطالبة المجتمع المدني بإزالة هذه السوق، التي كانت في البداية مؤقتة اعتمدتها النيابة الخصوصية لبلدية المنستير لحل مسألة التجارة الموازية في السوق المركزية بالمنستير وقبالة القباضة المالية، غير أنّ الوضع ظل متواصلًا لأكثر من 13 سنة، بل وتفاقم خلال الأشهر القليلة الماضية مع تركيز نقاط لباعة الملابس المستعملة "الفريب". 

يشار إلى أن وحدات الحماية المدنية كانت قد وجدت صعوبة في الوصول إلى موقع الحريق الذي نشب يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في محطة القطار الحبيب بورقيبة بالمنستير، نظرًا لأنّ مدخل النجدة كان مغلقًا بسبب محلات ما يعرف بـ "سوق ليبيا".

 

صورة
استفاق الأهالي في 26  نوفمبر على عملية إزالة سوق ليبيا بالجرافات 

 

المجتمع المدني في مدينة المنستير كان وراء الدفع نحو إزالة السوق الموازية بالمدينة فبادرت الغرفة الفتية الاقتصادية بالمنستير، في إطار دورها في طرح حلول للمشاكل الموجودة بمحيطها، يوم الخميس 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بتنظيم جلسة عمل مع مكونات المجتمع المدني بمقر الغرفة للتشاور حول وضعية "سوق ليبيا" بعد ما ورد من معلومات حول قرار نقلته من مكانه الحالي (خلف محطة القطار) إلى محطة سيارات الأجرة للخط الجنوبي، خلف دار الجمعيات، أين يقع كل من نادي الشبان والعلم ونادي الإعلامية الموجهة للطفل، والمحاذي للمؤسسات التربوية. 

المجتمع المدني في مدينة المنستير كان وراء الدفع نحو إزالة السوق الموازية بالمدينة فبادرت الغرفة الفتية الاقتصادية بالمنستير في 21 نوفمبر بتنظيم جلسة عمل للتشاور حول وضعية "سوق ليبيا" 

وبعد التداول والنقاش حول الموضوع، أشاد الحضور بالقرار القاضي بإزالة "سوق ليبيا" من موقعه الحالي، باعتباره خطوة إيجابية نحو تحسين المشهد الحضري للمدينة. والتأكيد على الرفض القاطع لنقل "سوق ليبيا" إلى محطة سيارات الأجرة للخط الجنوبي، حتى بصفة مؤقتة، وذلك تفاديًا لتكرار سيناريو نقل محطة سيارات الأجرة سنة 2016، حيث أدى ذلك إلى استمرارها في موقعها المؤقت إلى يومنا هذا، مما تسبب في إزعاج كبير للسكان المجاورين. كما طالبوا بتطوير هذا الفضاء وتحويله إلى منطقة خضراء تحتوي على مساحات مشجرة وفضاءات عامة مهيأة بشكل حضاري.

كما طالبوا بنقل "سوق ليبيا" إلى موقع بديل يتماشى مع المعايير الحضارية والقانونية، واقترحوا في هذا الصدد تخصيص جزء من السوق الأسبوعية لإحداث سوق شعبي يومي، مع الحرص على إجراء دراسة شاملة لضمان ملاءمة الموقع الجديد لمتطلبات المواطنين والمدينة وفق تقرير أرسلوه إلى السلط الجهوية بالمنستير.

طالب المشاركون في الجلسة المنتظمة من قبل الغرفة الفتية الاقتصادية بالمنستير بنقل "سوق ليبيا" إلى موقع بديل يتماشى مع المعايير الحضارية والقانونية واقترحوا تخصيص جزء من السوق الأسبوعية لإحداث سوق شعبي يومي

وأكد عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسين، في حديث مع "الترا تونس"، أن الحق في العمل هو حق إنساني ثابت ورغم تواجد الباعة بـ"سوق ليبيا" في إطار اقتصاد غير منظم، فإنه لا بدّ من توفير مكان خاص لهم، معقبًا أنّه "لا بد من أن توفر البلدية فضاءات خاصة بهؤلاء الباعة وأن تلبي طلباتهم في توفير أمكنة تكون طبق المواصفات، كما يجب أن يندمج هؤلاء الباعة بدورهم ضمن الدورة الاقتصادية المنظمة والقانونية".

 

صورة
من مخلفات عملية إزالة سوق ليبيا بالمنستير

 

وأضاف بن حسين أن "السلطة في هذه المواقف تغض البصر عن هذا الناشط الموازي في غياب الحلول الجذرية لكنها تتدخل بالقوة الزجرية لتطبيق القانون"، مستطردًا: "نحن نعلم أن التشريعات والقوانين وحدها لا تحلّ الإشكال، فالقانون وحده عاجز عن التعامل مع القطاع غير المنظم"، حسب تصوره.

عضو منتدى الحقوق الاقتصادية منير حسين لـ"الترا تونس":  الحق في العمل هو حق إنساني ثابت ورغم تواجد الباعة بـ"سوق ليبيا" في إطار اقتصاد غير منظم، فإنه لا بدّ من أن توفر البلدية فضاءات خاصة بهؤلاء الباعة طبق المواصفات

وتابع قائلًا إن "هذه المسألة هي إفرازات منوال تنموي لإقصاء اقتصادي وإقصاء اجتماعي على حدّ سواء"، مضيفًا: "هؤلاء المواطنون يرتجلون في أنشطتهم الاقتصادية لكي يوفروا لقمة العيش بسبب عجزهم عن الانخراط في القطاع المنظم".

وأشار بن حسين إلى أنه "لا بدّ من حوار مجتمعي واسع من أجل هيكلة هذا القطاع غير المنظم وإدماجه ضمن التشريعات القانونية"، مشيرًا إلى أنّ "هذه الظاهرة ليست حكرًا على مدينة المنستير وإنما تمس كافة المدن التونسية وخاصة منها الكبرى والساحلية، وأنّ التحدي الأكبر هو قدرة الدولة على إدماج هذه الفئات"، حسب تصوره.

منير حسين لـ"الترا تونس": لا بدّ من حوار مجتمعي واسع من أجل هيكلة القطاع غير المنظم وإدماجه ضمن التشريعات القانونية خاصة وأن ظاهرة الأسواق الموازية ليست حكرًا على المنستير وإنما تمس جل المدن التونسية

إن "سوق ليبيا" في مدينة المنستير ما هو إلا نسخة من مئات الأسواق المثيلة لها في كافة مدن البلاد التونسية، ومثال ذلك "سوق الفريب" في باب الجبلي بمدينة سوسة الذي شوّه المعالم السياحية في المدينة العتيقة وصار محلّ تذمّر من المتساكنين ومظهرًا من مظاهر الإخلال بجمالية المدينة، وهو ما دفع إلى الحسم باتخاذ قرار بإخلاء المكان بالقوة العامّة بعد استيفاء الإجراءات القانونية وتهيئة مكان بديل له في أحد الأسواق المنظمة.

 

صورة
الجرافات بصدد تنفيذ قرار إزالة سوق ليبيا بالمنستير

 

وتفتح المؤسسات الصغرى غير المسجلة بالآلاف في المدن الكبرى الساحلية، وهي محلات عمل تشتغل خارج القانون ودون إعلام السلط، وعادة ما تتوسط المدن وهي في منأى عن أجهزة المراقبة الاقتصادية لاعتبارات عدّة أهمها أمنية واجتماعية بالأساس. ويعول هؤلاء التجار على التضامن المجتمعي وتفهم المحيط، وتمس هذه المحلات غير المرخصة أساسًا الشباب والنساء من الطبقة المهمشة.

وقد تطوّر هذا المظهر من الاقتصاد الموازي وتضخم كجبل الثلج في السنوات الأخيرة وذلك لأسباب اقتصادية بالأساس. وقد كشف المختص في الشأن الجبائي محمد صالح العياري، في تصريح صحفي لإذاعة "إكسبرس" (محلية) أن تقريرًا للجنة فنية توصّل إلى أن الاقتصاد الموازي يمثل حاليًا حوالي 40% من الناتج الداخلي الخام، وهي نسبة مرتفعة جدًا بالمقارنة بالاقتصاد الوطني، حيث أن "الاقتصاد الموازي ينخر الاقتصاد التونسي.

ويرتبط تطور عدد المشتغلين في السوق الموازية بنسبة البطالة المسجلة في تونس. وقد نشر المعهد الوطني للإحصاء مؤشرات البطالة في الثلاثي الثاني من سنة 2024 لتبلغ 16% (مقابل 16.2 % في الثلاثي الأول من نفس السنة). واستقرت نسبة البطالة لدى الرجال على 13.6% خلال الثلاثي الأول والثاني من سنة 2024.