رأي

أين المجلس الأعلى للقضاء وماذا ينتظر الرئيس سعيّد؟

12 أغسطس 2025
قضاء تونس القايدي.jpg
"الوضع الحالي أدى تباعًا لسير غير طبيعي للشأن القضائي.. " (صورة توضيحية/ياسين القايدي/الأناضول)
كريم المرزوقي
كريم المرزوقيباحث من تونس

مقال رأي 

 

في فيفري/شباط 2022 وبمقرّ وزارة الداخلية، أعلن الرّئيس قيس سعيّد قراره بحلّ المجلس الأعلى للقضاء ليعوّضه بمجلس أعلى مؤقت محدث بمقتضى مرسوم يتكوّن من ثلاث مجالس قطاعية (عدلي وإداري ومالي) يضمّ كل واحد منها أربع قضاة معيّنين لصفتهم وثلاثة قضاة متقاعدين يختارهم الرئيس، ما مثّل وضعًا ليد السلطة التنفيذية وبما يتخالف مع معايير الاستقلالية الهيكلية للقضاء على وجه الخصوص. وهو مجلس مؤقت بطبيعته في انتظار إرساء آخر كيفما اقتضى دستور 2022 بأنه يشرف على كلّ صنف من الأقضية الثلاث مجلس أعلى للقضاء. 

وقد واصل المجلس المؤقت، في الأثناء، عمله في انتظار التنزيل الدستوري، بيد أن أكبر مجالس القطاعية، لجهة عدد القضاة المعنيين به، وهو مجلس القضاء العدلي سرعان ما بات في حكم المجمّد واقعًا بعد صدور الحركة القضائية 2023/2024 في أوت/أغسطس 2023 التي شملت قضاة معنيين بالصفة بما أفقده نصابه القانوني. ومنذ ذلك الحين، باتت وزيرة العدل تشرف على المسارات المهنية للقضاة عبر مذكرات العمل التي باتت عنوان تدخل السلطة السياسية في إدارة الشأن القضائي المحض. وبالتالي فالوضع الحالي هو وضع مؤقت في مسار مؤقت ولكن يظهر أنه بات مستدامًا.

إذ رغم مرور ثلاث سنوات منذ إقرار دستور 2022، ورغم مرور سنتين كاملتين منذ تجميد عمل مجلس القضاء العدلي، وتبعه مجلس القضاء المالي بعد عدم تسمية خليفة للرئيس الأول لمحكمة المحاسبات، لا نزال ننتظر بدء مسار تركيز المجالس القضائية طبق الدستور. إذ من المفترض أن يبادر رئيس الجمهورية بإعداد مشروع قانون لتنظيم المجالس يصادق عليها البرلمان. ولكن من الواضح أن هكذا قانون ليس من أولويات الرئيس. مع الملاحظة أن دستور 2022 تحدث عن مجالس قضائية قطاعية دون التنصيص صراحة على مجلس أعلى للقضاء كهيكل تنضوي ضمنه بقية المجالس القطاعية، على النحو الوارد في قانون 2016 وحتى في مرسوم 2022. 

وزيرة العدل تشرف على المسارات المهنية للقضاة عبر مذكرات العمل التي باتت عنوان تدخل السلطة السياسية في إدارة الشأن القضائي المحض. والوضع الحالي هو وضع مؤقت في مسار مؤقت ولكن يظهر أنه بات مستدامًا

وقد يكون عدم التنصيص هو تمهيد لإنشاء مجالس قطاعية منفصلة عن بعضها البعض تهتم بالمسائل المهنية والتأديبية لكل قطاع دون إطار جامع توكل إليه أيضًا مهام رئيسية في مقدمتها: إبداء الرأي الوجوبي بخصوص القوانين المرتبطة بالعدالة، واقتراح الإصلاحات الضرورية لضمان استقلالية القضاء، وهي المهمة التي وردت في قانون 2016 فيما تخلّى عنها مرسوم 2022. أو ربما، يكون عدم دسترة المجلس الأعلى القضاء في المقابل، مجرّد سهو ليس أكثر، والمجالس القطاعية ستنضوي تحت سقف جامع في نهاية المطاف. كل خيار وارد في ظل هشاشة ضمانات استقلالية القضاء في دستور 2022. 

ولكن تجاوزًا لذلك، تظلّ المعضلة في تركيبة المجالس نفسها، إذ أن توجه الرئيس كيفما تبيّن في مرسوم 2022 يؤشر لتوجّه نحو ضرب ضمانات استقلالية المجالس عبر التراجع عن مبادئ أساسية وردت في قانون 2016: مبدأ انتخاب القضاة الممثلين، ومبدأ تنوع التمثيلية بعدم حصرها في القضاة، ومبدأ لزوم صفة المباشرة للعضوية، ومبدأ عدم التعيين من السلطة السياسية. في حين أن المجالس المؤقتة المحدثة عام 2022 تضمّ فقط قضاة، وجميعهم غير منتخبين، وجلّهم معيّنون بالصفة والبقية هم قضاة متقاعدون يختارهم رئيس الجمهورية بنفسه. 

ولكن رغم أن مجلس القضاء العدلي المؤقت تكوّن بهذه التركيبة المهندسة رئاسيًا، فإنها لم تدم إلا نحو عام ونصف فقط، عندما قرّرت السلطة السياسية تجميد المجلس عبر نقل شملت أعضاء معيّنين بالصفة دون تعويضهم. والنتيجة مجلس مجمّد مع إحالة صلاحياته فيما يتعلق بالمسار المهني إلى الوزارة. لم تصدر، في الأثناء، الحركة القضائية للقضاء العدلي عام 2024-2025، ومن المنتظر أن تحتجب في العام القضائي الجديد، مادام الوضع على ما هو عليه: مجلس مجمّد والوزارة تصدر التعيينات والنقل بمذكرات عمل في غياب حتى عناصر تقييم موضوعية ومعلنة، وفي غياب عنصر الشفافية سواء داخل المجتمع القضائي أو أمام الرأي العام.

يبدو أن السلطة اختارت وضع اليد مباشرة على القضاء دون أي "عائق".. فالبرلمان التونسي لم يشهد مبادرة تشريعية لتنزيل الدستور بعد غياب المبادرة الرئاسية. وهو غياب يدفع نحو مساءلة لعدم تطبيق الدستور الذي كتبه الرئيس بنفسه

وكان تقدير البعض لعدم مسارعة الرئيس بعرض مشروع قانون يتعلق بالمجالس القضائية طبق دستور 2022 منذ بدء عمل البرلمان عام 2023، مردّه أولويات تشريعية أخرى جعلت المسألة القضائية، التي طالما كان يؤكد الرئيس على محوريتها، خارج الأجندة. ولكن أنهى البرلمان السنة البرلمانية عام 2025 دون ظهور أي بوادر لمضيّ السلطة السياسية للتنظيم التشريعي للمجالس القطاعية أو المجلس الأعلى للقضاء بصفة إجمالية، إن تجاوزنا الجدل حول اكتفاء النص الدستوري بالتنصيص على المجالس الأولى دون المجلس الثاني.

البرلمان نفسه لم يشهد مبادرة تشريعية لتنزيل الدستور بعد غياب المبادرة الرئاسية. وهو غياب يدفع نحو مساءلة لعدم تطبيق الدستور الذي كتبه الرئيس بنفسه. على نحو أنه يصعب تخيّل أن الرئيس غير راض عمّا كتبه كما شاء بخصوص تنظيم "الوظيفة القضائية" في نص الدستور.

الإدارة الحالية للقضاء العدلي عبر مذكرات العمل زادت في نسف ضمانات استقلالية القضاة عبر التبعية المباشرة لمسارهم المهني لوزارة العدل. وهو ما يؤدي، في هذا الجانب، إلى تحفيز توظيف المحاكمات السياسية ومحاكمة الرأي لضرب الحقوق السياسية والمدنية، على نحو أظهر القضاة بوجه عام أمام خيارين وهو إما التناغم، بشكل أو بآخر، مع توجهات السلطة السياسية أو التمسك بالاستقلالية المطلقة بما قد يؤدي لمعارضة توجهات السلطة وبما يعنيه بالتبعية من كلفة في مناخ هشاشة الضمانات أو غياب بعضها بشكل مطلق. ويُستذكر، في هذا الجانب، أمر إعفاء القضاة بجرة قلم في 1 جوان/يونيو 2022 ولكن أيضًا المذكرات التي وصفتها جمعية القضاة نفسها بأنها جائرة خاصة لجهة إشاعتها أجواء الخوف وانعدام الأمان.

الوضع الحالي أدى تباعًا لسير غير طبيعي للشأن القضائي.. واستدامة وضع "المؤقت" الحالي يؤدي لتعزيز كارثية الوضع القضائي أمام ملامح عدم اهتمام السلطة السياسية بإعادة الأمور إلى نصابها 

والوضع الحالي كغياب الحركة القضائية السنوية أدى تباعًا لسير غير طبيعي للشأن القضائي ومن ذلك عدم نشر جداول توزيع العمل بالمحاكم، دونًا عن عدم معرفة القضاة لمصيرهم المهني في ظل مذكرات تصدر بين الفينة والأخرى دون القدرة على طلب مراجعتها، على نحو لا سبيل إلا لتنفيذها رضوخًا للأمر الواقع في نهاية المطاف.

وضع ألقى بثقله عبر تأكيد فروع جهوية لهيئة المحامين معاينة نقص لافت للقضاة في عدد من المحاكم، ذلك أن آلية مذكرات العمل لا يمكن لها ضمان حسن توزيع القضاة على خلاف الحركة القضائية السنوية التي تصدرها المجالس القضائية بعد تقييم شامل لوضع المحاكم بوجه عام. دون الإشارة إلى أن غياب المجلس الأعلى للقضاء أدى لتعطيل المسارات التأديبية كتعطيل النظر في مطالب رفع الحصانة عن القضاة، بما يتخالف مع مبدأ المساءلة والمحاسبة الذي ترفعه السلطة.

بكلّ ذلك، إن استدامة وضع "مؤقت المؤقت" الحالي يؤدي لتعزيز كارثية الوضع القضائي أمام ملامح عدم اهتمام السلطة السياسية بإعادة الأمور إلى نصابها على المستوى المؤسسي على الأقل بإحداث المجلس الأعلى واستعادته لصلاحياته من وزارة العدل. وربّما أن التجربة القصيرة للمجلس العدلي المؤقت الذي يقدّر مراقبون أنه حرص على الموازنة بين توجهات أو رغبات السلطة السياسية من جهة وممارسة الحد الأدنى من الاستقلالية في إدارة صلاحياته كلما سنحت الفرصة من جهة أخرى، هي التي تكبح المسار المطلوب بالتنزيل التشريعي للدستور في خصوص المجلس الأعلى للقضاء. إذ يبدو أن السلطة اختارت وضع اليد مباشرة على القضاء دون أي "عائق" ولو كان بذاته يفتقد لضمانات الاستقلالية الكافية. يتراجع بذلك "دستور الرئيس" لفائدة "منطق الرئيس"! 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت" 


 

الكلمات المفتاحية

التآمر فتحي بلعيد أ ف ب Getty

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟

لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم


أحمد صواب الشاذلي بن إبراهيم NurPhoto Getty

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!

"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"


أحمد صواب غيتي Nur photo

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة

"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."


التعليم في تونس القايدي.jpg

الإصلاح التربوي في تونس وعطالة الزمنيْن المدرسي والاجتماعي

ذهبت الدراسات إلى أن سوء التصرف في الزمن المدرسي يتسبب في استشراء العنف في الوسط المدرسي وهو فعلًا ما تعيشه المدرسة في تونس في السنوات الأخيرة

برنامج مباريات الجولة السادسة من البطولة التونسية
منوعات

البطولة التونسية.. تعرّف على برنامج الجولة 15 الختامية لمرحلة الذهاب

تدور مباريات الجولة 15 للبطولة التونسية لكرة القدم، على 3 دفعات أيام السبت 22 والأحد 23 والأربعاء 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025

نقابة الصحفيين التونسيين ندعو إلى تحرك وطني بالعاصمة والجهات أمام انتهاكات السلطة
میدیا

نقابة الصحفيين التونسيين: تحرك وطني بالعاصمة والجهات أمام انتهاكات السلطة

نقابة الصحفيين التونسيين: وضع قطاع الصحافة في تونس يعكس اتجاهًا ممنهجًا نحو التضييق على حرية التعبير واستقلالية الإعلام وحقوق الصحفيين المكتسبة، بما يتعارض مع الدستور التونسي والالتزامات الدولية للدولة في مجال حماية حرية الصحافة وحق المواطن في المعلومة


قضايا جديدة ضد 3 محامين في قضية التآمر.. هرسلة مستمرة للسان الدفاع
سیاسة

قضايا جديدة ضد 3 محامين في قضية "التآمر".. هرسلة مستمرة للسان الدفاع

قضايا جديدة ضد 3 محامين في قضية "التآمر".. ليست الأولى ضد محامين في هيئة الدفاع في هذه القضية على وجه الخصوص، وليست الأولى أيضًا إثر شكايات من الهيئة العامة للسجون على وجه التحديد

بسبب التأشيرة.. 8 من لاعبي المنتخب التونسي خارج قائمة مواجهة البرازيل وديًا
منوعات

بسبب التأشيرة.. 8 من لاعبي المنتخب التونسي خارج قائمة مواجهة البرازيل وديًا

المنتخب التونسي، بصدد الاستعداد لكأس العرب بقطر من 1 إلى 18 ديسمبر 2025 وكأس أمم إفريقيا بالمغرب من 21 ديسمبر 2025 إلى 18 جانفي 2026

الأكثر قراءة

1
اقتصاد

حوار| مستشار جبائي: ضغط جبائي مرتفع وتشجيع الاستثمار غائب في مشروع قانون المالية 2026


2
مجتمع

رابطة حقوق الإنسان: تسجيل حالات شلل جزئي في قابس ونطالب بإعلانها منطقة منكوبة


3
اقتصاد

جمعية: النمو الاقتصادي في تونس هشّ في ظل مخاطر محدقة وضعف هيكلي


4
مجتمع

وحدات سجنية جديدة في تونس ضمن مشاريع وزارة العدل لسنة 2026


5
سیاسة

جمعيات ومنظمات: وضع كارثي في السجون التونسية وانحراف خطير عن مسار العدالة