28-نوفمبر-2024
أيام قرطاج المسرحية تونس

المسرح كان منطلقًا لكل الفنون والإبداعات التي عرفتها الإنسانية على مر العصور حيث لا يخلو فن من الفنون الحديثة والمعاصرة من بهار المسرح ورفرفة روحه

 

المسرح هو أرشيف البشرية وخزّان الماضي السحيق للحياة بما حملت والشاهد على كل البدايات وكل الرعب والدمارات التي نفذها الإنسان تجاه أخيه الإنسان. به نستدلّ على التيمات والروايات القديمة التي عاشها الأسلاف وكانت دروسهم في الحياة. المسرح هو خزّان كل الذاكرات التي حنا عليها النسيان ولم يمحُها وأبّدها لتتحوّل إلى حصون صلبة تحمينا من التيه والموت وما بعده. 

المسرح كان منطلقًا لكل الفنون والإبداعات التي عرفتها الإنسانية على مر العصور والدهور حيث لا يخلو فن من الفنون الحديثة والمعاصرة من بهار المسرح ورفرفة روحه. 

لم يكن مهرجان أيام قرطاج المسرحية مجرد سلسلة من العروض المسرحية وكفى، بل حدد له الجيل المؤسس منهجه وضمن له أسباب استمراره بأن جعله فضاءً مشتهًى للتفكير والنقد والمجابهة والمقاومة والتفلسف

كما كان هذا الفن العتيق الشامل مدارًا لا يحيد أبدًا في الدفاع عن الحقوق وتعرية الظلم وكشفه ودحره، فهو المحرار الذي نقيس به مدى التزامنا بالقيم الإنسانية الجامعة وانسجامنا مع ذواتنا كأفراد لا نكف أبدًا عن التأسيس لحسن البقاء، وهو أيضًا أداتنا التي نواجه بها عتو الرياح التي تريد أن تقتلعنا من التاريخ والجغرافيا وتطوّح بنا بعيدًا في تجاويف الفناء. لذلك حافظ المسرح على توهجه وبقائه حيًّا نابضًا بيننا، فكل المجتمعات لها مسارحها التي بها تباهي وبها تقاوم الجبابرة وبها تحافظ على ملمحها الثقافي والحضاري.

 

صورة
أيام قرطاج المسرحية  تظاهرة مركزية وواجهة لعراقة الثقافة التونسية (صفحة أيام قرطاج المسرحية على فيسبوك)

 

وضمن هذه الأطر الحضارية والرمزية الكونية سعت النخبة التونسية في ثمانينيات القرن العشرين إلى بعث مهرجان أيام قرطاج المسرحية وجعله تظاهرة مركزية وواجهة لعراقة الثقافة التونسية، وانعكاسًا لما كان يصبو إليه المجتمع في السياسة والاقتصاد. 

لم يكن هذا المهرجان مجرد سلسلة من العروض المسرحية وكفى، بل حدد له الجيل المؤسس منهجه وضمن له أسباب استمراره بأن جعله فضاءً مشتهًى للتفكير والنقد والمجابهة والمقاومة والتفلسف. فاستقبل على مر تاريخه مسرحيين عتاة من البلدان العربية وإفريقيا والعالم وفكروا فرادى وجماعات في قضايا الإنسان أينما كان فقلبوا في مشاغله ومشاكله وأعلوا من فكرة المسرح ورفعوا الإبداع كالدروع.

هذه الدورة الـ25 من أيام قرطاج المسرحية تأتي في ظل ما تتعرض له فلسطين من تدمير وإبادة لشعبها لذلك اختار منظمو هذه الدورة أن يكون الخيط الفكري الناظم لأشغالها وعروضها الفنية حول فلسفة المقاومة ودور المسرح في ذلك"

أيام قرطاج المسرحية تعيش هذه الأيام دورتها الـ25 في ظل متغيرات جيوسياسية محلية وعالمية، وقد انطلقت يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 لتتواصل إلى نهاية الشهر نفسه، هي أيام معدودات كالطيف، قد يبدو زمنها قليلًا لكنها أيام ذهبية تكفي الفعل المسرحي ثباته في مسارات التاريخ متكئًا على ذلك الالتزام بالبعد الفكري الذي خطه المؤسسون الأوائل، وهو التزام يجعل هذه التظاهرة وفية لمبادئها ولجوهر المسرح نفسه كفعل تعرية وتغيير بجماليات مختلفة ومتعددة يجترها أهل المسرح بأدوات هم يدركونها ويختارونها.

هذه الدورة الـ25 تأتي في ظل ما تتعرض له فلسطين من تدمير وإبادة لشعبها واعتداءات سافرة على تاريخها ومقدساتها من قبل محتل غاشم يراه ساسة العالم ولا يحركون ساكنًا عدا الأحرار الذين انبروا للدفاع على القضية وإحيائها والترويج للحق الفلسطيني.

 

صورة
هذه الدورة الـ25 تأتي في ظل ما تتعرض له فلسطين من تدمير وإبادة (صفحة أيام قرطاج المسرحية على فيسبوك)

 

لذلك اختار منظمو هذه الدورة أن يكون الخيط الفكري الناظم لأشغالها وعروضها الفنية حول فلسفة المقاومة ودور المسرح في ذلك فكانت الندوة الفكرية  بمثابة عقدة الخيط الفكري الناظم للتظاهرة وقد اختير لها عنوان "المسرح والإبادة والمقاومة: نحو أفق إنسي جديد". وترأس هذه الندوة أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية الدكتور منير السعيداني عضو اللجنة التنفيذية للجمعية الدولية لعلم الاجتماع وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية ورئيس تحرير مجلة عمران.

الدكتور السعيداني، ومن خلال تقديمه للورقة العلمية للندوة ومن خلال تصريحاته الإعلامية لأكثر من وسيلة إعلام تونسية وعربية ودولية بخصوص الحيز الفكري لأيام قرطاج المسرحية في نسختها 25 والتي تترجم حيزًا هامًا منه، أكد أن "للبشرية في زمنها المعاصر تجارب مريرة مع الدمار، فهو يطال مواقع إنتاج الفنون وتداولها وبذلك تكون له دلالة معنوية تجعله جزءًا من إبادة إثنية تغتال الذاكرات الإنسانية التي تحفظها تلك الفنون، حيث تمنع سرد الروايات الأهلية بأصوات الفنانين المتجذرين في ثقافاتهم".

أستاذ علم الاجتماع منير السعيداني: في المسرح إمكانيات لا حصر لها في إشراك فناني الأداء وجماهيرهم في ابتداع الوقائع والنصوص والصور لإعادة الاتصال بالحياة من قلب الإبادة والدمار

ويضيف الأستاذ منير السعيداني أنه في هذا السياق تمثل نصوص عديدة منها ميثاق روريش (1935) والاتفاقية المتعلقة بالتراث الثقافي والطبيعي (1972) سندًا قانونيًا للمناهضة الإنسانية والدولية القوية لكافة أعمال الإبادة الثقافية والتظلم ضدها بل وأيضًا لإقرار الحق الإنساني في الحماية الدولية ضد جرائمها والنضال ضد مقترفيها". 

 

صورة
في المسرح إمكانيات لا حصر لها لإعادة الاتصال بالحياة من قلب الإبادة والدمار (صفحة أيام قرطاج المسرحية على فيسبوك)

 

وبين مدير الندوة أنه منذ  أحداث غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 تشهد حروب الإلغاء المستدامة للثقافات الإنسانية المعاصرة، والتي لم يكن لها حصر في البوسنة ورواوندا والكونغو ودارفور والسودان، تصاعدًا إجراميًا صهيونيًا غير مسبوق من خلال المجازر المتكررة ضد الأطفال والنساء والشيوخ والغارات الجوية المستهدفة للبيوت والمدارس والمستشفيات والمواقع الأثرية والمؤسسات الدينية والفنية والمتحفية".

وتابع قائلًا: "لقد ارتكب الغزاة الصهاينة في أرض فلسطين بآلة الحرب والتقتيل والدمار والدعم الاستعماري الإمبراطوري العالمي المجزرة المبيتة الواحدة تلو الأخرى وجريمة الإبادة الجماعية والمكانية والإثنية والثقافية تلو الجريمة من دون رادع حقيقي فعال، وفي مواجهتهم لهذا العدوان المريع ينوب الفلسطينيون على الإنسانية في هذه التجربة المريرة ويتحملون وقعها وهو ما يستوجب تعميق التفكير وتجذير الفعل في مجال الفن المقاوم".

أستاذ علم الاجتماع منير السعيداني: المسرح ممارسة شاملة تمضي من الإبداع الكتابي إلى الأداء التشخيصي الذي يتوسط العلاقة مع الجمهور وصولًا إلى ما بعد العروض الفرجوية من الانفعال وتفاعل الأحاسيس والرؤى والنصوص

ويضيف منير السعيداني أن في المسرح إمكانيات لا حصر لها في إشراك فناني الأداء وجماهيرهم في ابتداع الوقائع والنصوص والصور لإعادة الاتصال بالحياة من قلب الإبادة والدمار، وبالفعل المسرح ممارسة شاملة تمضي من الإبداع الكتابي الفردي أو الجماعي إلى الأداء التشخيصي الذي يتوسط العلاقة مع الجمهور وصولًا إلى ما بعد العروض الفرجوية من الانفعال وتفاعل الأحاسيس والرؤى والنصوص مع النصوص". 

هذا النص الفكري البياني الذي تقوم حوله الندوة الفكرية يطرح جملة من المسائل الجمالية والإيتيقية التي نلقاها مبثوثة في محاور كبرى هي: "الخصوصيات الجمالية لممارسة مسرح الإبادة ومسرح المقاومة في مختلف المجتمعات وخلال الزمن الاستعماري والرأسمالي والاستهلاكي"، و"إيتيقا وضع الدمار والإبادة على الركح وتحويلهما إلى مشهد مسرحي"، و"علاقة الفن المسرحي بعلوم الإنسان والمجتمع التي تخوض في ذاكرات الإبادة والمقاومة والصناعة التاريخية والاجتماعية للهويات"، و"مسرح الإبادة والمقاومة وابتداع المستقبلات الممكنة".

أستاذ علم الاجتماع منير السعيداني: للبشرية في زمنها المعاصر تجارب مريرة مع الدمار، فهو يطال مواقع إنتاج الفنون وتداولها وبذلك تكون له دلالة معنوية تجعله جزءًا من إبادة إثنية تغتال الذاكرات الإنسانية التي تحفظها تلك الفنون

وهذه المحاور تمت ترجمتها في عدد من المداخلات والمقاربات الفلسفية والتاريخية والاجتماعية أمّنها أساتذة جامعيون وكتاب ومسرحيون مرموقون من تونس ومن الوطن العربي والعالم نذكر منهم:

من تونس: الأستاذ الباحث محمد المديوني والأستاذة الجامعية والممثلة بسمة الفرشيشي وأستاذ الفلسفة الإيتيقية بالجامعة التونسية نوفل حنفي ومصممة الغرافيك والباحثون في المسرح وفنون العرض إيناس زرق عيونه والناقد والأستاذ الجامعي عبد الحليم المسعودي وأستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية علي الحبيب الفريوي والكاتبة والباحثة التونسية صفاء السلولي والكاتب والباحث في السيميائيات الأستاذ أحمد القاسمي والدراماتورج والمسرحي التونسي حاتم مرعوب. 

ومن الوطن العربي: الباحث وأستاذ التمثيل المصري جمال ياقوت والفنان المسرحي اليمني علي أحمد المذابي والناقد المسرحي السوداني السر السيد محمد والكاتبة والمخرجة المسرحية الجزائرية خيرة بوعتور والأستاذ الجامعي المختص في المسرح وفنون الأداء المغربي سعيد كريمي والأستاذ الجامعي الجزائري أحمد الشنيقي والباحث العراقي عماد هادي الخفاجي والباحث والمعالج النفسي اللبناني كريم دكروب وعالم الاجتماع والشاعر والموسيقي والمسرحي الجنوب إفريقي آري سيتاس والمخرجة والممثلة المسرحية الأردنية نجوى قندقجي. 

إن الخيط الفكري الناظم لكل فعاليات أيام قرطاج المسرحية في نسختها الـ25 يبقى هو الجوهر الثابت والقانون المدير والملزم حتى تنهض هذه التظاهرة الثقافية والفنية بما من أجله بعثت ذات حلم قديم ومتجدد لمسرحيين تونسيين وعرب وأفارقة

الندوة الفكرية لأيام قرطاج المسرحية حضرها جمهور غفير على غير العادة من المثقفين التونسيين والعرب والأجانب وقد فتحت نقاشًا هامًا حول القضية الفلسطينية وما لا يحيط بها، كما كانت منطلقًا للنقاش حول المقاومة بالفن والمقاوم الفنان ودوره والتزامه والعوائق التي يمكن أن تعترضه.

الخيط الفكري لهذه التظاهرة نجده في عدد من الأنشطة الأخرى على غرار تقديم الكتب ذات الصلة بالمسرح، مثل كتاب "بيداغوجيا الخلق المسرحي" للأستاذ والممثل والمخرج المسرحي التونسي فتحي العكاري. 

وأيضًا في أنشطة المعهد العالي للفن المسرحي الذي قدم جملة من الورشات الفنية والماستر كلاص التي لها علاقة بالفعل المسرحي وأدوات مقاومة القبح والحرب والإبادة، نذكر منها: ورشة الممثل وقرينه للمسرحي التونسي الفاضل الجعايبي والموسيقى والجسد للباحث كريم الثليبي وكيف نكتب الحرب للأستاذ التونسي محمد القاسمي والمسرح الإيمائي للفنان المسرحي خالد بوزيد والمهرج لكريستوف عنابي والفعل التشكيلي والنفسي والحركي لإيقور ياتسكو والتمثيل التفاعلي لبيتر بارلو والحركة والجسد في التكوين المسرحي للفاضل جاف.  

إن الخيط الفكري الناظم لكل فعاليات أيام قرطاج المسرحية في نسختها الـ25 يبقى هو الجوهر الثابت والقانون المدير والملزم حتى تنهض هذه التظاهرة الثقافية والفنية بما من أجله بعثت ذات حلم قديم ومتجدد لمسرحيين تونسيين وعرب وأفارقة وهو ما يشرع لاستمرارها بين أجيال المسرحيين والمثقفين.


صورة