رأي

أصدرته استئناف سليانة.. حكم متميّز ينتصر لدور القضاء في حماية الحريات في تونس

20 فبراير 2025
استقلالية القضاء في تونس.jpg
(صورة توضيحية) يسلّط الحكم القضائي الصادر عن محكمة الاستئناف بسليانة الضوء على تمسّك قضاة بدورهم في الدفاع عن علوية الدستور
كريم المرزوقي
كريم المرزوقيباحث من تونس

مقال رأي 

 

لقي حكم قضائي مميّز صدر عن محكمة الاستئناف بسليانة احتفاءً واسعًا في الساحة القضائية والحقوقية انعكاسًا للدور المحوري للقضاء في الدفاع عن الحقوق والحريات، وهو يسلّط الضوء على تمسّك قضاة بدورهم في الدفاع عن علوية الدستور وفرض احترام الإجراءات ضمن شروط المحاكمة العادلة، رغم المناخ القضائي العامّ المشوب بتنامي نفوذ السلطة التنفيذية وتشدّد أدواتها القضائية في قضايا الرأي.

الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف بسليانة بتاريخ 31 جويلية/يوليو 2024 في القضية المرسّمة تحت العدد 677، ونشرته مجلّة "المفكرة القانونية" مؤخرًا، قضى بنقض حكم ابتدائي والقضاء من جديد بعدم سماع الدعوى لبطلان إجراءات التتبع، وذلك في حق متهم حُكم ضدّه ابتدائيًا بالسجن لمدة سنتين من أجل ارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية، وسنة من أجل جريمة الفصل 24 بالمرسوم 54، على خلفية نشر تدوينات على حسابه الخاص على "فيسبوك".

يسلّط الحكم القضائي الصادر عن محكمة الاستئناف بسليانة الضوء على تمسّك قضاة بدورهم في الدفاع عن علوية الدستور وفرض احترام الإجراءات ضمن شروط المحاكمة العادلة، رغم المناخ القضائي العامّ المشوب بتنامي نفوذ السلطة التنفيذية وتشدّد أدواتها القضائية في قضايا الرأي

وتأسس الحكم على مخالفة إجراءات التعهّد باعتبار أن باحث البداية (الشرطة) باشر القضية دون إذن كتابي من النيابة العمومية على نحو يجعل تجاوز ذلك من قبيل الاعتداء على القضاء. كما تأسس أيضًا على مخالفة إجراءات تحرّي التهمة وجمع أدلّتها، وشددت المحكمة على ضرورة حماية سريّة المراسلات وعدم تقييدها إلا في إطار الإجراءات القانونية، لتضع بذلك حدًا للتعسّف في خرقها. ليمثّل الحكم علامة مضيئة حول دور القضاء في فرض احترام الإجراءات باعتبارها شرطًا جوهريًا للمحاكمة العادلة.

في لزوم الإذن الكتابي من النيابة.. وضع حدّ لإطلاق يد باحث البداية

أوّل ما يميّز الحكم أنه أعاد تأطير إجراءات البحث وإثارة الدعوى العمومية بتحديد نطاق صلاحيات باحث البداية. وهذه الإجراءات المعلوم أنها أحكام صارمة في المستوى النظري بيد أن الواقع القضائي طبّع، بصفة إجمالية، مع تجاوزها، على نحو أضعف سلطان الإجراءات لحساب النظر في الأصل والإدانة.

وفي هذا الجانب، ذكّر بمقتضيات الفصل 11 من مجلة الإجراءات الجزائية بأنه في غير الجنايات والجنح المتلبّس بها ليس لأعوان الضابطة العدلية إجراء أي عمل من أعمال التحقيق "ما لم يكونوا مأذونين بإجرائه بإذن كتابي"، أي أنه يجب على الباحث أن يستصدر إذنًا كتابيًا سابقًا من النيابة العمومية المختصة قبل مباشرة أي بحث. بيد أنه في قضية الحال، تمّت مباشرة البحث في غياب هذا الإذن، مؤكدًا الحكم أن "التعليمات الشفوية" لا يعتدّ بها، باعتبار أن شرط الإذن الكتابي هو من الإجراءات الأساسية "لأنه يتصل في مفاعيله بحق إثارة الدعوى العمومية وحق المتهم في الضمانات القضائية".

والحكم لم يفته التأكيد على انعدام حال التلبس، التي تبيح نظريًا لباحث البداية مباشرة التحقيق دون الوقوف على هذا الإذن. إذ استعرض صور التلبس طبق القانون وعدم تحققها في قضية الحال. فالتدوينات موضوع التتبع، وكيفما وثقها محضر باحث البداية نفسه، منشورة في زمن بعيد عن تاريخ إجراء البحث، وبالتالي لا يوجد أي تلبس، على نحو لا يمكن للباحث أن يباشر البحث دون الإذن الكتابي والسابق من النيابة على النحو المبيّن.

أوّل ما يميّز الحكم أنه أعاد تأطير إجراءات البحث وإثارة الدعوى العمومية بتحديد نطاق صلاحيات باحث البداية. وهذه الإجراءات المعلوم أنها أحكام صارمة في المستوى النظري بيد أن الواقع القضائي طبّع، بصفة إجمالية، مع تجاوزها، على نحو أضعف سلطان الإجراءات

تجاوز كلّ ذلك، أي تمدّد صلاحيات باحث البداية بالبحث دون إذن، اعتبرته المحكمة صراحة أنه يمثل "تعديًا على صلاحيات القضاء". الحكم بذلك أعاد تصدير دور القضاء باعتباره صاحب السلطة في الدعوى العمومية، وأن دور الضابطة العدلية يظلّ دورًا ثانويًا يخضع لرقابة القضاء ولا يجوز تجاوزها في كل الأحوال.

في تقييد تفتيش الهاتف الجوّال إلا بإذن القضاء أيضًا.. سموّ سرية المراسلات

الركيزة الثانية التي تأسّس عليها الحكم هو تسجيل خرق آخر في أعمال باحث البداية وتحديدًا أعمال التفتيش المسلّطة على الهاتف الجوّال للمتّهم، والتي منها تمت معاينة التدوينات موضوع القضية.

فالمحكمة، هنا، اعتمدت منهجًا تفكيكيًا بخصوص تنظيم المشرّع لإجراءات التحرّي، فالبداية أن كل فرد يتمتّع بحق سرية المراسلات والاتصالات طبق الدستور (الفصل 30)، وأن هذا الحق خاضع للتقييد طبق شروط أوردها الفصل 55 من الدستور وهي الشرعية، والمشروعية، والضرورة والتناسب. ولذلك فإن المساس من سريّة المراسلات هو استثناء تقتضيه جرائم محدّدة وهي جرائم الإرهاب، وغسل الأموال، والاتجار بالبشر إضافة لجرائم المرسوم 54. واستعرضت المحكمة تنظيم المشرّع لشروط ممارسة الاستثناء في كلّ نصّ خاصّ نظّم الجرائم المذكورة ومنها المرسوم 54 الذي اشترطت الفصول من 6 إلى 10 ضمنه وجود إذن كتابي قضائي مسبق للغرض. على نحو ما تستلزمه بقية الجرائم الأخرى السابق ذكرها أيضًا أي أن الإذن الكتابي هو شرط جامع فيما بينها.

المحكمة استندت أيضًا، في تعليلها، على اتفاقية مجلس أوروبا المتعلقة بالجريمة الإلكترونية لعام 2004 والتي صادقت عليها الدولة التونسية عام 2024، على نحو يستوجب احترام أحكامها بخصوص إجراءات التفتيش. وكذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية (1966) الذين يؤكدان على لزوم حماية الفرد من أي تدخل تعسفي أو غير قانوني في خصوصياته ومراسلته، على نحو أن التفتيش دون الإذن المسبق هو إجراء يتعارض مع الحماية الدستورية والمعاهداتية السابق تأكيدها.

المحكمة بنقضها للحكم الابتدائي.. على أساس الإخلالات الإجرائية الجوهرية.. انتهت إلى أن بطلان الإجراءات توجب التصريح بالبراءة وتمنع النظر في أصل التهمة من أصله، فهي أعادت الأمور لنصابها

وفي قضية الحال لم يقم باحث البداية باستصدار إذن قضائي كتابي من النيابة العمومية قبل تفتيش الهاتف الجوال للمتهم، أي أنه تم الاعتداء على سرية المراسلات والاتصالات بعدم احترام هذا الإجراء. وإن حضور المتهم لأعمال التفتيش لا تصحّح الخلل باعتبار أن شرط الإذن الكتابي المسبق هو شرط صريح لا يجوز تعويضه خاصة وأنه إجراء أساسي مرتبط بحماية حق دستوري.

وذهب الحكم في المجادلة أكثر أنه وعلى فرض استنتاج موافقة المتهم من خلال عدم اعتراضه على تفتيش هاتفه فهي موافقة لا يعتدّ بها انطلاقًا من ضمنية أساسها أن عدم الممانعة على الإجراء في حينه صدرت عنه وهو "مسلوب الحرية"، هنا المحكمة كأنها تعيد التذكير بأن الرضا، ولو كان ضمنيًا، يجب أن يكون حرًا وليس مشوبًا بأي إكراه، ماديًا كان أو معنويًا. وهي ذهبت أكثر من ذلك إعلاءً لمصلحة المتهم بتسجيل غياب ضمانات كاملة في حق الدفاع وهي حضور المحامي، وأيضًا -وهذا لا يقلّ أهمية- هو أن يكون المتهم على علم مسبق بأن ما سيتمّ استخراجه من هاتفه قد يتم اعتماده دليل إدانة ضده، وبالتالي فهو له الحق في تسجيل امتناعه عن ذلك.

إعادة البوصلة.. الإجراءات طريق الحق

المحكمة بنقضها للحكم الابتدائي، الذي لا يجب تجاوز عقوبته السجنية المشددة، على أساس الإخلالات الإجرائية الجوهرية السابق ذكرها، انتهت إلى أن بطلان الإجراءات توجب التصريح بالبراءة وتمنع النظر في أصل التهمة من أصله، فهي أعادت الأمور لنصابها. وأكدت علوية الإجراءات باعتبارها من علوية القانون، فإجراءات التعهّد والبحث في المادة الجزائية موضوعة لضبط أدواتها وكيفية ممارستها، وذلك بغاية الموازنة بين مبدأ حرية الإثبات من جهة وحقوق المتهم من جهة أخرى، وذلك لمنع أي تعسّف. والإخلال بهذه الإجراءات يؤدي للمساس بضمانات المحاكمة العادلة ومنها ضمانات الدفاع.

وإن جرأة الحكم هو في مبادرة المحكمة في إثارة الخروقات من تلقاء نفسها باعتبارها من الإجراءات الأساسية التي يؤدي خرقها للبطلان بقوة القانون.

الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بسليانة هو انتصار لدور القضاء الطلائعي في ضمان علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات ولا ريب أنه سيمثّل مؤيدًا يمكن للسان الدفاع الاستناد إليه في مرافعاته خاصة في محاكمات الرأي طبق المرسوم 54 التي تشهد خروقات إجرائية عديدة

قضاة يقاومون بالانتصار للقانون

هذا الحكم، الذي لا ريب أنه سيمثّل مؤيدًا يمكن للسان الدفاع الاستناد إليه في مرافعاته، خاصة في محاكمات الرأي طبق المرسوم 54 التي تشهد خروقات إجرائية عديدة، هو انتصار لدور القضاء الطلائعي في ضمان علوية الدستور وحماية الحقوق والحريات، وهو الدور الذي نصّ عليه دستور 2014 قبل أن يتخلّى عنه دستور 2022 الذي حوّل القضاء إلى وظيفة تفتقد لضمانات الاستقلالية.

كما يأتي الحكم بالخصوص في خضم إسهال التتبعات القضائية والأحكام السجنية القاسية من أجل الرأي، في ظلّ سطوة السلطة التنفيذية على نحو أنتج ماكينة لقضاء تابع يسيطر على مفاصل الجهاز القضائي. وهو بذلك يؤشر على تمسّك قضاة في ظلّ هذا المناخ القاتم برسالتهم عبر التمسّك بحكم القانون وضميرهم. وهم القضاة المُبعدين من المراكز القضائية الأساسية، الذين يواجهون النقل التعسفية والإبعاد من الخطط وأشكالاً من الهرسلة نظير انحيازهم للقضاء المستقلّ. لكن بالنهاية، يبقى نور يسطع رغم العتمة الغالبة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت" 

الكلمات المفتاحية

التآمر فتحي بلعيد أ ف ب Getty

الظّلم ظلمات.. ماذا بعد؟

لا يُمكن تجاوز السّياق الّذي يتنزّل فيه الإضراب الجماعيّ عن الطّعام، إذ تتلقّى منظّمات المجتمع المدنيّ الضّربة تلو الأخرى، عبر آلية تعليق النّشاط، في انتظار ما يمكن أن يكون أعظم


أحمد صواب الشاذلي بن إبراهيم NurPhoto Getty

أمّا التّسلّطيّة فليست مجازًا!

"الحكم ضدّ أحمد صواب يأتي كاشفًا لإمعان السّلطة في التّذكير بأنّ الخلفيّة المهنيّة للمتّهم أو مكانته الاجتماعيّة لا تحميه من بطشها، وهو تكتيك قديم قِدم الأنظمة التّسلّطيّة الّتي تعاقبت على حكم البلاد"


أحمد صواب غيتي Nur photo

قضية أحمد صواب.. ليست محاكمة حتى نسأل عن المحاكمة العادلة

"ستمرّ المحنة يومًا ما وسيغادر أحمد صواب السجن يومًا ما، بقرار من أدخله أو لسبب آخر، ولن نستذكره دائمًا إلا رمزًا لمحاماة منحازة لقيمها ومبادئها.."


التعليم في تونس القايدي.jpg

الإصلاح التربوي في تونس وعطالة الزمنيْن المدرسي والاجتماعي

ذهبت الدراسات إلى أن سوء التصرف في الزمن المدرسي يتسبب في استشراء العنف في الوسط المدرسي وهو فعلًا ما تعيشه المدرسة في تونس في السنوات الأخيرة

محتجون في قليبية يطالبون بغلق مصب وادي ليمام وفتح مركز تحويل النفايات
مجتمع

"مصدر انبعاث غازات مسرطنة".. وقفة احتجاجية في قليبية للمطالبة بغلق مصب

انتظمت يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025، أمام مقر معتمدية قليبية من ولاية نابل وقفة احتجاجية للمطالبة بالإسراع في غلق المصب العشوائي بوادي ليمام، وذلك بمبادرة من فرع قربة–قليبية للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد المحلي للشغل قليبية–حمام الغزاز، وبمشاركة عدد من المواطنات والمواطنين المتضررين من الوضع البيئي المتدهور بالمنطقة

إقرار مبدأ الإضراب في القطاع الخاص
مجتمع

كاتب عام اتحاد الشغل بصفاقس لـ"الترا تونس": متمسكون بالإضراب وبحق العمال في الزيادات

أكد الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، يوسف العوادني، لـ"الترا تونس"، يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025 تمسّك الاتحاد بتنفيذ الإضراب العام يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 في القطاع الخاص، احتجاجًا على تعطّل المفاوضات الاجتماعية الخاصة بالزيادة في أجور سنة 2025


الاتحاد الأوروبي يسلم تونس 47 سيارة إسعاف ضمن برنامج "الصحة عزيزة"
مجتمع

تونس تتسلم 47 سيارة إسعاف من الاتحاد الأوروبي

أعلن الاتحاد الأوروبي، يوم الاثنين 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عن تسليم 47 سيارة إسعاف كاملة التجهير إلى تونس في إطار برنامج "الصحة عزيزة"، الذي يهدف إلى دعم القطاع الصحي وتعزيز الوصول إلى الخدمات الصحية في الخطوط الأمامية وجودتها

بكالوريا تونس 2022 القايدي.jpg
مجتمع

بكالوريا 2026.. إجراءات لفائدة المترشحين من ذوي الإعاقة والاضطرابات الخصوصية

أعلنت وزارة التربية، يوم الاثنين 17 نوفمبر 2025، عن جملة من التدابير الاستثنائية التي سيتم اعتمادها خلال الاختبارات الكتابية والتطبيقية لامتحان البكالوريا 2026 لفائدة المترشحين من ذوي الإعاقة والاضطرابات الخصوصية في التعلم. وتأتي هذه الإجراءات بعد دراسة الملفات الطبية المعروضة على الإدارة العامة للامتحانات

الأكثر قراءة

1
اقتصاد

حوار| مستشار جبائي: ضغط جبائي مرتفع وتشجيع الاستثمار غائب في مشروع قانون المالية 2026


2
سیاسة

تأجيل النظر في قضية "التآمر 1" إلى جلسة 27 نوفمبر 2025


3
سیاسة

تأجيل النظر في قضيتين ضدّ سهام بن سدرين إلى جلسة 5 جانفي 2026


4
مجتمع

نقابة متفقدي التعليم الثانوي: الوضع التربوي يتسم بالفوضى والوزارة عاجزة


5
مجتمع

تجدد الاحتجاجات جرّاء التلوث في قابس وأولياء يرفضون التحاق أبنائهم بالدراسة