23-فبراير-2020

لازال الضحايا يعانون بعدء 8 سنوات من مخلّفات سلاح الرش في أجسادهم (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

في وجوههم وعلى أجسادهم مازالت حبات "الرش" تحكي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان دارت رحاها بولاية سليانة، عندما واجهت قوات الأمن المتظاهرين المطالبين بالتنمية والمارة بمادة "الرش" المحرّمة دوليًا يومي 27 -28 نوفمبر / تشرين الثاني 2012. هم ستة عشر ضحية حضروا الجمعة، 21 فيفري/شباط 2020، في الجلسة الثالثة لقضيّتهم التي أحالتها هيئة الحقيقة والكرامة على الدائرة القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية المحكمة الابتدائية بالكاف.

واكب "ألترا تونس" الجلسة الثالثة لقضية أحداث الرش واطلع على لائحة الاتهام والتقرير الباليسيتي الذي أعدته هيئة الحقيقة والكرامة

وقضت هيئة المحكمة في هذه الجلسة بالتأجيل لاتخاذ ما يلزم من إجراءات وتدابير لحسن سير القضية وضمانًا لحقوق الضحايا وفق ما جاء على لسان رئيسة الجلسة التي لم يحضرها أي من المنسوب إليهم الانتهاك ولم يحضرها الشهود أيضًا وقد تم الاستماع لعدد منهم في الجلسة السابقة، مع الاستماع لوزير الداخلية الأسبق علي العريّض بصفته شاهدًا.

"ألترا تونس" واكب هذه الجلسة واطلع على لائحة الاتهام التي وجهتها هيئة الحقيقة والكرامة إلى القضاء المختص في العدالة الانتقالية، كما اطلع على التقرير الباليستي الذي أعدته الهيئة في هذه القضية التي تعدّ من أبرز ملفات انتهاكات حقوق الإنسان بعد الثورة.

اقرأ/ي أيضًا: تطورات قضية كمال المطماطي... متهم يطلب الاعتذار والعائلة تتنظر الإنصاف

كيف اندلعت أحداث الرش؟

عودة للأحداث التي دارت في ولاية سليانة أيام 27 و28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، عرفت المدينة خلال هذه الأيام تسجيل إصابات خطيرة لأكثر من 250 ضحية كانت أغلبها بمادة "الرش" في الجسم وخاصة على مستوى الوجه والعين، إذ تراوحت نسب السقوط المستمرّ بين 0 و56 في المائة حسب التساخير التي تمت على الضحايا في معهد الهادي الرايس لأمراض العيون.

وبدأت القصة حينما نشب يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 خلاف حاد بين الكاتب الخاص للوالي إبراهيم الزنايدي والكاتبة العامة للنقابة الأساسية لموظفي ولاية سليانة سميرة الفرجاني حول توزيع المساعدات بودادية الموظفين ممّا وتّر العلاقة بين الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة ووالي الجهة، ليعلن الاتحاد الجهوي للشغل بسليانة يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني الإضراب العام للمطالبة بالتنمية والتشغيل وإقالة الوالي وإطلاق سراح الموقوفين الذّين تمّ اعتقالهم منذ عام ونصف دون محاكمتهم.

تمّ إرسال تعزيزات أمنية من الولايات المجاورة في اتجاه سليانة (فوزي الدريدي/ أ.ف.ب)

 

وانطلقت مسيرة شارك فيها 5 آلاف متظاهر من أمام مقر الاتحاد الجهوي للشغل في اتجاه الولاية واجهتها قوّات الأمن بالغاز المسيل للدموع والهراوات لتفريق المحتجين الذين استعملوا الحجارة بشكل مكثف وإلقاء القوارير الحارقة (مولوتوف) في اتجاه أعوان الأمن وفق ما نقلت هيئة الحقيقة والكرامة عن تقرير لوزارة الداخلية.

وفي الليلة الفاصلة بين 27 و28 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ أعوان الأمن في استعمال "الرش" بصفة محدودة، وتواصل الإضراب العام يوم 28 من ذلك الشهر لتشهد ساحة الولاية تجمعًا كبيرًا من المواطنين احتجاجًا على الحملة الأمنية التي استهدفتهم. وتم إرسال تعزيزات أمنية كبيرة، في المقابل، من عدّة جهات في البلاد على غرار تونس العاصمة وباجة وقفصة والكاف وضمت عدة فرق أمنية أساسها وحدات التدخل وفرق الأمن العمومي وبعض الأعوان الراجعين بالنظر إلى الإدارة العامة للمصالح المختصة بفرق الإرشاد، ليقع استعمال سلاح الرش بكثافة لتفريق المتظاهرين.

هؤلاء المتهمون في قضية أحداث الرش

وُجهت الاتهام في هذا الملف، بحسب ما اطلعنا عليه في لائحة الاتهام، إلى 11 متهمًا هم كل من نوفل عبد القادر آمر الفوج الثالث مركزي لوحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى، ومنذر الشارني آمر الفوج الرابع لوحدات الطريق العمومي بتونس التابع لإدارة وحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى، وعصام العثماني آمر الفوج الأول للطريق العمومي التابع لإدارة إقليم تونس، ومحمد الهادي الخماسي آمر الفوج الخامس لوحدات الطريق العمومي بتونس التابع لإدارة وحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى، وأحمد الجواني مساعد آمر الفوج الرابع لوحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى، وبلال الهمامي حافظ أمن بالفوج الثالث مركزي لوحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى، من أجل الاعتداء الصادر عن موظّف عمومي والاعتداء بالعنف الشديد الناتج عنه سقوط تجاوزت نسبته العشرين في المائة على معنى الفصول 101 و218 و219 من المجلة الجزائية.

وجهت هيئة الحقيقة والكرامة الاتهام لـ11 أمنيًا في قضية أحداث الرش من بينهم مديرين سابقين في وزارة الداخلين وقيادات ميدانية

كما وجهت الاتهامات الى عبد الحميد البوزيدي مدير الأمن الوطني الأسبق، ووحيد التوجاني مدير الأمن العمومي الأسبق، ورضا الغريسي مدير إدارة وحدات الطريق العمومي بتونس الكبرى وكارم قميزة رئيس الإدارة الفرعيّة لفرق الطريق العمومي بإقليم تونس، ورشاد محجوب مدير إقليم الأمن الوطني بتونس بوصفهم قياديين ومسؤولين عن أفعالهم السلبيّة ومشاركين في تلك الانتهاكات الجسيمة على معنى أحكام الفقرتين الثانية والرابعة من الفصل 32 من المجلة الجزائية.

وفي الجلسة الثالثة في هذه القضية، لم يحضر المنسوب إليهم الانتهاك وكان عدد منهم حضر في الجلسة السابقة ودفعوا بالبراءة عن مسؤوليتهم عن الانتهاكات.

لكن وزير الداخلية الأسبق لطفي بن جدو أفاد في شهادة قدّمها خلال جلسة الاستماع العلنية الخاصة بأحداث الرش في سليانة، أنه بسؤال بعض المديرين، حين توليه الوزارة بعد الأحداث، أكدوا له أن استعمال الرش تقرر على إثر اجتماع تقني لمجلس الأمن على مستوى الوزارة بسبب الضغط على الولاية ظنًا منهم أنهم سيتفادون بذلك تفادي ما وقع في الثورة عندما تم استعمال الرصاص الحي.

وأوضح أن المواجهة وكيفيتها حسب الظروف يقررها القادة على الميدان، وهم المسؤولون عن استعمال السلاح واعتماد الطريقة الفنية، مبينًا أن التعزيزات مسؤول عنها مدير عام الأمن الوطني والمدير العام للأمن العمومي ومدير عام وحدات التدخل. وأضاف في شهادته أن استعمال الرش لا يمكن من تحديد التبعات والخسائر، مؤكدًا أنه ليس من المعدّات المستعملة لمواجهة المتظاهرين.

شهادة وزير الداخلية الأسبق لطفي بن جدو في الجلسة العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة

 

مصدر سلاح "الرش"

جاء في لائحة الاتهام التي أحالتها هيئة الحقيقة والكرامة على الدوائر القضائية المتخصصة واطّلع عليها "ألترا تونس"، أن جوهر بودريقة أفاد بموجب سماعه من قبل قاضي التحقيق العسكري بالمحكمة الابتدائية العسكريّة الدائمة بالكاف أنه كان يشغل خطة رئيس الإدارة الفرعية للإسناد بإدارة أمن إقليم تونس الكائن بثكنة 20 مارس ببوشوشة، وأنه تلقى في أواخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2012 اتصالًا هاتفيًا من قبل مدير الإقليم المحافظ العام رشاد محجوب يطلب منه توفير بندقيتي صيد عيار 12 وكمية من الذخيرة التابعة لهما على سبيل الإعارة والإرجاع لفائدة المقدم نوفل عبد القادر التابع لإدارة وحدات الطريق العمومي، فامتثل لتلك التعليمات.

ويفيد أحد الشهود، وهو أمني في ذات السياق، أن المقدّم عبد القادر قضى ليلة الحادثة بالسيارة الأمنية أمام مقر ولاية سليانة "وحيث كان بصندوقها عدد من القنابل المسيلة للدموع من الصنفين البدوي والقذائف الغازية التي تطلق بواسطة قاذفة غاز وقاذفة غاز واحدة وبندقيتي صيد عيار 12 ملم وعدد من العلب الكرتونية تحتوي على ذخيرتها".

استعمل الأمن سلاح الرش المحرّم دوليًا في مواجهة المتظاهرين (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

ويضيف المصدر أن المقدم غادر السيارة لتأطير الأفراد التابعين له وكان يتردد الأعوان على السيارة للتزود بالقنابل المسيلة للدموع من الصندوق الأبيض إلى أن نفذت تمامًا. وأكد أن المقدم عبد القادر عاد عندها للسيارة وفتح الصندوق الأبيض الذي كان على متنها وتزوّد منه ببندقية صيد ثم توجه نحو مكان تواجد الأعوان ولا يعرف إن كان المقدّم المذكور قد استعمل تلك البندقية بنفسه او مكّن أحد الأعوان منها لاستعمالها، وذلك دائمًا وفق اللائحة التي اطلعنا عليها.

اقرأ/ي أيضًا: ضحايا "S17" في تونس.. مواطنون برتبة مُلاحقين دون تهمة

وأكدت شهادات أخرى، حسب اللائحة، أنه تمّ ضبط أحد الأعوان يدعى بلال كان على متن سيارة ذات أربعة أبواب بصندوقها الخلفي وقد كان ماسكًا ببندقيّة صيد وواصل عمله في مواجهة المتظاهرين.

وجاء على لسان المقدم عبد القادر أن "الغازات المسيلة للدموع قد نفذت لديه وأن الوضع يكتسي خطورة شديدة تستوجب استعمال مادة الرش وطلب الإذن له وذلك عبر إعلام المدير العام للأمن العمومي إلا أنه لم يتلق الجواب سواء بالإيجاب أو السلب، في الأثناء، بادر كلّ من بلال الهمامي وأحمد الجواني باستعمال البندقيتين دون إذنه".

ولكن، حسب ما ورد في اللائحة، تراجع في أقواله "بعد أن تمت معارضته بتصريحات بالمنسوب اليه الانتهاك بلال الهمامي وأكّد أنه فعلًا هو من سلّمه بندقية الصيد إلا أنه لم يمكّنه من ذخيرتها ورجّح أنه قد استغل فرصة عدم تواجده بالقرب من السيارة فأخذ جانبًا من الذخيرة التي كانت متواجدة بالكرسي الخلفي لقمرة القيادة بمعية بندقية الصيد الثانية وأضاف أنه لم يقم بتسليم البندقية الثانية إلى أي كان ولم يأذن باستعمالها. ورجّح أن يكون الملازم أول أحمد الجواني من قام باستعمالها لأنه شاهدها لديه أثناء المواجهات مع المتظاهرين دون أن يكون متأكدًا إن كان بصدد استعمالها أم لا كما شاهدها لديه داخل منطقة الأمن الوطني بعد نهاية المواجهات".

تفاصيل خطيرة في التقرير الباليستي

بالاعتماد على زيارات ميدانية وتقارير الخبراء، كشف تقرير بالسيتي، أعدته هيئة الحقيقة والكرامة، أنه تم استعمال ذخيرة مصنّفة انشطاريّة وهي محرّمة دوليًا بحسب قانون الأمم المتّحدة لسنة 1980، بالإضافة إلى اعتماد عيار 12 وهو نفس العيار الذي يخوّل استعمال الرصاص المطاطي الأقلّ خطورة من مسافة تقلّ عن 10 أمتار وهو يكون قاتل لأنّه يمسّ الأعضاء الحيوية ويصيب الطلق الواحد أكثر من جسم بسبب الانتشار، وتم بمقتضاها إدراج نوع جديد من الذخيرة في عمليّات حفظ النظّام ومكافحة الشغب في خرق للضوابط الإجرائية والقانونيّة.

رسم توضيحي لانتشار كرات الرصاص حسب المسافة في التقرير الباليستي (خاصّ/ألترا تونس)

 

وكانت الإصابات بحسب التقرير من مسافات قريبة وهي في معظمها إصابات فرديّة. وكانت تستهدف زاوية الرّماية فردًا بعينه أي أنّ الرّمي كان مباشرًا مما يؤّكد أنّ الأعوان لم يكونوا في حالة دفاع شرعي عن النّفس. كما كشف ثبوت استعمال الغاز المسيل للدموع أثناء وبعد إطلاق الرّش "مما ينفي فرضية اللجوء للرش بعد نفاذ الغاز".

وبيّن التقرير "الطابع العشوائي لاستعمال الرّش وفي وضعيّات لا تتوفر فيها شروط الدّفاع الشرعي عن النفس ولا واجب حماية مقرّات السيّادة والمرافق العموميّة" مبينًا أن أن الأعوان الماسكين لبنادق الرّش هم من الشبّان في حين أن استخدام مثل هذا النوع من الأسلحة يتطّلب خبرة ومستوى عالي من ضبط النّفس والتدريب، حسب ما جاء في التقرير نفسه.

هل يُنصف الضحايا في يوم ما؟

تتحسّس سعاد طعم الله عشرات حبات الرش التي ما تزال منذ 8 سنوات تتحرك في جسدها بملمسها الصلب تحت جلدها. لم تكن السيدة الستينية مشاركة في المظاهرة يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، تروي لـ"الترا تونس" أن عونًا ملثمًا نزل من سيارة شرطة أطلق عليها وعلى ابنتها صابرين السلامي "الرش" عندما كانتا تغادران لشراء الخبز، وأصابهما على مستوى الصدر والرقبة والأطراف.

تتحسّس سعاد طعم الله عشرات حبات الرش التي ما تزال منذ 8 سنوات تتحرك في جسدها (رجاء غرسة/ألترا تونس)

 

لم يعد بإمكان سعاد ممارسة عملها الاعتيادي في الفلاحة، ولم تعد تحتمل وطأة الحرارة في جسده، حتى إن حبات الرش تواصل الحركة وبلغت إحداها كليتها وهي تعاني مضاعفاتها لليوم.

سنوات من الانتظار بعد الحادث، وعناء التنقل من سليانة إلى الكاف على ضعف حالها، لن تثنيها من مواصلة متابعة الجلسات القضائية وصولًا للقصاص ومساءلة المتهمين. هو أمل خافت لدى الضحايا الستة عشر الذين ألقوا بأجسادهم على الكراسي في قاعة الجلسة ينتظرون افتتاحها.

لم يعد بإمكان سعاد ممارسة عملها الاعتيادي في الفلاحة، ولم تعد تحتمل وطأة الحرارة في جسده، حتى إن حبات الرش تواصل الحركة وبلغت إحداها كليتها وهي تعاني مضاعفاتها لليوم

وبفعل سلاح "الرش" تتدهور الحالة الصحية للمصابين يومًا بعد يوم، ولا تبدو نتائج القضية التي رُفعت منذ الأحداث مرضية لأي منهم حتى أنهم فقدوا أثرها منذ ختم الأبحاث فيها قبل سنتين وفق ما أكده عدد ممن التقاهم "ألترا تونس". ولكن بدا خطاب القاضية، في القضية المُحالة من هيئة الحقيقة والكرامة، محفّزًا وهي التي تعهّدت بالحزم والحسم حاثة الضحايا على الثقة في القضاء والتعاون معه ضمانًا للحقوق.

حضر الجلسة أيضًا الضحية أمين اليهبي الذي أكد أنه لم يكن مشاركًا في الأحداث لكنه تعرّض يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني إلى الدهس بسيارة أمنية مما أدى إلى خلع مرفقه الأيسر وكسر بالركبة اليمنى وإصابة بالعين اليسرى وأخرى على مستوى الرأس. رسم على الشفاه ابتسامة مبهمة ولوح بكفه قائلًا: "لا أدري كيف ستسير الأمور، وما عدت أدري إن كنت وهؤلاء سأتوصل إلى نتيجة تذكر بعد هذه السنوات".

هيئة الحقيقة والكرامة أكدت في تقريرها بالخصوص أن قوات الأمن استعملت في عديد المناسبات العنف بطريقة غير مبررة ودون احترام قانون 69 حول التدرج في مواجهة الاحتجاجات. وخلال السنوات الثمانية الماضية، ألقى البعد السياسي بظلاله على قضية أحداث الرش التي يدفع ضحاياها ضريبتها من صحتهم كل يوم دون أن يظفروا بمتابعة جادة لتطور حالتهم الصحية والنفسية خاصة وان أثر الحبوب المتناثرة في أجسادهم أتت على حاسة البصر لدى أغلبهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد.. تعثر التفعيل

السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية